ترجمة: بدر بن خميس الظّفري -

حين بدأتُ قراءة كتاب غراهام ماكلين (الزعماء الفاشلون: تاريخ اليمين المتطرف في بريطانيا) (2020)، لم أكن أدرك كم سيغدو هذا الكتاب ذا صلة وثيقة بالواقع الراهن؛ فبريطانيا تشهد منذ أشهر احتجاجاتٍ أمام الفنادق التي تؤوي طالبي اللجوء، فيما تُرفع أعلام القديس جورج والاتحاد البريطاني بشكلٍ استفزازي في المدن والبلدات.

وفي مسيرة «اتّحدوا من أجل المملكة» التي نُظّمت الشهر الماضي في لندن، أعلن الخطباء أنّ الإسلام لا مكان له في أوروبا، وسط صمتٍ شبه تامّ من الحكومة العمالية.

كانت المسيرة تبدو، للوهلة الأولى، استعراضًا للوطنية البريطانية، لكن أعلام إسرائيل ظهرت هناك أيضًا، بينما كان المشاركون يوجّهون شتائم بذيئة ضد المتظاهرين المؤيدين لفلسطين. وفي مشهدٍ غريب، مزّقت مجموعة ماورية (من السكان الأصليين في نيوزيلندا) تنتمي إلى كنيسة مسيحية متشدّدة علم فلسطين وسط هتافات الجمهور، في تناقضٍ تامّ مع موقف غالبية الماوريين المؤيد للقضية الفلسطينية. غير أن ذلك ينسجم مع الموقف المؤيد بشدّة لإسرائيل الذي يتبنّاه منظم المسيرة تومي روبنسون (واسمه الحقيقي ستيفن يكسلي-لينون).

وقد دُعي روبنسون مؤخرًا إلى زيارة إسرائيل من قبل وزير شؤون الشتات الإسرائيلي أميخاي شيكلي، وهي زيارة أدّت إلى تأجيل محاكمته الجارية بتهمٍ تتعلق بالإرهاب. هذا التقارب الذي يرعاه شيكلي مع شخصيات يمينية متطرفة كروبسون، يعكس تحوّلًا عميقًا خلال العقدين الماضيين، فالأحزاب والحركات التي كانت في الماضي تحتقر إسرائيل بدوافع معادية لليهود، وكانت أحيانًا تُبدي تضامنًا مع الفلسطينيين، أصبحت اليوم تُظهر دعمًا متزايدًا لإسرائيل. هذا التحول، الذي يمكن تتبّعه في كتاب الزعماء الفاشلون، يكشف الكثير عن طبيعة السياسة اليمينية المتطرفة، والإسرائيلية كذلك.

نظريات المؤامرة العنصرية

منذ ذروة الفاشية في ثلاثينيات القرن العشرين حتى زمن الجبهة الوطنية والحزب الوطني البريطاني في سبعينيات وتسعينيات القرن الماضي، لم يكن ما يُسمّى «العداء للصهيونية» لدى اليمين المتطرف سوى ستارٍ لعدائه لليهود، لا دفاعًا عن الفلسطينيين، فقد استندت تلك الجماعات إلى كتاب بروتوكولات حكماء صهيون، المعروف منذ زمن بعيد بأنه ملفّق، لتروّج لفكرة مؤامرة يهودية للسيطرة على العالم. هذه الأكذوبة المقتبسة من النازية، لا قضية فلسطين ولا سلب أرضها، كانت ما يقصدونه «بـالصهيونية».

ومع ذلك، كان بعض المتطرفين اليمينيين يوجّهون أنظارهم إلى فلسطين بين الحين والآخر. ففي عام 1938، أثناء الثورة العربية الكبرى ضد الحكم البريطاني، أصدر آرنولد ليس، مؤسس «الرابطة الفاشية الإمبراطورية»، كتيّبًا بعنوان الشر في الأرض المقدسة. وبالنسبة إلى ليس، لم يكن تحيّز السياسي المعروف أوزوالد موسلي ضد اليهود كافيًا. فجاء كتيّبه خليطًا من نظريات المؤامرة العنصرية، بالكاد يذكر حقّ الفلسطينيين في أرضهم. وأنهى الكتيّب برسمٍ واضحٍ للنازية، الصليب المعقوف، ليدلّ القارئ على موقعه الفكري.

كانت عدائية اليمين لإسرائيل على هذا النحو تقف على النقيض من تأييد اليسار المبكر «للدولة اليهودية». فقد سعت إسرائيل آنذاك إلى كسب التعاطف الليبرالي، مقدِّمةً نفسها كدولة «اشتراكية» يبنيها شعبٌ خرج لتوّه من أهوال المحرقة عبر تجربة الكيبوتس (المزرعة الجماعية). لكن ذلك مثّل نقطة عمى خطيرة لدى اليسار في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، إذ كانت الكيبوتسات قائمة على أراضٍ فلسطينية صودرت من أهلها الذين تحولوا إلى لاجئين.

