على طريقة الدولة العميقة بعهد مرسي.. 3 ظواهر تثير الجدل في مصر
تاريخ النشر: 25th, September 2023 GMT
بدت لافتة آثار ممارسات النظام المصري السياسية والاقتصادية والأمنية على أكثر من 105 ملايين مصري يعيشون في الداخل، وهو ما أكدته ثلاثة ظواهر اجتمعت متزامنة ورصدتها "عربي21"، كاشفة عما لحق بالمصريين من أضرار وعن احتمال وجود أياد تقوم بتعميق تلك الحالة لتضارب مصالحها مع السيسي، أو رغبة في الخلاص منه.
"على طريقة عهد مرسي"
الظاهرة الأولى، كشفت عنها مقاطع مصورة انتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي لشاحنات وسيارات نقل "تريلا" محملة بالطماطم والبصل والبطاطس -وصلت أسعارها مستويات قياسية- ويتم إلقائها على الأرض.
وذلك في ظاهرة تذكر المصريين بما حدث من "الدولة العميقة" في عهد الرئيس الراحل محمد مرسي، (منتصف 2012- منتصف 2013) من إلقاء للبنزين والسولار وغيرها من السلع الأساسية في الصحراء.
ويثير إلقاء حمولة الشاحنات المحملة بالطماطم والبصل والبطاطس، السلع التي تواجه نقصا حادا في الأسواق المحلية وارتفاعا قياسيا بأسعارها، التساؤلات حول وجود أطراف وراء الأمر، وتوجهات لتعطيش السوق ورغبة في تفاقم الأزمات وإثارة الشعب الغاضب.
شوفو البصل بيترمي ازاي
الناس مش معاها فلوس خلاص تشتري الكيلو ب ٢٥
#الحرية_لهيثم_خليفة#وصلصوتك #حازم_صلاح_ابواسماعيل #تسريبات\سجون_السيسي ????حملة وصل صوتك???? on Twitter — ????حملة وصل صوتك???? (@Wasal_Sotak2) September 21, 2023
"سرقة منظمة.. وثورة جياع"
الظاهرة الثانية، بدت لافتة عبر مقاطع مصورة انتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي لمصريين يقومون بالسطو على سيارات محملة بالبصل والبطاطس في طريقها إلى مدينة العبور شرق القاهرة، علنا في الشارع، وبشكل منظم.
تلك المقاطع اعتبرها بعض المتابعين مقدمة لثورة جياع في مصر، واصفين الحالة التي وصل لها المصريين بأنها "الشدة السيساوية"، محذرين من خطورتها وامتدادها لباقي أرجاء البلاد، خاصة وأنها تأتي في الوقت الذي تتزايد فيه معاناة المصريين وشكواهم من الجوع والفقر والغلاء.
البدايه !! يا ترى ايه النهايه.؟#الانتخابات_مسرحيه_هزليه#لا_بديل_عن_المقاومه Sherif Osman® on Twitter — ابن البلد هشام عبدالله (@abnalbl62532021) September 21, 2023
مشهد لا تراه إلا فى دوله ستواجه إحدى المصيرين :::
إما المجاعه
وإما ثورة الجياع #الشده_السيساويه أحلام on Twitter — أحلام (@egyptiandreams2) September 21, 2023
"صرخة نسائية.. تتحدى البطش"
أما الظاهرة الثالثة، كشفت عنها مقاطع مصورة انتشرت أيضا، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وهي لنساء مصريات غاضبات وباكيات يشتكين الفقر والحاجة، ومؤكدات أنهن لا يجدن الطعام، مطالبين نظام السيسي بقتلهن بدلا من ممارسة القتل البطيء بحقهن.
