في عهد طه حسين والعقاد ومحمد مندور وغيرهم من كبار المبدعين والنقاد، كانت هناك حركات نقدية أثرَت حياتنا الثقافية في مجالات الأدب والفن عمومًا، ويكفي أن نتذكر الجدال الذي كان يدور حول مشروعية قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، وهو ما أدى في النهاية إلى الاعتراف بهما ودراسة خصائصهما الإبداعية. مضى هذا العهد وجاء من بعد جيل من النقاد الأكاديميين ممن يدعون انتماءهم إلى الجيل الأول من الكبار، في حين أنهم كانوا أبعد ما يكونون عنهم، وعن الدور الذي كان يقوم به هؤلاء الكبار في واقع حركة النقد في ثقافتنا.
اتبع هؤلاء المدارس النقدية التي شاعت في الغرب من قبيل: البنيوية والسميوطيقا، وغيرها من المذاهب الشكلانية التي تسعى تأطير النص الأدبي من خلال أدوات تُعنى بدراسة العلاقات الشكلية في بناء النص ولغته من دون اهتمام بمعنى النص في علاقته بالحياة وبالوجود، أي من دون اهتمام بما يريد أن يقوله النص فيما وراء بنيته الظاهرية. افتتن هؤلاء بهذه المدارس النقدية وسعوا إلى تطبيقها على بعض النصوص الأدبية، حتى بعد أن خفت تأثير هذه المدارس في الغرب نفسه. ومن المدهش أن هؤلاء كانوا يفعلون ذلك حتى من دون معرفة وثيقة بالأصول الفلسفية لهذه المدارس النقدية؛ وهذا ما عرفته عن قرب من خلال صلتي بهؤلاء، بل إنني وجدتهم لا يعرفون شيئًا عن الاتجاهات الفلسفية التي أزاحت هذه المدارس مثل الاتجاه الفينومينولوجي وفلسفة التأويل؛ ومن ثم فإنني وجدتهم لا يعرفون شيئًا عن التعامل مع النص من حيث معناه وسياقه التاريخي وأهمية الحوار مع النص من دون تأطيره في مقولات نظرية ووفقًا لأدوات شكلانية. وهكذا فإن مثل هذا الناقد يذهب إلى النص وفي ذهنه أدوات مسبقة للتعامل معه، وكأنه يريد تقييده منذ البداية! ومن المدهش أيضًا أن هؤلاء الذين ذاع صيتهم في عالمنا العربي (وفي الخليج خاصةً) كانوا يفتقرون إلى الموهبة في تناول أي نص أدبي: فتجد ناقدًا من هؤلاء لديه حالة من الاستسهال في الكتابة بحيث يكتب كل أسبوع عن كل عمل أدبي يصدر في عالمنا العربي في نوع من الكتابة الصحفية التي تحتفي بكل شيء وأي شيء من دون انتقاء لما هو جدير بالنظر، ومن دون السعي إلى تأسيس موقف نقدي خاص. فترى هذا الناقد يسرد -على سبيل المثال- وقائع الرواية التي يتناولها؛ لكي يملأ الصفحة التي يكتبها! ما السبب في هذه الحالة المتردية التي سادت النقد في عالمنا العربي؟
السبب الأول -فيما أظن- هو أن هؤلاء النقاد يفتقرون إلى الموهبة التي تتعلق بالحس الجمالي: فالرأي عندي أن كل ناقد هو في النهاية مُبدع فشل في أن يكون مبدعًا لأسباب عديدة لا محل لذكرها هنا؛ ومن ثم فإنه يجب أن يكون لديه -على الأقل- تلك الحساسية الجمالية التي تُوجَد لدى المبدع. والسبب الثاني هو أن هؤلاء النقاد يفتقرون إلى الأصول الفلسفية لنظريات النقد الفني والأدبي التي يسعون إلى تطبيقها على النصوص الأدبية وغيرها، وتلك مسألة ربما تحتاج إلى شيء من التفصيل: ذلك أن نظريات النقد لا تنشأ من عدم، وإنما تنشأ من النظريات الجمالية؛ فالنظريات الجمالية تؤسس أصول النقد التي يرجع إليها الناقد في تناوله للأدب والفن بوجه عام؛ ولهذا فإن النظريات الجمالية (التي تنتمي إلى علم الجمال) توصف بأنها «نقد النقد»، أي أنها تناقش وتتناول نقديًّا المبادئ والأصول النظرية التي ينبغي أن يرجع إليها الناقد في ممارسته للنقد. ولكن هؤلاء النقاد الذين نتحدث عنهم هنا، ليست لديهم معرفة وثيقة بهذه الأصول، فضلًا عن افتقارهم للحس الجمالي، وهذا هو مناط أزمة النقد في عالمنا العربي طيلة العقود الأخيرة التي ربما تمتد إلى قرابة نصف قرن.