ظلّ ادعاء اليمين المتطرف بأنه «معادٍ للصهيونية» قائمًا لعقود. وكما يشير ماكلين، فقد رفعت الجبهة الوطنية في أوائل الثمانينيات شعارًا يقول: «بريطانيا للبريطانيين، وفلسطين للفلسطينيين». لكن هذه العبارة كانت هامشيةً تمامًا في خطابهم الذي ركّز أساسًا على الدعوة لطرد المهاجرين من أصول إفريقية وجنوب آسيوية. وعلى الرغم من أن اليمين المتطرف كان يشيطن المهاجرين بسبب لونهم وأصولهم، فإن الدين لم يكن حاضراً في خطابه كثيرًا في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين.

ويذكر ماكلين في كتابه أن جون تيندال، مؤسس الحزب الوطني البريطاني، قال لأنصاره إنه لا يرى في الإسلام «أي تهديدٍ لبريطانيا»، بل في «المجموعات العرقية التي تجلبه معها.»

تحوّل المشهد السياسي

في المقابل، كانت السياسة الإسرائيلية تشهد تحوّلًا آخر. فبحلول عام 1967، تخلّت إسرائيل عن أي ادعاء بالتقدّمية، وأقامت علاقاتٍ وثيقة مع نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، وهو النظام الذي كان موضع إعجابٍ لدى ناشطي اليمين المتطرف في بريطانيا لما يمثله من تفوّقٍ للعرق الأبيض.

ومع ذلك، ظلّت صورة الكيبوتس المثالية تجذب الليبراليين الغربيين حتى تسعينيات القرن الماضي. وفي الوقت ذاته، كانت سياسات الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، والموقف اليساري لمنظمة التحرير الفلسطينية، تولّد موجة دعمٍ متنامية للقضية الفلسطينية في أوساط اليسار البريطاني والعالمي.

أما اليمين المتطرف، فقد كان هو الآخر يتغير. ففي تسعينيات وألفينات القرن، أُقصي الجيل القديم من القادة مثل تيندال، ليحلّ محلّهم زعماء كـنيك غريفين زعيم الحزب الوطني البريطاني، الذين حافظوا على الجذور الأيديولوجية نفسها لكنهم حاولوا إخفاء صورة النازية وإنكار المحرقة.

كان غريفين أحيانًا يتحدث عن «العداء للصهيونية»، لكنه في الواقع وجّه اهتمامه نحو كراهية الإسلام والمسلمين، خاصة بعد «الحرب على الإرهاب» وغزو أفغانستان والعراق. ولم يرَ تناقضًا بين عدائه للمسلمين وتخفيفه لهجته تجاه إسرائيل أو حتى معاداته التقليدية لليهود.

وينقل ماكلين عن غريفين قوله إنه شعر «بـالارتياح» لأن وجود إسرائيل، نتيجة تهجير الفلسطينيين، يعني أن عددًا أقل من اليهود يعيش في بريطانيا وأوروبا.

وقد أثبت تركيزه على الإسلاموفوبيا أنه تكتيك فعّال. فبعد أن وصف الإسلام بأنه «ديانة شريرة وخبيثة»، ظهر غريفين في برنامج كوِشْن تايم على هيئة الإذاعة البريطانية عام 2009، وفي الانتخابات العامة لعام 2010 حصل حزبه على أكثر من 560 ألف صوت (نحو 2٪ من الأصوات)، وهو أفضل أداء انتخابي لليمين المتطرف في تاريخه، قبل أن ينهار الحزب لاحقًا انهيارًا مدويًا.

في تلك الفترة كان تومي روبنسون، العضو السابق في الحزب نفسه، يتهيأ لتصدّر المشهد عبر تأسيس رابطة الدفاع الإنجليزية، التي جعلت من عداء الإسلام قضيتها المحورية. فبعد أن كان اليهود في الخطاب القديم يُتَّهمون بالمؤامرة العالمية، صار العالم يُصوَّر الآن ساحةَ صراعٍ بين «الحضارة الغربية» و»الإسلام.»

ومع تركيز روبنسون هجماته على مسلمي بريطانيا، توطّدت علاقته بإسرائيل أكثر. ففي عام 2016، زار البلاد وشمل برنامجه المستوطنات غير القانونية في الضفة الغربية وهضبة الجولان المحتلة، وخلال المجازر الإسرائيلية في غزة، ضاعف روبنسون من خطابه العدائي واصفًا المظاهرات المؤيدة لفلسطين في لندن بأنها «استيلاء على عاصمتنا»، وها هو اليوم في زيارة جديدة لإسرائيل.

