التنازل عن السيادة.. التهجير كأداة للسيطرة
حيث تتقاطع السياسات الاستبدادية مع مصالح الدول الكبرى في قلب الشرق الأوسط، يبرز شكل مرعب من التهجير القسري والتنازل عن الأراضي الوطنية. تحت قيادة عبد الفتاح السيسي، النظام المصري لم يعد مجرد حارس للحدود، بل صار شريكا في تآمر يشبه إلى حد كبير السياسات الاستعمارية الإسرائيلية في فلسطين.
ففي مصر، يتم تهجير آلاف السكان من العريش في سيناء والوراق في القاهرة، بينما يتم التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير لصالح السعودية، وتُباع أراضي رأس الحكمة ورأس جميلة للإمارات والسعودية مقابل "استثمارات" وهمية.
هذه ليست مصادفات؛ إنها استراتيجية مدروسة للسيطرة على الموارد والأرض، مستوحاة جزئيا من نموذج الاحتلال الإسرائيلي الذي يهدم المنازل ويبني المغتصبات، ويجبر الشعوب على النزوح ويبرر ذلك بـ"الأمن" أو "التطوير".
لا تقتصر هذه السياسات على انتهاكات فردية، بل تشكل نظاما يدمر الهوية الوطنية. يُعد الهدم الواسع النطاق الذي يقع في شمال سيناء جرائم حرب محتملة، حيث دُمرت آلاف المنازل وأُجبر 45 ألف شخص على النزوح منذ 2013. وكشفت تحقيقات هزت الرأي العام في 2025 عن مقابر جماعية في العريش، تحتوي على مئات الهياكل العظمية لمدنيين قُتلوا ودُفنوا سرا من قبل الجيش المصري، في سياق حملة سميت "مكافحة الإرهاب" التي تحولت إلى إبادة جماعية.
هذا الواقع ليس بعيدا عن غزة، حيث دمرت إسرائيل آلاف المنازل ودفن الكثير تحت الانقاض وأجبرت ملايين الفلسطينيين على النزوح، مستخدمة الجوع كسلاح.
في هذه السطور، نحاول إزاحة الستار عن هذه السياسات المصرية، مستندين إلى أدلة من منظمات حقوقية دولية مثل هيومن رايتس ووتش وأمنستي إنترناشونال، وتقارير إعلامية موثوقة. سنقارنها بالاحتلال الإسرائيلي، لنكشف كيف أصبح النظام المصري شريكا في نفس الجريمة: بيع السيادة مقابل البقاء في السلطة. هذا ليس تحليلا أكاديميا؛ إنه صرخة واقعية تصدم الضمير، تذكرنا بأن الشعوب العربية تُباع مرة أخرى، في سوق الاستبداد الإقليمي.
التهجير في العريش: سيناء كساحة للإبادة الجماعية
تعد مدينة العريش حدودية في شمال سيناء، ليست مجرد نقطة جغرافية؛ إنها رمز للكرامة المصرية المفقودة.
منذ انقلاب 2013، تحولت سيناء إلى منطقة عسكرية مغلقة، حيث يُمارس الجيش سياسة التهجير القسري تحت غطاء "مكافحة الإرهاب". ففي تشرين الأول/ أكتوبر 2014، أعلن السيسي عن "خطة سيناء الشاملة" التي شملت هدم 1,220 مبنى في رفح المصرية، قرب العريش، وتهجير 2,500 عائلة دون تعويض أو إخطار مسبق. وصفت مؤسسة أمنستي إنترناشونال هذا التصرف بـ"التهجير القسري الجماعي"، مشيرة إلى أن السلطات استخدمت الدبابات والرصاص الحي لفرض النزوح، مما أدى إلى مقتل 7 مدنيين على الأقل.
لكن الصدمة الحقيقية جاءت في آذار/ مارس 2021، عندما كشفت هيومن رايتس ووتش عن هدم 3,200 منزل في العريش وحدها، وأُجبر أكثر من 20 ألف شخص على العيش في خيام تحت الرمال والحرارة القاسية.
