قانون المخابرات في السودان.. جدليات حقبة البشير تعود إلى بلد تمزقه الحرب
تاريخ النشر: 20th, May 2024 GMT
أثارت التعديلات التي أقرها مجلسا السيادة والوزراء في السودان في 8 مايو الجاري على قانون جهاز المخابرات العامة، جدلاً كبيراً في البلاد وسط رفض بعض الأطراف لهذه التعديلات التي أعادت للجهاز صلاحيات سُحبت منه عقب سقوط نظام الرئيس السابق عمر البشير.
ورأى رافضو التعديلات أنها تمثل “تراجعاً عن سقف الحريات في البلاد، واستهدافاً للحقوق”، فيما قال مسؤولون بالجهاز، إنها تهدف للمحافظة على الأمن القومي، في فترة حساسة للغاية يمر بها السودان، وفي ضوء أوضاع معقدة بالمنطقة تفرض على البلاد التعامل بحساسية أكبر تجاه المهددات.
ونصت التعديلات على ممارسة الجهاز أعمال طلب المعلومات والبيانات والوثائق والاطلاع عليها أو الاحتفاظ بها، واستدعاء الأشخاص واستجوابهم وأخذ أقوالهم “وفقاً للقانون”، فضلاً عن الرقابة والتحري والتفتيش، بموجب أمر صادر من وكيل النيابة المختص وحجز الأموال وفقاً للقوانين، واعتقال الأشخاص وفقاً لما هو وارد بالمادة (50)، التي تتعلق بسلطات مدير المخابرات، وتشمل إلى جانب مواد أخرى، التفتيش بعد الحصول على أمر من وكيل النيابة المختص، وإصدار أمر باعتقال المشتبه به لمدة لا تتجاوز الثلاثين يوماً بغرض التحري والتحقيق.
كما نصّت كذلك على عدم جواز تجريم أي عضو في الجهاز، بسبب أداء عمله بموجب أي سلطة مخولة أو ممنوحة له بمقتضى القانون، أو أي قانون آخر ساري المفعول أو لائحة، أو أوامر صادرة بموجب أي منها، على أن يكون ذلك الفعل “في حدود الأعمال والواجبات المفروضة عليه وفق السلطة المخولة له بموجب القانون، وأن لا يكون ذلك الفعل أو الامتناع تم بسوء قصد أو بإهمال”.
ومنذ عهد الرئيس السوداني السابق جعفر النميري (1969-1985) تنامت أدوار جهاز الأمن، وخاصة في الفضاء السياسي، ليتم حلّه وتوجيه اتهامات لبعض عناصره بـ”التعذيب وجرائم أخرى”، بعد الإطاحة بالنميري، ليعود الجهاز بقوة أكبر في عهد الرئيس السابق عمر البشير (1989-2019)، بعد أدوار محدودة كان يقوم بها في عهد حكومة رئيس الوزراء، الصادق المهدي (1986-1989).
وفي عهد البشير تم تغيير اسمه إلى جهاز الأمن والمخابرات، قبل أن يتم تعديل الاسم في عام 2019 إلى جهاز المخابرات العامة.
وارتبط الجهاز في أذهان بعض السودانيين خلال حقبة البشير، باتهامات وجهت لبعض عناصره بـ”التعذيب والقتل والإخفاء القسري والبطش بالمعارضين”. لكن قوى سياسية حذّرت، بعد سقوط نظام البشير، من مغبة تكرار تجربة حلّ الجهاز، كما جرى بعد سقوط نميري، لخطورة الأمر على الأمن القومي السوداني.
في حين أصرّت أطراف سياسية أخرى على الخطوة، معتبرة أن الجهاز “مؤدلج، ولطالما حمل رؤية الإسلاميين في السودان وتعّج صفوفه بعناصرهم”. غير أن البعض رأى أن الجهاز تحوّل إلى مهام أخرى منذ عام 2019، تتلخص في جمع المعلومات وتحليلها والرصد والتنبيه من أخطار على الأمن القومي السوداني.