من منظورٍ تاريخي، يظهر أن ما يُسمّى «حب اليمين المتطرف لإسرائيل» لا يمتلك جذورًا عميقة؛ إنه زواج مصلحة مؤقت بين ناشطي اليمين الذين خرجوا من ثقافة سياسية غارقة في معاداة السامية، لكنهم وجدوا في معاداة الإسلام هدفًا مشتركًا أقرب إلى مصالحهم. أما الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، فقد رحّبت طوعًا بأن تصبح بلادها رمزًا يتجمع حوله العنصريون والمعادون للمسلمين في أنحاء العالم. ومن هنا يتضح أن رؤيةً واحدة قائمة على تفوق العرق، وعلى ازدراء الآخر، هي التي جعلت من خصوم الأمس أصدقاء اليوم.  

غابرييل بولي مؤرخ وكاتب وناشط. حاصل على دكتوراه في دراسات فلسطين، وصدر له عام 2022 كتاب «فلسطين في العصر الفيكتوري».

الترجمة عن عن ميدل إيست آي 

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الیمین المتطرف فی بریطانیا

إقرأ أيضاً:

عاجل | وزير الخارجية الأميركي: قوة الأمن الدولية بشأن غزة يجب أن تتكون من الدول التي تشعر إسرائيل بارتياح تجاهها

وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو:

هناك صعوبات في تطبيق اتفاق غزة لكن هناك أيضا أسباب تدعونا إلى التفاؤل. يجب على إسرائيل وحماس الالتزام باتفاق وقف إطلاق النار في غزة. يجب التنسيق مع كل المنظمات الدولية والجمعيات الخيرية بشأن توزيع المساعدات بغزة. ننسق مع مختلف الأطراف بشأن القوة الدولية المزمع نشرها في غزة. لم يتم تشكيل القوة الدولية المزمع نشرها في غزة ودول كثيرة عبرت عن رغبتها في المشاركة. نعمل على خلق الظروف المناسبة لعمل القوة الدولية المزمع نشرها في غزة. قوة الأمن الدولية بشأن غزة يجب أن تتكون من الدول التي تشعر إسرائيل بارتياح تجاهها. نعمل على خلق الظروف التي تضمن عدم تكرار ما وقع في 7 أكتوبر. علينا التأكد من صمود وقف إطلاق النار دون عراقيل ووصول المساعدات إلى محتاجيها. نعمل على إقامة قوة دولية للمحافظة على الاستقرار في قطاع غزة. نريد أن نساعد في خلق ظروف تساعد سكان غزة على حياة أفضل من دون حماس. إذا رفضت حماس نزع سلاحها فسيكون ذلك انتهاكا لاتفاق وقف إطلاق النار. نتوقع نزع سلاح حماس بالكامل ولا نريد أي تهديد لإسرائيل من المناطق التي توجد فيها حماس الآن. جميع الأطراف وافقت على عدم وجود دور لحماس في غزة مستقبلا. لن يتحقق السلام طالما هناك منطقة تهدد أمن إسرائيل والجميع يتفهم ذلك. على الجميع أن يفهم أن فرض السيادة على الضفة الغربية سيجعل دولا عدة تشعر بالقلق. فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية سيهدد عملية السلام وأعتقد أن أمرا كهذا لن يحدث. نريد أن تنضم دول إضافية إلى الاتفاقات الإبراهيمية.

التفاصيل بعد قليل..

مقالات مشابهة

  • خبير عسكري: إسرائيل تحول الخط الأصفر إلى خط قتال لإطالة احتلال غزة
  • المتحف المصري الكبير.. استفزاز في ليلة باريسية تحول إلى مشروع القرن
  • نتنياهو: إسرائيل حددت "القوات الدولية التي لا تقبلها" في غزة
  • نتنياهو: إسرائيل ستحدد القوات الدولية التي لا نقبل بوجودها
  • إسرائيل تحول غزة لمكب نفايات.. تفاصيل صادمة
  • الشهادة التي تهدد بقلب كل شيء رأسا على عقب في إسرائيل
  • اصطفاف داخل إسرائيل وتحرك لإسقاط اليمين المتطرف تمهيدا لانتخابات مبكرة
  •   وزير الخارجية الأميركي: على إسرائيل الموافقة على الدول التي ستشارك بقوة الاستقرار الدولية
  • عاجل | وزير الخارجية الأميركي: قوة الأمن الدولية بشأن غزة يجب أن تتكون من الدول التي تشعر إسرائيل بارتياح تجاهها