لجريدة عمان:
2025-08-12@02:13:08 GMT

الجمال في الفن

تاريخ النشر: 5th, September 2023 GMT

تناولت في مقالي السابق مفهوم «الجمال الطبيعي»، وبينت كيف تكون صور الجمال في الكون دليلًا فلسفيًّا على وجود الخالق أو المصوِّر الأعظم. غير أن هذا الجمال على تنوعه وكثرته التي لا تُحصى، يختلف تمامًا عن الجمال أو الجميل في الفن الذي يُسمى أو يوصَف بأنه «موضوع إستطيقي»، أي موضوع يتم إبداعه وتأمله من خلال الإحساس الجمالي: فهو يتم إبداعه من خلال إحساس الفنان ورؤيته الفنية وأسلوبه الخاص في التعبير، وهو يتم تأمله من خلال المتذوق الذي يسترشد بعين الفنان ورؤية الناقد.

إن الاختلاف الواضح بين الجمال الفني والجمال الطبيعي هو اختلاف يعني ببساطة أن الفنان حتى حينما يتخذ موضوعًا طبيعيًّا جميلًا مستهدفًا تصويره في عمله الفني، فإنه لا ينقل الموضوع الطبيعي إلى نسيج لوحته أو تصويره الأدبي على النحو الذي يأتي عادة أو يكون عليه في الطبيعة: فما نجده على نسيج اللوحة إنما هو رؤية الفنان لمشهد الطبيعة وتصويره لهذا المشهد بالنظر إليه من خلال أسلوبه الخاص في الرؤية وفي التشكيل الفني وفي التعامل مع اللون ومع سطح اللوحة في النهاية؛ وهذه حقيقة لا جدال فيها. ولكن ما ينبغي أن نسلم به في الوقت نفسه باعتباره حقيقة لا تقبل الجدال أيضًا هو تلك الحكمة القديمة التي تقول لنا: «لا شيء ينتج من لا شيء»، أي «لا شيء ينتج أو يأتي من العدم»! وهذا يعني أنه ليس هناك فنان لم يتأثر بهذا الجمال الطبيعي ويتعلم منه: فمن هذا الجمال الطبيعي قد تعلم الفنان على الدوام التشكيلات اللونية البديعة وعلاقات الأشكال بعضها ببعض، وعلاقات الظل بالضوء، وغير ذلك كثير. وكل فنان قد تعلم ذلك من الطبيعة قبل أن يسعى إلى التعبير عنها بأسلوبه الخاص، وحتى قبل أن يسعى إلى تبديلها والثورة عليها من أجل التعبير عن فكرة أو رؤية ما ! هذه حقيقة لا جدال فيها، ليس فقط من خلال التأمل والنظر أو البرهنة، وإنما أيضًا من خلال ما يتبدى من خلال الوقائع والوثائق التي تطلعنا على مسار إبداعات الفنانين المجددين في أساليب الإبداع الفني؛ ذلك أن معظم الفنانين العظام قد بدأوا ممارسة الفن -مثل غيرهم- من خلال التعلم في مدرسة الفنانين السابقين عليهم؛ بل إن الفنانين الذين عمدوا في فنهم إلى تشويه الأشكال البشرية وغير البشرية في لوحاتهم، كما في التكعيبية وغيرها، كانوا على معرفة واسعة ودقيقة بالنحو الذي تكون عليه منظورات الأشياء وتشريح الأجسام في الطبيعة، ولكنهم أرادوا لنا أن ننظر إلى الأشياء والأجسام من منظور جديد يعبر عن دلالاتها، حتى إن كان ذلك من خلال تغيير وتبديل المنظور الذي تبدو عليه في الواقع. وعلى هذا يمكن القول إن أساتذة فن التصوير المعاصر الذين عمدوا إلى التشويه المتعمد للأشكال الطبيعية الجميلة، وللوجوه والأجسام البشرية، كانوا أيضًا أساتذة في فن التشريح وكانوا قادرين تمامًا على تصوير الجمال الطبيعي من خلال المنظور التقليدي التي تتبدى عليه الأجسام والأشكال في الواقع؛ ولكن هؤلاء الأساتذة لم يكن يشغلهم الجمال الطبيعي على النحو الذي يأخذ بمجامعنا في عالم الواقع والطبيعة، وإنما كان يشغلهم تكثيف التعبير والدلالة الجمالية، حتى إن كان ذلك من خلال تغيير العلاقات بين الأشياء والخطوط والتكوينات والأحجام، والتركيز على تكثيف المعنى والدلالة والتأثير الذي يمكن أن تحدثه اللوحة أو العمل الفني.