يصف التقرير كيف يُحاصر الجيش المناطق، يقطع الكهرباء والمياه، ثم يهدم المنازل بجرافات ثقيلة، مستخدما القانون العسكري لمحاكمة السكان المحليين في محاكم عسكرية غير عادلة.
وفي كانون الأول/ ديسمبر 2024، أصدرت محكمة الإسماعيلية العسكرية أحكاما بالإعدام ضد 12 من سكان سيناء، بتهم "التعاون مع الإرهاب"، دون أدلة، مما ينتهك الحق في العودة إلى المنازل.
أما الأكثر رعبا فهو اكتشاف مقابر جماعية في أيلول/ سبتمبر 2025، حيث وجدت منظمة "التركيب المعماري الجنائي" (Forensic Architecture) مئات الهياكل العظمية في مقبرة جماعية قرب العريش، تشمل نساء وأطفالا قُتلوا ودُفنوا سرا من قبل مليشيات مدعومة من الجيش.
وأكدت الغارديان أن هذه المقابر تكشف عن "قتل غير قانوني واسع النطاق"، مع شهادات من مليشيات محلية تتحدث عن "تطهير عرقي" للبدو السيناويين. هذا ليس مكافحة إرهاب؛ إنها إبادة تدريجية، تشبه "النكبة" الفلسطينية حيث دُمرت قرى وأُجبر مئات الآلاف على النزوح.
الوقائع هنا صادمة: سكان العريش، الذين يعيشون على أرض أجدادهم منذ قرون، يُعاملون كأعداء داخليين. فحملات الجيش ضد أهلنا في سيناء، والتي أنفق فيها مليارات على جدران وأبراج مراقبة، لم تقضِ على الإرهاب كما زُعم بل زادت وتيرته، حيث انضم بعض المنفيين إلى "ولاية سيناء" التابعة لداعش. هذا التهجير ليس حلا؛ إنه جزء من استراتيجية لـ"تصفية" المنطقة لصالح مشاريع عسكرية أو صفقات حدودية، تماما كما تفعل إسرائيل في غزة.
الوراق: التهجير الحضري كسلاح للطبقة الحاكمة
إذا كانت سيناء تحولت لساحة حرب، فإن جزيرة الوراق في القاهرة تم تحويلها لساحة للاستبداد الحضري.
ففي تموز/ يوليو 2017، هاجمت قوات الأمن الجزيرة، مُهدمة لمئات المنازل وقاتلة لـ14 شخصا، في عملية وُصفت بـ"الإبادة الحضرية".
وثقت صحيفة الغارديان كيف استخدمت الشرطة الغاز المسيل للدموع والرصاص الحي ضد سكان يدافعون عن بيوتهم، في محاولة لـ"تطوير" الجزيرة إلى مجتمع حضري فاخر.
وحتى كتابة هذه السطور في تشرين الثاني/ نوفمبر 2025، يستمر التهجير يصاحبه اعتقالات للناشطين الذين يحتجون على "التصفية العقارية" للجزيرة من سكانها وما اشبه غزة بالوراق، وما النزوح في غزة عنا ببعيد.
يفصّل تقرير منظمة "تايمز إيجيبت للسلامة والحقوق" (TIMEP) في حزيران/ يونيو 2025 كيف أجبرت السلطات 50 ألف نسمة على النزوح دون تعويض، تحت ذريعة "إزالة المباني غير الشرعية"، رغم أن معظم السكان يملكون وثائق ملكية.
زارت المقررة ليلاني فارهة، المقررة الخاصة بالأمم المتحدة للحق في السكن، الوراق في تشرين الأول/ أكتوبر 2018، محذرة من أن هذه الإخلاءات تنتهك القانون الدولي، وتُشبه "التمييز الطبقي"، حيث يتم إعطاء امتياز للمستثمرين على حساب أصحاب الارض.
تكمن دائما الصدمة في التفاصيل: عاشت عائلات الجزيرة عقودا على أرضها، تعمل في مصانعها وأسواقها، أصبحت مشردة، تعيش في شقق مؤقتة بـ500 جنيه شهريا، بينما تُعد لها "مدينة جديدة" تُباع للأثرياء.