وهو الجدل الذي أعادته التعديلات الأخيرة على قانون الجهاز، للواجهة، وسط مخاوف قوى سياسية ومدنية من عودة حقبة ما أسمتها بـ”السلطات المطلقة” للجهاز، فيما يقول الأخير إن الخطوة أملتها متطلبات الأمن القومي وسط الحرب التي تشهدها البلاد منذ 15 أبريل الماضي.
وقال مصدر رفيع في الجهاز لـ”الشرق”، إن “التعديلات الأخيرة على قانون الجهاز فرضتها متطلبات الأمن القومي، في ظل الظروف التي يشهدها السودان، لجهة التصدي للمهددات، وجمع المعلومات وتحليلها ورصد الجريمة المنظمة، ومكافحة أنشطة الإرهاب وأعمال التجسس، وكل ما يمكن أن يمثل تهديداً مباشراً للأمن القومي في البلاد”.
لكن الطريقة التي أجيزت بها التعديلات الجديدة في قانون جهاز المخابرات العامة، تمثل اضطراباً تشريعياً وقانونياً وفقاً للخبير القانوني عبد السلام سيد أحمد الذي وصف إجازة التعديلات بواسطة مجلسي السيادة والوزراء بـ”الأضحوكة”، وقال إنها “تحيطها الغرابة لغياب السلطة التشريعية تبعاً للوثيقة الدستورية كإجراء انتقالي لحين اكتمال تكوين المجلس التشريعي”.
وأضاف سيد أحمد لـ”الشرق”، أن مثل هذه الطريقة في إجازة القوانين عبر اجتماع المجلسين عُمل بها أثناء الفترة الانتقالية، لكن في ظل “قدر من المشروعية السياسية، والقصد، إجازة التشريعات بواسطة المجلسين آنذاك. وكان تعدد القوى وسط شركاء الحكم يعبر وقتها عن روح الوثيقة الدستورية”.
وتابع: “وهذا الأمر برمته، انتفى بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021، إذ لم يعد هناك مجلس وزراء يمثل كتلة سياسية موازنة، كما لم يعد هناك مجلس وزراء بالمعنى المعروف، وغالب الوزراء هم مكلفون، كما أن مجلس السيادة نفسه لم يعد به مدنيون”.
وأشار سيد أحمد، إلى أن “الوثيقة الدستورية نصت في مادتها (37) على حصر مهام جهاز المخابرات في جمع المعلومات وتحليلها وتقديمها إلى القيادات التنفيذية، ولم تعد لديه سلطات القبض والاعتقال والتحقيق، كما أن الحكومة الانتقالية عدلت في عام 2020 قانوناً لتفعيل الوثيقة الدستورية، وألغيت المواد المتعلقة بالاستدعاء والتحري والاستجواب والرقابة فضلاً عن الاعتقال والاحتجاز وحصانة عناصر الجهاز”.
وأوضح أن “التعديلات الصادرة تستند إلى الوثيقة الدستورية 2019، وهي بذلك تخالف بشكل صريح المادة (37) من هذه الوثيقة بشأن صلاحيات الجهاز، كما تجاهلت تعديلات يوليو 2020 المتعلقة بتفعيل الوثيقة الدستورية، ولم تشر لها أبداً، كما ألغت المواد (25) و(50) و(51) و(52) واستبدلتها بقوانين”.
والمقصود في النهاية، كما رأى الخبير القانوني، عبد السلام سيد أحمد “العودة إلى قانون عام 2010 بإرجاع سلطات الاعتقال والاحتجاز والتحري والاستجواب والمراقبة، إضافة لإعادة الحصانة لأفراد الجهاز، رغم إلغائها بنص دستوري، وتم تقنينها في نص 2020. وهذا يمثل، اضطراباً تشريعياً وقانونياً”.
ولفت سيد أحمد، إلى أن هناك مشكلتين تتعلقان بالمواد التي أعيد العمل بها، الأولى هي تمكين الجهاز من الاعتقال لـ30 يوماً، وتمديد الاعتقال لـ3 أشهر أخرى، ما يعني السماح باعتقال شخص ما لمدة 4 أشهر دون أمر قضائي، وبالتالي يعتبر ذلك “اعتقالاً تعسفياً”، وهذه المسألة تفتح الباب أمام “سوء المعاملة والتعذيب خاصة في ظل تاريخ الجهاز في عهد البشير”.