وإذا أضفنا إلى ما تقدم أن الفن قد يتمثل موضوعات قبيحة في الطبيعة والواقع الإنساني: كالحروب والدمار والشر والموت، وما إلى ذلك؛ فربما زاد ذلك من قناعتنا بما هنالك من اختلاف واضح يستدعي التمييز بين التعبير الجمالي في الفن وبين الجمال بمفهومه الطبيعي كما نجده من حولنا. ومع ذلك كله، فإننا لا ينبغي أن نتصور أن هذا التمييز يعني أن هناك قطيعة بين هذين النوعين من الجمال، ليس فحسب لأن الفنان يتعلم من الطبيعة على النحو الذي تقدم بيانه، وإنما أيضًا -وهذا هو الأهم- لأن الحدود بين الفن والطبيعة كثيرًا ما تتداخل في الإبداع الفني، خاصةً في الفن المعاصر. يتبدى ذلك بوضوح ومنذ عهد بعيد في فن البستنة أو تنسيق الحدائق Horticulture الذي بلغ ذروة تطوره في العصر الحديث، كما تمثل في حدائق فرساي التي أمر بإنشائها لويس الرابع عشر لتعبر عن رؤية سياسية وثقافية لمعنى الملوكية وسطوتها في ذلك العصر، وهي الحدائق التي تعبر عن آيات من الجمال الفني باستخدام عناصر هائلة من الجمال الطبيعي. ولقد تطور فن الحدائق الآن في عصرنا هذا، ولكن يظل الجمال الطبعي هو مادته الأساسية كما في حدائق الزن اليابانية، حيث تداخل الرؤية الفنية مع عناصر الطبيعة بهدف خلق تأثير جمالي ووجداني، وخلق شخصية معينة لفن البستنة تجعله مختلفًا عن نموذج الحدائق التقليدية المُهندَسة وفقًا لمبادئ التوازن والسيمترية. ولا شك في أن فن المعمار البيئي في عصرنا الراهن ينبغي أن يضع في حسبانه دائمًا كل تلك الحقائق حينما يقوم باستخدام الفراغ المحيط بالأبنية التي لها مكانة حضارية ودلالة مهمة في الدول التي تهتم بجماليات البيئات المُشيَّدة. والحقيقة أن هذا الموضوع المتعلق بفن الحدائق يستحق مقالًا آخر قائمًا بذاته.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی الفن من خلال ذلک من

إقرأ أيضاً:

الأفلاج والمدرجات بالجبل الأخضر .. حكاية إبداع وكفاح عماني مع الطبيعة

الناظر إلى تضاريس ولاية الجبل الأخضر الصعبة والجبال الشامخة في علوها وصلابتها، وجماليات المدرجات الزراعية، والأفلاج التي شقت على سفوح الجبال لسقي البساتين والمزروعات، تنعكس أمامه مشاهد كفاح الإنسان العماني، وبراعته وصبره في التعاطي مع الطبيعة وتذليل التحديات من أجل العيش والحياة بكرامة وعرق الجبين، وتوفير قوت يومه مما تجود به الأرض.

في الجبل الأخضر، تصنف الأفلاج بـ (العينية)، أي أن منابعها العيون المائية التي تنبع من الجبال، في تنصيف مغاير لمعظم الأفلاج في سلطنة عمان التي تصنف غالبيتها بالأفلاج (الداوودية والغيلية)، حيث شق لها المزارعون منذ الآف السنين، سواقي الأفلاج لتجري من منابعها لسقي المزروعات والأشجار التي زرعت في المدرجات، بطريقة هندسية غاية في الإبداع والتخطيط.

حكاية كفاح

حكاية شق الأفلاج وصنع المدرجات الزراعية على سفوح وقمم الجبل الأخضر، تروي سنين من العمل، توارثها أبناء ولاية الجبل الأخضر على مر السنين، لتضع أمام الأجيال حكاية الإنسان مع الطبيعة، وكيف أن الإنسان العماني كافح من أجل تطويع الطبيعة لظروف العيش، والاستفادة من طقس الجبل الأخضر المعتدل ليكون لوحة من الجمال على سفوح الجبال.

وقال حامد بن أحمد المياحي من سكان قرية العيينة بالجبل الأخضر: كل الأفلاج في الولاية (عينية)، مصدرها العيون المائية المنتشرة في الجبل، ومد الأجداد قبل آلاف السنين القنوات المائية من هذه العيون، لري المزروعات في المدرجات والمسطحات على الجبال، بطريقة هندسية تقف شاهد عيان إلى اليوم على براعة الإنسان العماني.

وأضاف: أتذكر قبل أكثر من 70 سنة عندما كنت أشارك آبائي وأجدادي في صيانة الأفلاج، وتأهيل المدرجات الزراعية، حيث كانت الطرق بدائية ولا نملك المعدات ولا الأدوات التي نحمل فيها المواد من حجارة أو تربة طينية، فقد كنا ننقل التربة الزراعية للمدرجات الخضراء والطين والحجارة على ظهورنا لصيانة الأفلاج وترميم المدرجات.

وأوضح أن العمل كان في السابق جماعيا، يشارك فيه الرجل والمرأة والأطفال، إذ يتكاتف الأهالي في كل شيء، فقد كنا نحمل الأتربة في (القفير) على ظهورنا، حتى الدواب كان لا يمكلها الجميع، ومن يملك دابة كان يستخدمها لجلب المواد الغذائية والاحتياجات الأساسية من نزوى وبركة الموز إلى قمم الجبل الأخضر، أما أعمال صيانة الأفلاج والمدرجات، فقد كان الإنسان فقط من يقوم بكل تلك الأعمال.