لو حابين تعملوا اباده جماعية وتموتونا دا احب على قلبنا لكن الموت بالبطئ دا مينفعش
#الحرية_لهيثم_خليفة#وصلصوتك #حازم_صلاح_ابواسماعيل #تسريبات\سجون_السيسي ????حملة وصل صوتك???? on Twitter — ????حملة وصل صوتك???? (@Wasal_Sotak2) September 21, 2023
"الناس جابت آخرها يا سيسي"
سيدة مصرية تشكو غلاء الأسعار وارتفاع معدلات الفقر شبكة رصد on Twitter — شبكة رصد (@RassdNewsN) September 21, 2023
الشعب المقهور فى عهد السيسي بتاع القصور #عباسكامل #وصلصوتك#ارحل\يا_فاشل ????حملة وصل صوتك???? on Twitter — ????حملة وصل صوتك???? (@Wasal_Sotak2) September 24, 2023
المثير، أن بعض تلك المقاطع لفتيات يبدو من حديثهن وملابسهن أنهن من طبقات غير فقيرة في المجتمع، ما يشير لوصول الأزمة حتى للطبقات الأغني في مصر، ما يدعو للتساؤل حول أسباب خروج النساء الغاضب متحديات البطش الأمني والاعتقال الذي طال مئات النساء طوال 10 سنوات.
وصلنا لمرحلة بنفكر ازاى نجيب الاكل
#الحرية_لهيثم_خليفة#وصلصوتك #حازم_صلاح_ابواسماعيل #تسريبات\سجون_السيسي ????حملة وصل صوتك???? on Twitter — ????حملة وصل صوتك???? (@Wasal_Sotak2 ) September 21, 2023
"أنت دست على الشعب يا سيسي"
صرخة فتاة مصرية بسبب غلاء الأسعار شبكة رصد on Twitter — شبكة رصد (@RassdNewsN ) September 22, 2023
احنا جالنا المرض من كتر التفكير انت بتعرف تنام ازاى #عباسكامل #وصلصوتك#ارحل\يا_فاشل ????حملة وصل صوتك???? on Twitter — ????حملة وصل صوتك???? (@Wasal_Sotak2 ) September 24, 2023
وتتزامن تلك المقاطع وتلك الظواهر مع وصول معدل التضخم السنوي في مصر إلى 39.7 بالمئة في آب/ أغسطس الماضي، في مستوى قياسي لم تصل له البلاد خلال نحو 4 عقود، فيما ارتفعت معدلات تضخم المواد الغذائية بنسبة 71.9 بالمئة، وفق جهاز التعبئة والإحصاء.
كما تأتي قبل أيام من الإعلان عن جدول إجراء الانتخابات الرئاسية التي يعول عليها السيسي، في الوصول للحكم لفترة رئاسية ثالثة حتى 2030، بينما تتزايد لهجة الرفض لدى المعارضة ولدى الكثير من المصريين، بحسب استطلاع رأي لم يتم الإعلان عن نتيجته النهائية قام به مركز "تكامل مصر"، واطلعت "عربي21"، على بعض مؤشراته.
"ليست مصادفة"
وحول دلالات اجتماع تلك الظواهر الآن، ودلالات تشابهها مع ما كان يحدث من "الدولة العميقة" بعهد الرئيس مرسي، قال الخبير في الشؤون السياسية والاستراتيجية الدكتور ممدوح المنير: "مؤكد مع اقتراب انتخابات الرئاسة هناك في أجنحة السلطة من لا يريد السيسي، ويسعى للتخلص منه".
وفي حديثه لـ"عربي21"، أضاف: "ليس بالضرورة أن يكون ذلك على أرضية مصلحة الوطن؛ ولكن ضمن إطار تضارب المصالح، أو تعبيرا عن مصالح خارجية أصبح السيسي يمثل عبئا عليها ، كبعض دول الخليج".
المنير، أوضح أنه "لذلك تظهر هذه المحاولات، في محاولة لرفع حالة السخط العام على السيسي، أو تحفيز الناس على الخروج ضده".
ويرى أنه "حتى نجمع أجزاء الصورة الكبيرة بشكل أفضل يمكن أن نضع هذه المشاهدات إلى جوار تسريبات السجون (من سجن بدر) وتسريب صور من القصور الرئاسية، مع ملفات الفساد وحتى إلى طائرة الذهب في زامبيا".
