عِبْءُ التَّارِيخِ وَجَحِيمُ الذَّاكِرَةِ فِي الوَعْيِ السُّودَانِيِّ

د. وجدي كامل

في عام 1924 سنّ الإنجليز قانونًا يحرم الاتجار بالرقيق. وفي عام 2018 أثار النائب البرلماني بارود صندل جدلًا حول تقرير صادر من وزارة التنمية الاجتماعية يُقرّ بتوزيع أحد بنود مصارف الزكاة على “في الرقاب”، ما يعني استمرار الظاهرة في المجتمعات السودانية، وعدم إخضاعها للقانون، وخضوعها بدلًا من ذلك لسلطة قرار التحريم فقط.

وإذا ما كانت الدراسات والبحوث — ومن أهمها مؤلَّف سكرتير الحزب الشيوعي السابق محمد إبراهيم نقد الموسوم علاقات الرق في المجتمع السوداني — قد أشارت وفصّلت قِدَم الظاهرة منذ الممالك النوبية واتفاقية البُقط التي تضمَّنت العبيد كبضاعةٍ تجارية، واستمرار ذلك عبر مملكة سنّار التي شكّلت فيها تجارة الرقيق ضلعًا اقتصاديًا بارزًا، فإنّ هذا كله يؤكد فعالية الظاهرة وعمقها التاريخي.

لقد استمرت علاقاتها الاجتماعية والثقافية وأنساقها الإشكالية على مستوى السلطة السياسية كضميرٍ مستترٍ لكثير من حقائق التاريخ السياسي المعاصر في السودان، مما يُلزم مضاعفة الجهود البحثية والتوثيقية لفهمها بوصفها إحدى قلاع ثقافة الكراهية والعنصرية التي تستدعي التفكيك وفق آلياتٍ جديدة.

لفت محمد إبراهيم نقد النظر إلى حقيقة بالغة الأهمية تستوجب أخذها في الاعتبار البحثي حين وثّق مذكرة رفعها كلٌّ من عبد الرحمن المهدي وعلي الميرغني والشريف يوسف الهندي في 6 مارس 1925 إلى مدير المخابرات البريطاني، يعترضون فيها على قانون إلغاء الرقّ، قائلين:

“نرى أنّه من واجبنا أن نشير إليكم برأينا في موضوع الرقّ في السودان، بأمل أن توليه الحكومة عنايتها…”.

وذكر الزعماء الثلاثة بالنص:

“بما أنّ هؤلاء الأرقاء ليسوا عبيدًا بالمعنى الذي يفهمه القانون الدولي، فلم تعد هناك حاجة إلى إعطائهم ورقة الحرية، إلّا إذا كانت هناك حاجة إلى إعطائها لملاك الأرض الذين يعملون لديهم. وإنه لمن مصلحة كلّ الأطراف المعنية — الحكومة، وملاك الأرض، والأرقاء — أن يبقى الأرقاء للعمل في الزراعة”.

حتى وقتٍ قريب كانت العنصرية تعبّر عن نفسها بأوضح صورها عبر رموز سياسية، حين ألقيت تصريحات تنطوي على تبرير أو تجاهل لعنف وإساءات ارتُكبت في دارفور. وفي تسريباتٍ من مقربين ذُكر أيضاً أنّ بعض المسؤولين لم يستحوا من إطلاق كلمات مثل “عبد” و”خادم” على أشخاص في غيابهم.

ولا يليق هنا استعراض التاريخ الكامل لتجارة الرقيق في السودان — من الدويلات النوبية المسيحية إلى دولة الفونج الإسلامية، مرورًا بالدولة المهدية والحكم الثنائي — لكن الأرقام التي وردت في المؤلفات تشير إلى بيع ملايين السودانيين في أسواق النخاسة وتهجيرهم إلى بلدان شتى، منها مصر والهند وأمريكا والجزيرة العربية، لأداء الخدمة العسكرية والأعمال الشاقة والمهن الوضيعة، وبقائهم عبيدًا في تلك المِهَن.

ومن الظواهر التي تستحق النقاش اليوم الآثار الثقافية للرق والرقيق. فالتمكين الثقافي المعاصر لهذه الظاهرة يستند إلى معايير تمييزية عبر رسوخ مفاهيم تُنقص من قيمة الإنسان وتضعه أدنى السلم الاجتماعي. ومن بنية هذا التمييز تنتشر مفردات لغوية في الحياة الاجتماعية وفي الحكايات والأمثال الشعبية، مثل:

“سجم الحِلّة دليله عبد”

التي تعبّر عن احتقار قدرة ذوي البشرة السوداء على الإمساك بالسلطة أو الرأي.

وعلى الرغم من أنّ كثيرًا من الأمثال كان ينتجها أفراد من ذات لون البشرة، فإن تصورهم لهويتهم الخاصة كان ينزع، لسببٍ غامض، من السياق اللوني والهويات المتصلة به.