إرث تاريخي

وأكد المياحي أن ما يراه الناس اليوم من مدرجات زراعية خضراء وجميلة وأفلاج جارية تروي المزروعات، لم تصل إلى هذا الجمال لولا كفاح الأهالي وعملهم على إيجاد هذه الأفلاج والمدرجات والحفاظ عليها منذ آلاف السنين حتى اليوم، عبر الصيانة المستمرة والعمل على بقائها كإرث تاريخي وحضاري توارثته الأجيال جيل بعد جيل.

وأشار إلى أن هناك العديد من الأفلاج في الجبل الأخضر بينها أفلاج وادي بني حبيب وسيق والعين وأبوكبير، والشريجة ولعور، وفلج القنتي، حيث تسقي هذه الافلاج قرى الجبل الأخضر إضافة إلى العيون المائية، والشعاب.

نظام السقي

وقال المياحي: في قديم الزمان كان السقي عبر نظام (الصحلة)، وهو عبارة عن نظام يشبه المكيال تقاس به المدد التي يتم فيها سقي المزارع تقسيما بين القرى والبلدات، وفي الوقت الحالي تغير النظام بالوقت.

وأوضح أن الكثير من العيون جفت وبسبب جفافها توقفت الكثير من الأفلاج عن الجريان، وبين أن قلة الأمطار في السنوات الأخيرة أدت لجفاف العيون التي تعتبر المصدر الرئيسي للأفلاج.

وطالب المياحي الجهات المعنية بإنشاء مزيد من السدود للحفاظ على المياه والتغذية الرجعية للعيون المائية، التي بدورها تسهم في الحفاظ على المزروعات.

مزروعات وفواكه

وتطرق حامد بن أحمد المياحي إلى المدرجات الخضراء والاهتمام بالزراعة في الجبل الأخضر، وقال: حرص الأهالي في الجبل الأخضر عبر التاريخ، على زراعة أنوع من الفاكهة مثل الرمان والعنب والخوخ والمشمش والزيتون والتين، والورد ومحاصيل موسمية متنوعة لسداد احتياجاتهم الغذائية، موضحا أنه عبر السنين قام الأهالي بتطوير المزروعات من خلال جلب شتلات ذات جودة وإنتاجية أكبر.

وأوصى المياحي الشباب بالحفاظ على موروث الأجداد، مؤكداً أن الأفلاج والمدرجات الزراعية في الجبل الأخضر، واحدة من أهم الموروثات العمانية، وهي نتاج عمل الأجداد وبراعتهم الهندسية، وعلى الأجيال أن تواصل الحفاظ على هذا الموروث الأصيل، والعمل على بقائه للأجيال القادمة، مؤكداً أن على الشباب أن يعتاد على العمل والزراعة، والكسب من الأرض، وعدم الاعتماد على الوافد في كل شيء.. موضحا: أن هذا التاريخ الأصيل الضارب في القدم، لن يدوم إلا بأهله، والحفاظ على الأرض والزراعة والأنظمة المعقدة في صيانة المدرجات والأفلاج والعيون مسؤولية الأجيال.

مقالات مشابهة

  • “فضيل” يكافح الأوبئة بـ”الدراما”.. الفن مرآة الشعوب
  • غزة – إجمالي عدد شاحنات المساعدات التي دخلت خلال الـ15 الماضية
  • الجهاز الفني للمنتخب الوطني للناشئين يعلن القائمة الأولية لخوض المعسكر الإعدادي في عدن
  • مزارع عسير.. وجهة سياحية تجمع بين التنوع وجمال الطبيعة
  • تبيع الأوهام لا الجمال... متى تشنّ حرب حاسمة على دكاكين التجميل؟
  • «هواوي» تعزز إبداع الطلاب من خلال ورش الفن الرقمي
  • رئيس الأوبرا : مهرجان القلعة الدولي يجسد رسالة نشر قيم الجمال والإبداع
  • الأفلاج والمدرجات بالجبل الأخضر .. حكاية إبداع وكفاح عماني مع الطبيعة
  • مصدر مسؤول في الحكومة السورية عن مؤتمر قسد: إذ تستعيد هذه الخطوة نهج المؤتمرات التي سعت لتقسيم سوريا قبل الاستقلال فإن الحكومة السورية تؤكد أن الشعب السوري الذي أفشل تلك المخططات وأقام دولة الاستقلال سيُفشل اليوم هذه المشاريع مجدداً ماضياً بثقة نحو بناء ا
  • مصدر مسؤول في الحكومة السورية عن مؤتمر قسد: هذا المؤتمر خرق للاستحقاقات التي باشرت الحكومة السورية في تنفيذها بما في ذلك تشكيل هيئة العدالة الانتقالية وبدء أعمالها، ومسار الحوار الوطني الذي أطلقته الحكومة السورية في شباط الماضي والمستمر حتى إيصال البلاد إ