وفي آب/ أغسطس 2024، نشرت "ذا نيو أراب" شهادات سكان يصفون كيف دُمرت مساكنهم ومدارسهم، وكيف أصبحت الجزيرة "منطقة محظورة" للصحافة (ويذكرنا هذا الحظر الإعلامي بجزيرة القرصاية من قبل).
هذا التهجير ليس تطويرا؛ إنه سرقة، إنه احتلال، يُمول مشاريع لشركات مرتبطة بالجيش، مثل "المدينة الجديدة" التي أعلن عنها شريف إسماعيل في 2018.
ونجد أن اهل حي الشيخ جراح، حيث تهدم إسرائيل المنازل لصالح مستوطنين، نجد التشابه: في الوراق، الفقراء مصريون يُطردون لصالح "المستثمرين"، تماما كما في القدس الشرقية. هيومن رايتس ووتش أكدت في تقريرها عن "الفصل العنصري" الإسرائيلي الذي يُصنف كجريمة ضد الإنسانية، ويجب أن يُطبق نفس الوصف على مصر. الواقعية هنا مرعبة: الوراق ليست جزيرة؛ إنها قنبلة موقوتة للتمرد الشعبي.
تنازلات الأراضي: تيران وصنافير، رأس الحكمة، ورأس جميلة.. بيع السيادة بالجملة
نرى التنازل عن الأراضي هو وجه آخر للتهجير: ليس نزوحا قسريا، بل بيعا صريحا للوطن. ففي نيسان/ أبريل 2016، أعلن السيسي عن نقل سيادة تيران وصنافير إلى السعودية، بعدما كانت لمصر سيادة في هذه البقعة من خليج العقبة، في صفقة أثارت احتجاجات شعبية هائلة، ووُصفت بـ"خيانة السيادة". المحكمة الدستورية العليا أيدت الاتفاق في آذار/ مارس 2018، رغم أن الجزيرتين مصريتان لقرون سبقت كما أكدت الخرائط العثمانية، وتُسيطر عليهما بموجب معاهدة السلام مع إسرائيل.
ففي مقابل 22 مليار دولار من المساعدات او ما يسمى بالأرز السعودي، بيعت الجزيرتان، مما أثار مخاوف أمنية، إذ يمنح ذلك السعودية سيطرة على مضيق تيران، بوابة البحر الأحمر، وإعطاء حرية الحركة البحرية لإسرائيل في هذه النقطة المطلة على البحر الأحمر.
وتوالت التنازلات مقابل الحفاظ على الكرسي فجاءت رأس الحكمة في شباط/ فبراير 2024 كصفقة مع الإمارات بـ35 مليار دولار لتطوير 170 كيلومترا مربعا من الساحل الشمالي، تشمل تهجير آلاف البدو.
وثقت "ميدل آيست آي" مخاوف السكان، الذين يخشون "الإزاحة العرقية" لصالح منتجعات فاخرة، حيث ارتفع سعر الفدان إلى 300 ألف جنيه، وهو غير ميسور للبدو.
يمنح الاتفاق الإمارات 65 في المئة من الأرباح، بينما تحتفظ مصر بـ35 في المئة، لكن الثمن هو فقدان السيطرة على أرض استراتيجية، كما وثق بعض النشطاء عدم إمكانية المصريين التملك داخل رأس الحكمة ولو كان يحمل جنسية أخرى.
أما رأس جميلة، في جنوب سيناء، فقد عرضتها مصر للسعودية في شباط/ فبراير 2024، في صفقة محتملة بـ15 مليار دولار، كجزء من مشروع "نيوم".
أفادت وكالة رويترز بأن المنطقة، قرب شرم الشيخ، ستُطور كمنتجع سياحي، لكنها تشمل تنازلات حدودية مرتبطة بتيران. في أيار/ مايو 2024، عرضت السعودية سحب ودائعها من البنك المركزي المصري مقابل السيطرة على المنطقة، مما يجعلها "بيعا بالجملة".
هذه التنازلات ليست اقتصادية؛ إنها سياسية، تُمول نظاما فاسدا بالديون (مصر مدينة خارجيا بـ165 مليار دولار). كما في الاحتلال الإسرائيلي، حيث تبني المستوطنات على أراضٍ مصادرة، اما في وضع مصر تباع الأرض لـ"الحلفاء" العرب، مما يهدد السيادة الوطنية.