على أن الأزمة ليست مقصورة على النقد الأدبي، وإنما تمتد إلى نقد الفنون الأخرى، مثل: النقد السينمائي ونقد الفنون التشكيلية. ذلك أن النقد السينمائي المهيمن على واقعنا الثقافي هو في أغلبه مجرد كتابات صحفية سطحية رديئة. أما الكتابات في مجال نقد الفنون التشكيلية، فهي ضئيلة ونادرة للغاية، وهذا ما اكتشفته بحكم عضويتي في لجنة الجوائز في مجال نقد الفنون التشكيلية بمؤسسة فاروق حسني للثقافة والفنون. ولكن الجانب المضيء هنا هو أننا نحاول اكتشاف المواهب القليلة لدى جيل الشباب، بهدف تشجيعها، ومن أجل تكوين جيل من النقاد في هذا المجال.
وعلى هذا يمكن القول إن الصورة ليست قاتمة تمامًا؛ فهناك حالات فردية من النقاد في مجال النقد الأدبي في عالمنا العربي ممن هم على معرفة وثيقة بالنظريات الجمالية، حتى إنهم يدرسون الأعمال الأدبية باقتدار. وربما يليق في هذا الصدد أن أذكر المثال التالي: لقد وجدت أساتذة في المغرب العربي ممن تناولوا شعر أدونيس باقتدار وعمق بالغ، ومنهم على سبيل المثال: عمر بن حفيظ من تونس، وراوية اليحياوي من الجزائر، وخالد بلقاسم من مملكة المغرب. ولذلك فإن أدونيس عندما أهداني بعضًا من دواوينه لم أستطع أن أكتب عنها؛ لأنني أدركت أنني لا يمكن أن أتجاوز في عجالة هذه الكتابات الرصينة التي كُتبت عنه. ومع ذلك، فإن هذه الجهود الفردية في عالمنا العربي لا تزال غير قادرة على تشكيل حركة نقدية، وهو ما نطمح إليه في مستقبل ثقافتنا العربية.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: هذه المدارس أن هؤلاء من دون
إقرأ أيضاً:
قصور الثقافة تصدر كتاب التراث الشعبي بين النص والعرض لمحمود كحيلة
كتب- محمد شاكر:
صدر حديثا عن الهيئة العامة لقصور الثقافة برئاسة اللواء خالد اللبان، كتاب "التراث الشعبي بين النص والعرض" للناقد الدكتور محمود كحيلة، وذلك ضمن إصدارات سلسلة الدراسات الشعبية.
يجمع الناقد الدكتور محمود كحيلة في هذا الكتاب بين ثلاث ثنائيات، الأولى: ثنائية التراث الشعبي والمسرح، والثانية: النقد الأكاديمي والخبرة من الجمع الميداني، والثالثة: بين النص الأدبي المكتوب والعرض المسرحي، منطلقا من تصور أن البداية الحقيقية للعملية المسرحية هي الثقافة الشعبية ممثلة في الأساطير والسير والحكايات لأنها تقدم مسرحة للحياة، وأيضا كونها قضية تتعلق بتراث الوطن والحفاظ على هويته.
يختار الناقد نصوصا مسرحية، تأسست مادة صياغتها على الثقافة الشعبية، كما يرصد حضورها في محافظة الشرقية في المدة من 1995 إلى 2015، تلك المدة التي تميزت بوجود مسرح إقليمي حقيقي على الساحة المسرحية المصرية.