"انتهاءا بتصريحات إعلامية ضد السيسي، من شخصيات محسوبة عليه؛ لندرك أن هناك من يدير هذا كله، وليس من قبيل المصادفة، خصوصا أن كل هذه الأحداث في أوقات متقاربة ومتزامنة"، بحسب رؤية المنير.
"طرف غاضب حانق"
ولفت إلى أن "هناك تشابك مصالح داخل الدولة العميقة وخارجها، جعل بعضها غاضبا وحانقا على السيسي، يحاول تحريك مشهد مضاد له".
واستدرك قائلا: "لكن يبدو أنه لا يملك أوراق ضاغطة كبيرة حتى الآن، خصوصا وأن السيسي، يتحكم جيدا بمفاصل الجيش والأجهزة الأمنية، ويضع طبقات مختلفة من الحماية عليه".
وتوقع الباحث المصري، أنه "لذلك فهذا الجناح يحاول في المساحات المتاحة له، مثل (تسريبات، ومنصات إعلامية)، ويعتبر الانتخابات الرئاسية القادمة نقطة مهمة في معركته ضد السيسي".
ويعتقد أنه "لذلك ستستمر هذه المشاهدات، وتعلو وتيرتها الفترة القادمة، وندخل معركة صراع الأجنحة هذه مرة أخرى حتى انتهاء الانتخابات التي لا توجد مؤشرات حتى الآن على أننا سنرى نتيجة مختلفة عن سابقتها، وإن كنّا نتمنى ذلك".
"وليدة الصدفة أم مدبرة؟"
وفي تقديره لدلالات اجتماع تلك الظواهر الآن في مصر، قال رئيس المركز المصري لدراسات الإعلام والرأي العام " تكامل مصر"، الباحث مصطفى خضري: "تلك الظواهر ربما كانت وليدة الصدفة وربما كانت مدبرة، فليس هناك دليل يرجح أيا منهما".
وفي قراءته للمشهد أضاف لـ"عربي21": "لكن حالة الاقتصاد المصري المنهارة؛ ربما تنسب تلك الظواهر لرد الفعل، حيث أن أكثر من ثلاثة أرباع المجتمع تحت خط الفقر -أقل من ٧٠ دولار للفرد شهريا- وليس هناك أفق لحل قريب، مع انتشار حالة من اليأس بين قطاعات المجتمع وعلى رأسها فئة الشباب".
الخبير المصري في قياس الرأي العام والتحليل المعلوماتي، يرى أنه "وبرغم ذلك لا يمكن الجزم بعدم استغلال أجهزة الدولة العميقة -التي تعادي السيسي- لتلك الظواهر عن طريق دعمها بالتغطية الإعلامية المكثفة".
وعن مدى تشابهها مع ما كان يحدث من الدولة العميقة في عهد الرئيس مرسي، قال إن "هناك فرق كبير، ففي عهد الدكتور مرسي، كانت جميع أجهزة الدولة العميقة تقف ضده، وبشكل فج وواضح وعنيف".
وأوضح أن الأمر وصل "إلى درجة فتح المجال أمام بعض المظاهرات المصطنعة والمدعومة من تلك الأجهزة لاقتحام قصر الرئاسة، ولم يتوقف الأمر عند تلك الأجهزة، بل كان تحالفا بين الدولة العميقة ودول إقليمية وغربية هدف إلى الإطاحة بأول تجربة ديمقراطية مصرية في العصر الحديث".
"صراع مصالح.. وتيار معارض"
خضري، يعتقد أن "ما يحدث الآن من صراع بين السيسي، وبعض الأفرع داخل الأجهزة السياسية؛ ما هو إلا صراع مصالح تغيب عنه أي قيمة للمواطن المصري الذي يحكمونه".
وأكد أنه "لا نستطيع التعميم، فهناك بعض القوى السيادية التي ترى في السيسي، عميلا لدولة عدوة، وبالتالي فهو عدو للدولة المصرية، وتحاول تلك القوى دعم التيارات المعارضة للسيسي من خلال التسريبات الخاصة التي تفضح السيسي وأبناؤه وحاشيته".