أما المشكلة الثانية، بحسب سيد أحمد، “فتتعلّق بموضوع الحصانات في المادة (52) في قانون عام 2010، والحصانة تعني بوضوح عدم محاسبة ومساءلة عناصر الجهاز بشأن أفعالهم وتصرفاتهم باعتبارها تمت ضمن مهامهم، بمعنى أن من يتعرض للاعتقال لـ4 أشهر أو لإساءة المعاملة، يفقد الحق في الشكوى وملاحقة العناصر قانونياً، وهناك سوابق في فترة حكم الإنقاذ بشأن هذه الجوانب، وكذلك بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021، وفي ذلك مخالفة واضحة للمعاهدات الدولية التي وقع السودان عليها”.
ورأى السفير السابق والكاتب الصحافي، العبيد المروح، في مقال صحافي، أن الحرب الحالية في السودان أظهرت “الثغرة”، التي خلّفها تغييب جهاز المخابرات العامة، مشيراً إلى أن الأمر كان “مقصوداً بتآمر خارجي أو نتيجة الاستجابة لضغوط أطراف سياسية”، أو تجاهل التوصيات التي كانت توضع على طاولات المسؤولين من خلال تقارير المخابرات.
ولفت المروح إلى أن عناصر الجهاز أسندوا القوات المسلحة في القتال، وقدموا الكثير في المعارك “حتى قبل أن تنصفهم قيادة الدولة، وتغطى ظهرهم المكشوف بعدم وجود الحماية القانونية”، معتبراً أن بعض منسوبي المخابرات جرى “التشهير بهم وإساءة سمعتهم سابقاً”.
وقال إن المهمة الأكثر تعقيداً، التي تنتظر المخابرات السودانية بعد إجازة التعديلات، هي “توسيع نطاق العمليات القائمة في مجال مكافحة المليشيات وأعوانها”، بالتنسيق مع استخبارات الجيش السوداني والشرطة.
وخلص إلى ضرورة عمل “منظومة الأمن القومي” كلها بتناسق وثيق، حتى يعبر السودان مرحلة وصفها بأنها “الأكثر دقة”.
عودة “منهج التسلط”
بدوره، قال المتحدث باسم تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية “تقدم”، بكري الجاك، لـ”الشرق” إن إعادة صلاحيات جهاز المخابرات وحماية عناصره هي عودة إلى “منهج التسلط والشمولية”، وما هي سوى “مقدمات لطبيعة الدولة التي يريد الإسلاميون بناءها في السودان، عن طريق تصوير الحرب وكأنها تنحصر بين الجيش والدعم السريع، باعتبارها مواجهة بين القوات المسلحة، وقوة تمردت عليها”.
واعتبر أن “نتيجة هذا النمط من التفكير ظهرت في الحكم بالإعدام على مواطن بمدينة القضارف، شرق البلاد، بعد اتهامه بالتخابر مع الدعم السريع”، مشيراً إلى “غياب العدالة بالضرورة في ظل الحرب، وفي ظل ظروف الشحن النفسي والتوتر”.
واعتبر الجاك، أن تعديل قانون جهاز المخابرات هو “تقنين لحالة السيولة الأمنية والمخاطر المحدقة بالمدنيين نتيجة التصنيف ومجرد الشك فيهم”، وأعرب عن رفضه على نحو قاطع هذه التعديلات، مضيفاً أن المنظمات والأطراف الدولية “ينبغي أن ترفضها”.
هيبة الدولة
وعلى عكس الجاك يرى مؤيدون للتعديلات، أن ظروف السودان الحالية تُحتّم عملاً أمنياً متكاملاً في ظل الحرب الحالية والسيولة الأمنية التي ربما تسمح بتدفق “جماعات إرهابية” إلى البلاد المحاطة بأحزمة من الأنشطة والجماعات المتشددة.