ولضبط الظاهرة وتعطيل آثارها على المجتمعات السودانية، يلزم إجراء بحوثٍ تاريخية معمّقة حول حواضنها الاجتماعية والثقافية وتشكّلاتها؛ وهو موضوع تناولته دراسات عديدة لكن بنطاق محدود. ففي الدراسات النقدية الداعية للتحرر من الظاهرة، يُشار إلى أن البناء الاجتماعي في المهدية كان يعترف بتجارة الرقيق التي تحوّلت — بعد قرون من الممارسة — إلى بنية ثقافية ومفاهيمية متجذرة، انعكست في بعض مؤسسات السلطة وحتى في أسماء وألفاظ الرتب والتقسيمات الحضرية.

وقد انعكس ذلك في التقسيم الجغرافي لأحياء مدينة أم درمان (حي العرب، حي الضباط، المسالمة، العباسية، الموردة، ود نوباوي)، حيث كانت التمايزات تُبنى في كثير من الأحيان على الأصل والنسب العرقي والجهوي.

ولا بد من الإشارة إلى أن الجذور الثقافية للظاهرة استمدت جزئيًا من مفاهيم في التراث العربي الذي أنتج أمثلة عنصرية صريحة، كما في هجاء المتنبي لكافور الإخشيدي حين قال:

“لا تشترِ العبد إلا والعصا معه، إن العبيد لأنجاسٌ مناكيد”.

وتظلّ مفردات مثل “سيد” و”عبد” و”حرّة” و”خادم” حاضرة في قاموس المخاطبة الاجتماعية إلى يومنا هذا.

فقدت الوطنية السودانية المتوخاة — عبر قرون — بعض أهم شروط قيامها، وبرز ذلك في صراعات تاريخية بدءًا من جمعية اللواء الأبيض وصراعات التيارات الأدبية مرورًا بجدل الهوية بين “عرب” و”أفارقة”، وتعمّقت الظاهرة في أزمنة وسياسات جعلت من العرق واللون معيارًا للتمييز، ما غذّى حركاتً وصراعاتٍ دموية استندت إلى موروثات ثقافية كريهة.

أما ثقافة الهامش فلم تقف سلبية أمام الإساءات، بل أنتجت هي الأخرى قاموسًا مضادًا وصيغ تمييزٍ مضادة — تسمي الآخر بقواميس مثل “الجلابة” و”المندكورو” — رغم أن هذه المسميات كانت في أصلها إشارات إلى أنشطة اقتصادية أو حرفية، ثم اكتسبت لاحقًا دلالات عدائية.

إنّ تخفيف الاحتقانات المتسربة عبر اللغة والمصطلحات يتطلب معالجة الضغوط السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية المسببة لها. وقد فاجأت ثورة ديسمبر 2019 طيفًا واسعًا من القوى التقليدية باندلاع جموعٍ وحدويةٍ طموحةٍ قطعت شوطًا في طرح بدائل سياسية واجتماعية.

شكّلت الثورة فرصةً ثمينةً للقضاء على منظومة الثقافة العنصرية المتبادلة، إذ كانت تنتظر جهازًا عدليًا يترجم مضامينها إلى قوانين، وجهازًا ثقافيًا يفتح الحوار بين مكونات المجتمع السوداني على نحوٍ جديد يتيح خلق تعارفٍ وطنيٍّ أمثل بين مكوّناته، التي ظلّت في اغترابٍ حادٍّ وطويل الأمد، وما نجم عن ذلك من سوء تعارف أدى إلى حروب وويلات وطنية فادحة. غير أن ذلك المشروع للتصالح والتعافي الوطني ذهب مع الحرب.

فالحرب المستعرة، أعادت إنتاج خطاب الكراهية والعنصرية واستثمرت في الإرث البغيض وروجت وصفات التقسيم والتفتيت.

إيقاف الحرب ضرورة قصوى، وبحث سبل التخلص من أسبابها السياسية والاقتصادية والعسكرية يَتصدر جدول أولويات الحوار الوطني المنشود؛ لكنّ فإن أي جهود عسكرية وسياسية ستظلّ ناقصةً إن لم تَصُحبها عملية شاملة للشفاء الثقافي والعمل بمتطلبات الدولة العلمانية الحديثة.

السودانيون، بعد هذه الحرب، سيحتاجون ليس فقط إلى إجراءات مصالحة مجتمعية، بل إلى صناعة تعارفٍ ثقافيٍّ جديد لا يمكن أن تنتجه مؤسسات الدولة القديمة أو وعيٌ سياسي تقليدي.

هو إنتاج دولةٍ ديمقراطيةٍ حديثة، واقتصادٍ قائمٍ على المعرفة، ومجتمعاتٍ تفاعليةٌ مع فكرة التنمية المتوازنة والعادلة، قادرة على استيعاب مستجدات العصر ومنتجات التقنية والمعلوماتية، تغذي الوعي الأهلي بفوائدها وتعرّف الناس بأساليبٍ تعينهم على صناعة واقعٍ جديد يلبّي طموحات الشعوب السودانية في التطور والحياة الآمنة والرغيدة والكرامة.