ويعتقد أنه "لو حدث تحالف بين تلك القوى السيادية المضادة للسيسي، وبين التيارات المعارضة التي تملك قوة حقيقية في الشارع وعلى رأسهم جماعة الإخوان المسلمين؛ فلربما لن يستطيع السيسي، أن يصمد أمامهم".
ولكن الباحث المصري، أكد أن "ذلك يصطدم بحالة من عدم الثقة بين الطرفين وهي التي تسيطر على المشهد، وبرغم ذلك يمكن أن يتخطوا هذه الحالة قريبا بضمانة إقليمية ذات مصداقية عند الطرفين".
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة مقابلات سياسة دولية المصري السيسي مرسي الدولة العميقة مصر السيسي مرسي الدولة العميقة سياسة سياسة سياسة تغطيات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الدولة العمیقة فی مصر
إقرأ أيضاً:
أفكار حول الجذور العميقة للأزمة السياسية البنيوية
كثيرا ما تُتّهم السلطات في العالم العربي بأنها ترفض التعددية والقبول بالاختلاف وبالتضييق على الأجسام الوسيطة الممثلة للإرادة الشعبية والتي ترفض القبول بدور الأجسام الوظيفية، بل إنها لا تعترف بشرعية تلك الأجسام فتتعامل معها باعتبارها خطرا على "الوطن/الأمة" لا على النظام فحسب. وهو اتهام يجد في الوقائع التاريخية والمعيشة ما يمنح القائلين به حججا صلبة سواء قبل "الربيع العربي" أو بعد انتكاسته.
وليس يعنينا في هذا المقال تحليل الفلسفة السياسية "المُهجّنة" لتلك السلطات -بالمعنى السلبي للهجنة وليس بمعناها الإيجابي في الدراسات ما بعد الاستعمارية- بل مقصدنا هو المحاججة على أنّ الأزمة ليست سياسية في جوهرها، بل هي أزمة ثقافية/قيمية، وهي بالتالي ليست مجرد أزمة عرضية في ثقافة السلطة/الحكم، بل هي أزمة في بنية الثقافة التراثية ذاتها وفي كل السرديات التي علمنتها دون أن تنجح في تجاوزها جدليا، وهو ما يجعل من أي "معارضة" للسلطة مجرد مشروع متخيل للإصلاح وللتحرير؛ سرعان ما يتحول واقعيا إلى مشروع استبدادي جديد تهيمن عليه أقليات دينية أو أيديولوجية أو عسكرية أو قبلية أو جهوية كما هو معلومٌ من استقراء واقع السلطات العربية.
في المجتمعات التقليدية -أي مجتمعات ما قبل المواطنة- كان الفرد لا يحضر في الفضاء العام ولا يعامل فيه باعتباره هوية ذاتية، بل باعتباره جزءا من هوية جماعية دينية. وكانت حقوقه وواجباته تتحدد بناء على ذلك الانتماء بصرف النظر عن موقفه الشخصي منه، كما كانت الانتظارات الاجتماعية منه -سواء من لدن السلطة أو من لدن جماعته الدينية- هي ما يُشكّل نسق ذاته فيكون كل انحراف عن تلك الانتظارات مؤذنا بالوصم الديني أو بالعقوبات السلطوية. ولكن ثقافة "المواطنة" -على الأقل في المستوى النظري- تفترض حصول تغييرات جوهرية في النسق الثقافي التقليدي وفي أبنيته الموضوعية، وهو أمر لا يبدو أنه قد حصل بصورة كافية تجعل من الخطابات الإصلاحية/التحديثية تتجاوز الدعوى حتى في أكثرها انتقادا لذلك النسق. ولذلك فإن انهدام الأطر الاجتماعية والاقتصادية التقليدية وتغيير الأنظمة التشريعية وظهور نخب جديدة غير تقليدية، كل ذلك لم يكن يعني الخروج من "الاستعارة الرعوية" وما يسندها من أنساق فكرية وأنماط مخيالية، بل كان يعني أساسا علمنة تلك الاستعارة وتغيير مركز الثقل فيها -أي المركز البشري- ببناء سرديات "رعوية" مرتبطة بأقليات دينية وأيديولوجية وجهوية وعسكرية وقبلية حاولت تأسيس شرعيتها على سرديات تراثية أو غربية من جهة أولى، وادعاء تمثيل الجسد الاجتماعي برمته -لا فقط تمثيل المصالح المادية والرمزية للأقليات التي تنتمي إليها- من جهة ثانية.