وأشاروا إلى أن هذه الجماعات دائماً ما تكون عينها على الخواصر الرخوة (مصطلح عسكري يشير إلى مناطق الضعف) لتضع أقدامها، ويمثل السودان الذي يشهد حرباً ضارية بين الجيش وقوات الدعم السريع منذ 15 أبريل الماضي، بيئة جاذبة لها وللجماعات التي تنشط في الجريمة المنظمة وأعمال التجسس إلى جانب أعمال قد تلحق أضراراً كبيرة بالاقتصاد السوداني، أو قد تمس الأمن القومي والدولة ذاتها.
وفي هذا الإطار، قال رئيس حركة تحرير السودان، مصطفى تمبور، إن الصلاحيات المعدّلة لجهاز المخابرات تعتبر “بداية جادة لفرض هيبة الدولة، وحسم كل مظاهر التفلت (الانفلات) وتضييق الخناق على العملاء وأعداء الوطن”.
“ديكتاتورية كاملة الدسم”
ورفض حزب المؤتمر الشعبي المعارض، في بيان “إعادة العمل بقانون جهاز الأمن والمخابرات الوطني بكل ما يحمل من تعدٍ على الحريات وتعطيل الحقوق والحرمات المتعلقة بحقوق الإنسان والحريات العامة”.
وأضاف في بيانه، أن “نظام البشير الشمولي القابض، اتكأ على قوانين مقيدة للحريات، وصادر الحقوق الأساسية عبر قوانين شرّعها، في مقدمتها قانون جهاز الأمن والمخابرات”.
واعتبر أن “الاعتداءات والانتهاكات بلغت ذروتها وبشاعتها باغتيال أحمد الخير”، وهو معلّم “مات متأثراً بالتعذيب” على يد عناصر من الجهاز أدانتهم محاكم سودانية لاحقاً بالإعدام.
وحذّر الحزب من أن إعادة سلطات جهاز الأمن “تفتح باباً واسعاً للفتك بالحريات، وتعيد البلاد إلى مربع الحكم السابق”، مشيراً إلى أن ما يجري الآن هو “ديكتاتورية عسكرية كاملة الدسم”.
وليس بعيداً عن هذا الموقف، قال التجمع الاتحادي، وهو أحد مكونات تنسيقية القوى المدنية الديمقراطية (تقدّم)، إن التعديلات على قانون جهاز المخابرات العامة “تمثل ارتداداً ونزعاً للحقوق والحريات”.
وأضاف في بيان أن “الشعب السوداني قال كلمته إبان الثورة ضد الأساليب القمعية والوحشية والتاريخ المظلم لجهاز المخابرات المليء بانتهاكات حقوق الإنسان والجرائم التي لا تغتفر”.
وحذّر التجمع الاتحادي، من “تفاقم الانتهاكات، وتكريس المزيد من الجرائم بمبررات قانونية”، وفق البيان.
من جانبه، قال رئيس التحالف الديمقراطي للعدالة الاجتماعية، مبارك أردول، إن تحالفه شكل لجنة قانونية – سياسية لدراسة القانون المجاز، والنظر في أي تأثيرات محتملة على الحريات وحقوق الإنسان، وخاصة ما يتعلق بالأنشطة السياسية والحزبية، وما إذا كان القانون “احتوى على سلطات للأمن السياسي، الذي كان تاريخه سيئاً في فترة النظام السابق، وكذلك الاستبداد الذي تم في عهد لجنة إزالة التمكين”.
هيئة العمليات
ولم تُشر التعديلات التي نُشرت في الجريدة الرسمية، إلى “هيئة العمليات”، التي تم حلّها بعد الثورة على نظام البشير، وكانت تتبع الجهاز، وتضم 13 ألف مقاتل، شارك بعضهم سابقاً في القتال ضد الحركات المسلحة في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق.
ونصت الوثيقة الدستورية الموقعة بين المكونين العسكري والمدني في عام 2019 على هيكلة الجهاز وحصر مهامه في جمع المعلومات، وبدأت السلطات آنذاك في حل “هيئة العمليات” ما أدى إلى وقوع مواجهة مسلحة في محيط مقر الهيئة، شرقي العاصمة السودانية، وآل المقر لاحقاً إلى قوات الدعم السريع، التي اتخذته مقراً للاعتقال، حسب معتقلين سابقين، تحدثت إليهم “الشرق”.