ولن يتحقق ذلك دون إعادة بناءٍ أخلاقي يداوي أثر سنوات الاستبداد والعنف ويستعيد الوعي من فضاء الإذلال والقهر والتعتيم إلى فضاء الحرية. إنه عمل مجتمعي طويل يتطلب إرادة وطنية جامعة، تعليمًا منقحًا، مؤسسات مدنية فاعلة، وسياسات تنموية منصفة تضع الإنسان السوداني في قلب المشروع الوطني تنتجه دولة مستنيرة ذات تأييد شعبي ساحق وحماية من الجميع.

الوسومالأنجليز الحزب الشيوعي السوداني الرق السودان الشريف يوسف الهندي الوعي السوداني بارود صندل د. وجدي كامل عبد الرحمن المهدي علاقات الرق في المجتمع السوداني علي الميرغني محمد إبراهيم نقد محمد علي باشا

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: الأنجليز الحزب الشيوعي السوداني الرق السودان الوعي السوداني عبد الرحمن المهدي علي الميرغني محمد إبراهيم نقد محمد علي باشا

إقرأ أيضاً:

منة شلبي وأحمد الجنايني يغيران حالتهما الاجتماعية إلى متزوجين

قام المنتج أحمد الجنايني، بتغيير حالته الاجتماعية من أعزب إلى متزوج، وأشار عبر حسابه الرسمي على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك إلى حساب زوجته الفنانة منة شلبي. 

وانهالت التهاني على المنتج أحمد الجنايني، وزوجته منة شلبي بعدما قاما بتغيير حالتهما الاجتماعية إلى متزوجين. 

زواج منة شلبي

وتصدرت الفنانة منة شلبي، مؤشرات البحث على محرك جوجل خلال الأيام الماضية؛ بعد تأكيدها لخبر زواجها من المنتج أحمد الجنايني. 

وتساءل الكثيرون عن فارق العمر بين منة شلبي، وزوجها أحمد الجنايني، فكلاهما عمره 43 عاما، ولكن الفارق بينهما بضعة أشهر فقط. 

أحمد الجنايني مواليد 2 نوفمبر عام 1982، بينما منة شلبي، مواليد 24 يوليو 1982، أي أن الأخيرة تكبره فقط بـ 4 أشهر و8 أيام. 

وكان ردّ منة شلبي على أنباء زواجها مؤخراً، وكونها أحدث عروس بالوسط الفني، غير قاطع، حيث قالت: "قولوا يارب".

منة شلبي

حضرت الفنانة منة شلبي حفل افتتاح وندوة تكريمها في مهرجان الجونة، يوم 16 أكتوبر الحالي، وذلك بعد منحها جائزة الإنجاز الإبداعي.

وفي ندوة تكريمها حرص العديد من الفنانين والمشاهير على الحضور، وكان في مقدمة الصفوف، المنتج أحمد الجنايني، الذي حرص على حضور ندوتها كاملة.

وعبّرت الفنانة منة شلبي عن سعادتها البالغة بحصولها على جائزة "الإنجاز الإبداعي" في مهرجان الجونة السينمائي، قائلة: "كلمة إبداعي كانت كبيرة بالنسبة لي، لأن جزءًا كبيرًا من عمري وحياتي مكرّس للعمل، فأنا أعمل منذ كان عمري 16 عامًا، ولو في أي ارتباط في حياتي فهو ارتباطي بالفن، أنا تزوجت شغلي طول عمري".

وأضافت منة شلبي خلال لقائها ببرنامج "الصورة" الذي تقدمه الإعلامية لميس الحديدي على شاشة "النهار": "كل دور عملته بمثابة ابني، أراعيه وأمنحه وقتًا ومساحة أكبر مما أمنحه لنفسي، منذ لحظة موافقتي على الفيلم وحتى نهايته، فهو بالنسبة لي مثل ابني".

طباعة شارك أحمد الجنايني المنتج أحمد الجنايني منة شلبي الفنانة منة شلبي زواج منة شلبي

مقالات مشابهة

  • منة شلبي وأحمد الجنايني يغيران حالتهما الاجتماعية إلى متزوجين
  • عاجل: تمويل الزواج من بنك التنمية الاجتماعية.. تفاصيل وشروط التقديم
  • الأرصاد تحذر سكان القاهرة والمحافظات المحيطة بسبب هذه الظاهرة
  • افتتاح مركز BNB HUB للتنمية الاجتماعية والشبابية
  • موعد صرف معاشات نوفمبر 2025.. رابط الاستعلام عبر موقع التأمينات الاجتماعية
  • وزيرة  الدولة بالرعاية الاجتماعية: المجتمع الدولي يتحمل مسؤولية ما يحدث في الفاشر
  • 28 عيادة بيطرية حكومية وخاصة تدعم الثروة الحيوانية في محافظة الظاهرة
  • حدث منتصف الليل| وزير الري يعلق على غمر أراضي طرح النيل.. وتحذير من الأرصاد بشأن هذه الظاهرة
  • 4 أذكار تغفر الذنوب ولو كانت مثل الجبال.. داوم عليها