في تونس، كانت الدولة-الأمة على النمط البورقيبي مشروعا "تحديثيا" تحرريا جامعا في الظاهر، ولكنها كانت في جوهرها دولة استعمار جديد، أو دولة الاستعمار غير المباشر. كان خطاب السلطة ونخبها خطابا وطنيا ولكن خيارات النظام كانت خيارات جهوية-ريعية-زبونية لا علاقة لها بمكونات الوطن بجميع فئاته وجهاته. ورغم افتتان الراحل بورقيبة بالفكر الغربي وباللائكية الفرنسية والتنوير.. الخ، فإنه قد اختار أن "يُتَونس" الغرب بصورة تكرس الاستبداد الشرقي في صيغة شبه معلمنة شبه دينية. أما من جهة علاقته بالفكر الديني، فإن بورقيبة قد أراد أن يُظهر نفسه أصوليا "مقاصديا" في مستوى التشريع، وهو في الحقيقة مجرد مترجم سيئ للتشريع الفرنسي وجذوره اليهو-مسيحية.
ولعل أكبر دليل على فشل التحديث البورقيبي -في مستوى الأبنية الذهنية قبل المستوى الواقعي- هو أن "الزعيم" الذي قاد مشروعا لمحاربة الفكر التراثي قد حوّل نفسه إلى "شيخ" وحوّل أتباعه إلى "مريدين". وهو ما جعل الدولة بمختلف أجهزتها مجرد "زاوية/ خانقاه" كبيرة تسبّح بحمد الزعيم وتنفذ "توجيهاته" وتفسر خطاباته وتبرر سياساته حتى عندما تكون متناقضة، كما جعل عملية "التوريث" أو انتقال السلطة محصورة في الدائرة المقرّبة جهويا/أيديولوجيا من "الشيخ-الزعيم".
إن "الزعيم/الشيخ" لا يخطئ، وهو رئيس في الظاهر -رئيس للدولة مدى الحياة مثلما أن الشيخ شيخٌ للزاوية ما بقي حيا- ولكنه رئيس لم يستطع أن يقمع الشيخ فيه، فبنى ضريحه/مزاره ليتحول إلى رمز شبه-ديني عند أتباعه، كما تحولت سرديته إلى سردية شبه مقدسة بحيث يكون انتقادها مهددا للوحدة الوطنية ومفضيا إلى الوصم السياسي بالتطرف أو اللاوطنية.
ورغم أن بورقيبة لم يبرر حكمه بمنطق "الإرادة الإلهية" بل بمنطق النضال والاستحقاق، فإن الاستعارة الرعوية ظلت ملازمة لمنطق الحكم. فبورقيبة ليس راعيا، ولكنه أب لكل التونسيين، ولا يمكن للأبناء التمرد على أبيهم أو إنكار سلطته مدى الحياة، وهو ما يجعل من أي انتقاد له يتجاوز -من منظور السلطة- مستوى المعارضة إلى مستوى "العقوق"، خاصة عندما يكون "الشعب" بالنسبة للزعيم مجرد "ذرات بشرية" -كما أعلن هو نفسه- قبل أن يُشكّل منهم أمةً.
إن خطاب الدولة-الأمة هو خطاب علماني في مفرداته، ولكنه خطاب ديني/تراثي في بنيته العميقة. فالزعيم هو "الراعي" (والراعي وحده من يملك الحقيقة ويعرف مصلحة رعيته)، وهو "الأب" (والأب سلطة مقدسة لا تقبل المعارضة والتمرد)، وهو "صانع الأمة" (مما يجعل "الأمة" محكومة بـ"دَين أبدي" لا يمكنها تسديده إلا بالطاعة المطلقة). وإذا كان الخطاب الديني ينكر إمكانية أي "نجاة" أو "خلاص" من خارج "الدين الصحيح" و"الفرقة الناجية"، فإن خطاب الدولة الأمة ينكر هو الآخر إمكانية "الخلاص" (بعد علمنة المفهوم وحصره في "عملية التحديث") خارج خيارات "الزعيم".