وتشكلت هذه القوة في عام 2005 في عهد المدير السابق للجهاز، الفريق أول صلاح عبد الله “قوش”، وتشير تقارير صحافية إلى أنها كانت تملك أسلحة متوسطة وثقيلة، ونال أفرادها تدريبات عالية. أما أكبر مهامها، فتمثلت في التصدي لهجوم قوات حركة العدل والمساواة بقيادة الراحل خليل إبراهيم على الخرطوم في عام 2008، لكن الاتهامات لاحقتها، بعد ذلك “بقمع” الاحتجاجات الشعبية خلال أعوام 2013 و2018 و2019.
خالد عويس – الشرق للأخبار
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: جهاز المخابرات العامة قانون جهاز المخابرات الوثیقة الدستوریة الأمن القومی جهاز الأمن فی السودان على قانون سید أحمد إلى أن فی عهد فی عام
إقرأ أيضاً:
ماذا تعرف عن الكتب البيضاء التي حوت خطط الصين للأيام السوداء؟
في صيف عام 1998، وبينما كانت الصين تضع قدما راسخة في الاقتصاد العالمي بعد عقدين من الانفتاح، خرجت إلى العلن وثيقة غير معتادة من وزارة الدفاع الصينية بعنوان "الدفاع الوطني الصيني". لم تكن وثيقة تقنية بحتة، بل بيانا سياسيا بلغة جديدة أرادت بكين من خلاله مخاطبة الداخل والخارج معا. جاء هذا التحول بعد أن نجحت إصلاحات الرئيس الصيني، دينغ شياو بينغ، في انتشال البلاد من عزلتها الطويلة، لتتحول من قوة إقليمية حذرة إلى لاعب عالمي يختبر لأول مرة لغة الثقة في مخاطبة الآخرين.
سيفتح هذا الإصدار الباب لسلسة من الإصدارات التي أتت لاحقا، سميت "الكتب البيضاء". فمع النمو الاقتصادي المتسارع للصين، راحت دوائر غربية تطرح أسئلة قلقة حول طبيعة هذا الصعود ومكونه العسكري، ليولد مفهوم "التهديد الصيني" في الفكر الإستراتيجي الغربي. ومن ثمّ؛ أرادت بكين أن تكسر هذه الصورة عبر وثائق رسمية تعلن فيها نيتها، وتُظهر أنها قوة مسؤولة تحافظ على الوضع القائم. كما سعت من خلالها إلى تعزيز الشفافية -ولو جزئيا- وإلى دمج نفسها في النظام الدولي عبر تقديم نظرة عامة عن سياساتها الدفاعية وتطور جيش التحرير الشعبي.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2لماذا لا تستخدم الصين سلاح الجو؟list 2 of 2لماذا يتسابق العالم لتطوير الصاروخ "الصامت"؟end of listفي المقابل، أرادت الصين التعبير للعالم بقدر من الوضوح عن مخاوفها الأمنية والتهديدات التي تعمل على مواجهتها أو إحباطها. وفي الداخل أيضا، أدت هذه الكتب وظيفة تعبوية وطنية، إذ استخدمتها الحكومة لتعميق الوعي الدفاعي لدى المواطنين وتعزيز التماسك الوطني، وتبرير الإنفاق الحكومي المرتفع على المسارات الأمنية.
وفي أجواء ما بعد الحرب الباردة، ومع تنامي الثقة الدولية بإصلاحات دينغ، وجد الغرب في الصين شريكًا اقتصاديًا واعدًا، ففُتحت أمامها الأبواب تدريجيًا نحو المؤسسات الاقتصادية العالمية. وقد بلغت هذه المسيرة ذروتها بانضمام بكين رسميًا إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001، وهو حدث مثّل شهادة قبول دولي بالصين كلاعب ملتزم بقواعد السوق العالمية، وفرصة تاريخية لتعزيز اندماجها في النظام الاقتصادي الدولي.
إعلانهذا الانفتاح عزز من تدفقات الاستثمار الأجنبي والتبادل التجاري، لكنه في الوقت نفسه ضاعف من توقعات المجتمع الدولي بشأن شفافية سياساتها، بما في ذلك سياساتها الدفاعية والأمنية، وهو ما جعل الكتب البيضاء أداة مهمة لتبديد المخاوف وبناء صورة القوة الصاعدة المنفتحة على الحوار.