المقارنة مع الاحتلال الإسرائيلي: نفس السيف.. يد مختلفة
يعد الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين هو النموذج الأمثل لهذه السياسات: تهجير قسري، وهدم منازل، وبناء مستوطنات.
يصف تقرير هيومن رايتس ووتش في تشرين الثاني/ نوفمبر 2024 كيف أجبرت إسرائيل 1.9 مليون فلسطيني في غزة على النزوح، مستخدمة الجوع والقصف كأدوات، في انتهاك لاتفاقيات جنيف. كما أكدت منظمة أمنستي إنترناشونال أكدت في 2022 أن إسرائيل تمارس "فصلا عنصريا" من خلال نظامين: واحد للمستوطنين، وآخر للفلسطينيين، مع هدم 1,000 منزل سنويا في الضفة.
وفي مصر، "الأمن" يستخدم كل التبريرات (التهجير في سيناء كما في غزة، والتطوير الحضري في الوراق يشبه هدم الشيخ جراح). التنازلات عن الأراضي تشبه مصادرة الأراضي الفلسطينية للمستوطنات، حيث تُباع السيادة لـ"حلفاء".
يعتمد كلا النظامين على القمع: محاكم عسكرية في مصر، وقوانين طوارئ في إسرائيل، الفرق الوحيد هو أن إسرائيل تُدان دوليا، بينما يُغطى على مصر بـ"الاستقرار الإقليمي".
هذا الاقتراب صادم: النظام المصري، الذي يدعي النضال ضد الصهيونية، يقلد سياساتها، مما يجعله شريكا في جرائم الاحتلال.
ختاما: استيقاظ الشعوب، أم موت السيادة؟
التهجير المصري هو نسخة عربية من الاستعمار الذاتي. من العريش إلى الوراق، من تيران إلى رأس جميلة، يُباع الوطن، ويُجبر الشعب على النزوح.
الوقت حان للشعوب العربية أن تقاوم هذا التحالف الاستبدادي، قبل أن تُمحى هوياتها. السيادة ليست هبة؛ إنها حق يُدافَع عنه.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مدونات مدونات التهجير المصري سيناء مشاريع تيران وصنافير مصر سيناء تهجير مشاريع تيران وصنافير مدونات قضايا وآراء مدونات مدونات مدونات مدونات سياسة صحافة مقالات سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الاحتلال الإسرائیلی هیومن رایتس ووتش ملیار دولار على النزوح رأس الحکمة رأس جمیلة فی تشرین الذی ی فی غزة
إقرأ أيضاً:
“خذنا يا الله”.. صرخة تتجاوز حدود النزوح إلى مأساة إنسانية لا تجد صدى / شاهد
#سواليف
لم يكن مشهد #الطفل الغزّي الذي وقف تحت #المطر منكمشًا داخل خيمته الممزقة وهو يردد ببراءة موجوعة: “خُذنا يا الله” مجرد #صرخة_طفل مذعور؛ بل كان تلخيصًا مكثفًا لانهيار إنساني تعيشه #غزة مع أول منخفض جوي، حيث لم تعد السماء تمطر ماءً فقط، بل فواجع جديدة فوق #معاناة عامين من #الحرب_والنزوح.
كلمات الطفل التي هزّت شبكات التواصل لم تكن نداء يأسٍ فرديًا، بل صدى لصرخات مئات آلاف #الأطفال الذين غمرت المياه خيامهم، وجرفت معها ما تبقى من أغطية ومقتنيات ومأوى بالكاد كان يقيهم قسوة الأيام.
ويعكس المقطع الذي تداوله رواد شبكات التواصل حجم الألم الذي يعيشه #النازحون داخل #الخيام التي تحولت إلى برك من #الطين إثر الأمطار الغزيرة التي ضربت قطاع غزة خلال اليومين الماضيين.
مقالات ذات صلةتخيل أن يصل الحال بطفل ليقول "يا الله خذنا"
هذه اصعب فصول الابادة الصامتة، ترك الناس تموت وتغرق وتمرض في خيام ممزقة. pic.twitter.com/KGOte0yPi5