رغم ضمور المعجم الديني عند أغلب النخب السلطوية والمعارضة على حد سواء، فإن عمليتي التحديث والعلمنة التي قادتها أقليات دينية وغير دينية لم تكونا في جوهرهما إلا استصحابا لروح المعجم الديني التراثي، لا المعجم الديني القرآني، كما لم تكونا إلا تشويها للمعجم الفكري الحديث حتى تحولت أغلب مفاهيمه إلى مفاهيم سيئة السمعة على حد تعبير المرحوم عبد الوهاب المسيري. فإرادة الله لم تخرج من التاريخ، ولكنها تعلمنت لتصبح هي "الإرادة الشعبية" أو "الحتمية التاريخية" أو "الواجب الوطني" أو "الإنقاذ" أو "التصحيح" "التحرير" أو "اللحاق بركب الدول المتقدمة" أو مقاومة "الرجعية والظلامية".. الخ. ولا شك عندنا في أننا أمام بدائل معلمنة للإرادة الإلهية، وأمام تخليق زائف لجوهر السلطة اللا شعبي واللا شرعي. وهي في تقديرنا بدائل تحتاجها "الأقليات" لبناء شرعيتها وللتغطية على دورها الحقيقي في أنظمة سايكس-بيكو، خاصة في هذه اللحظة المتصهينة للإمبريالية. ولكن هل تمتلك "المعارضات" فعلا مشاريع مختلفة عن مشاريع السلطات القائمة؟ وهل تخلص زعماء تلك المعارضات من الشيخ-الزعيم الذي لم يفارق أي حاكم مهما تعملن خطابه؟
إن الإجابة عن هذا السؤال بالنفي أو الإثبات تحتاج إلى مجهودات نظرية تتجاوز الفرد، ولكن تلك المجهودات يمكن أن تستأنس ببعض الأسئلة التوجيهية التي قد تساعد على تحييد الانحيازات التوكيدية للمشتغلين عليها. فهل تخلصت الثقافة العربية من منطق أحادية الحق؟ هل تتعامل النخب -بمختلف مرجعياتها الأيديولوجية- مع من تتوجه إليهم باعتبارهم مشاريع مواطنة أم باعتبارهم مشاريع رعايا؟ كيف يمكن بناء "مواطنة" دنيوية في ثقافة تضيق أخراها بجميع المختلفين دينيا، بل هي تضيق باثنتين وسبعين فرقةً من المنتمين إلى تراثها الديني ذاته وترمي بهم في النار؟ هل إن المعارضة هي معارضة لمنظومة الاستعمار الداخلي، أم هي في جوهرها معارضة لواجهاتها السياسية ورغبة في الاعتراف بها ضمن "الوكلاء المعتمدين" في أنظمة الاستعمار الداخلي؟ هل إن كيانات سايكس-بيكو أو ما يُسمّى بالدول الوطنية هي سقف ممكن للتحرر أم إنها عائق بنيوي يحول دونه؟ هل إن أصحاب السرديات الكبرى يستطيعون بناء مشروع تحرري جامع، والحال أن علة وجودهم ذاتها ترتبط نظريا بصراعاتهم الهوياتية وبمنطق التنافي والإلغاء المتبادل، وترتبط واقعيا بما يقدمونه من خدمات لأنظمة الاستعمار الداخلي أو بما يمثلونه من خطر استراتيجي على وجودها ذاته؟
إنها أسئلة تتجاوز المستوى السياسوي الصرف، ولكنها تُمثل -في تقديرنا- شرط انبثاق حقل سياسي أساس فاعليته النقد المزدوج للفكر/المخيال التراثي من جهة، وللتعريب المشوَّه/ المشوِّه للأنساق الفكرية الغربية من جهة أخرى.
x.com/adel_arabi21