ويمتاز المسرح الشرقاوي بتجربة فريدة في تلقي المسرح ومشاهدة العروض المسرحية التي بدأت زيارتها إلى مدينة الزقازيق منذ أوائل القرن التاسعَ عشر، وهي البداية المبكرة التي تركت بصمتها على أبعد مكان في حدود المحافظة حيث وصل المسرح إلى التلاميذ في مرحلة التعليم الأساسي، فقدمت مسرحيات تمزج بين الدرس والتراث.
وتدور قضايا هذا الكتاب حول أربعة محاور، هي: التراث الشعبي والمسرح في محافظة الشرقية امتدادا للعلاقة الأبدية بين المسرح والتراث، والمسرح الإقليمي بالشرقية النشأة والرواد والانتماء إلى المسرح الريفي، الخطاب التراثي في تجارب مسرحية من الشرقية، والمحور الرابع قراءة لنص مسرحية "الزير سالم"، تأليف ألفريد فرج، المستلهمة من الحكاية الشعبية، وهي إحدى القصص العربية التاريخية في الوقت نفسه.
سلسلة الدراسات الشعبية تعنى بنشر الدراسات المتعلقة بالفلكلور ونصوص وسير وحكايات وملاحم الأدب الشعبي، وهي إحدى إصدارات الإدارة العامة للنشر الثقافي برئاسة الكاتب الحسيني عمران، التابعة للإدارة المركزية للشئون الثقافية برئاسة الشاعر د. مسعود شومان، تصدر السلسلة برئاسة تحرير حسن سرور، ومدير التحرير محمد شومان، تصميم الأغلفة نسرين محمود.
لمعرفة حالة الطقس الآن اضغط هنا
لمعرفة أسعار العملات لحظة بلحظة اضغط هنا
كتاب التراث الشعبي بين النص والعرض الناقد الدكتور محمود كحيلة إصدارات سلسلة الدراسات الشعبية الهيئة العامة لقصور الثقافة أخبار ذات صلةفيديو قد يعجبك
محتوى مدفوع
أحدث الموضوعاتإعلان
أخبار
المزيدإعلان
قصور الثقافة تصدر كتاب "التراث الشعبي بين النص والعرض" لمحمود كحيلة
روابط سريعة
أخبار اقتصاد رياضة لايف ستايل أخبار البنوك فنون سيارات إسلامياتعن مصراوي
من نحن اتصل بنا احجز اعلانك سياسة الخصوصيةمواقعنا الأخرى
©جميع الحقوق محفوظة لدى شركة جيميناي ميديا
القاهرة - مصر
26 18 الرطوبة: 17% الرياح: جنوب غرب المزيد أخبار أخبار الرئيسية أخبار مصر أخبار العرب والعالم حوادث المحافظات أخبار التعليم مقالات فيديوهات إخبارية أخبار BBC وظائف اقتصاد أسعار الذهب رياضة رياضة الرئيسية مواعيد ونتائج المباريات رياضة محلية كرة نسائية مصراوي ستوري رياضة عربية وعالمية فانتازي لايف ستايل لايف ستايل الرئيسية علاقات الموضة و الجمال مطبخ مصراوي نصائح طبية الحمل والأمومة الرجل سفر وسياحة أخبار البنوك فنون وثقافة فنون الرئيسية فيديوهات فنية موسيقى مسرح وتليفزيون سينما زووم أجنبي حكايات الناس ملفات Cross Media مؤشر مصراوي منوعات عقارات فيديوهات صور وفيديوهات الرئيسية مصراوي TV صور وألبومات فيديوهات إخبارية صور وفيديوهات سيارات صور وفيديوهات فنية صور وفيديوهات رياضية صور وفيديوهات منوعات صور وفيديوهات إسلامية صور وفيديوهات وصفات سيارات سيارات رئيسية أخبار السيارات ألبوم صور فيديوهات سيارات سباقات نصائح علوم وتكنولوجيا تبرعات إسلاميات إسلاميات رئيسية ليطمئن قلبك فتاوى مقالات السيرة النبوية القرآن الكريم أخرى قصص وعبر فيديوهات إسلامية مواقيت الصلاة أرشيف مصراوي من نحن إتصل بنا إحجز إعلانك سياسة الخصوصية