ومع مرور السنوات، تحولت هذه الكتب إلى مرجع لفهم تطور الفكر الأمني الصيني. وفي حين ركزت النسخ الأولى على الدفاع الوطني وإستراتيجية الجيش، جاءت الإصدارات اللاحقة لتعكس صعود الصين وثقتها المتزايدة في عرض مصالحها. أما الإصدار الأخير في مايو/ أيار 2025 فقد شكّل نقطة تحول جذرية، إذ لم يعد الأمن مقصورا على الحدود أو الجيش، بل أصبح مفهوما شاملا يمتد إلى الاقتصاد والتكنولوجيا والمجتمع والاستقرار الأيديولوجي تحت قيادة الحزب المطلقة.
فما الذي تكشفه هذه الوثائق عن الطريقة التي ترى بها بكين العالم، وعن طبيعة التهديدات والفرص التي تحدد سياستها الدفاعية؟ وكيف يمكن قراءة كتاب 2025 في ضوء فهم تطور التفكير الأمني الصيني منذ بدء إصدار هذه الوثائق؟
منذ إصدارها الأول عام 1998، حرصت الصين في كتُبها البيضاء على التأكيد بأن سياستها العسكرية تستند إلى منطق دفاعي مع التعهد بعدم استخدام الأسلحة النووية أولا. عبر هذه السردية، سعت بكين إلى ترسيخ صورة قوة صاعدة ذات نية سلمية وغير ساعية للهيمنة. فهي تذكّر دائما بأنها لم تبدأ حربا قط طيلة تاريخها، وتعهدت بتقليص حجم جيش التحرير الشعبي طواعية، في رسالة تهدف إلى تهدئة المخاوف الإقليمية والدولية من صعودها العسكري.
لكن هذا الطابع الدفاعي لم يبق ثابتا بصورة مطلقة، بل شهد تحولا تدريجيا يعكس توسع المصالح الصينية ونطاق قدراتها. ففي عام 2015، مثّل التحول من مفهوم "دفاع المياه القريبة" إلى "حماية البحار المفتوحة" علامة فارقة في إستراتيجيتها البحرية.
حيثُ لم تعد البحرية الصينية معنية فقط بحماية السواحل، بل أصبحت مكلفة بتأمين الممرات البحرية الإستراتيجية والمصالح الخارجية الممتدة عبر المحيطات. تجلى هذا في بناء أسطول مياه زرقاء، وتكثيف الانتشار في المحيط الهندي، وتنفيذ تدريبات في البحار البعيدة. هذا التوسع الجغرافي يتحدى استمرار بكين في تقديم نفسها بوصفها قوة "دفاعية" بينما تتحرك لحماية مصالحها في نطاق عالمي متزايد.
إلى جانب هذا البعد الجغرافي، شهدت العقيدة العسكرية الصينية تحولا نوعيا في طبيعة الحرب ذاتها. فمنذ عام 2004، انتقلت بؤرة الارتكاز من "كسب الحروب المحلية تحت ظروف التكنولوجيا الحديثة" إلى "كسب الحروب المحلية تحت ظروف المعلوماتية". هذا التحول عمّقته ورقة عام 2019، التي أولت اهتماما بالغا للتقنيات المتقدمة مثل الذكاء الاصطناعي ومعلومات الكم والبيانات الضخمة وإنترنت الأشياء والحوسبة السحابية في الميدان العسكري.
كما حددت الوثائق مجالات جديدة للمنافسة الإستراتيجية مثل الفضاء الخارجي والفضاء السيبراني، باعتبارها ميادين حاسمة في حروب المستقبل. يعكس هذا الإدراك الصيني أن التفوق العسكري لن يُبنى فقط على قوة التكنولوجيا التقليدية، بل على القدرة على دمج الأنظمة المعلوماتية في كل مستويات القتال والدعم، مما يضع الصين على مسار واضح نحو تحقيق "حلم الجيش القوي" بحلول منتصف القرن الـ21.
مهما تتعدد وتتعقد المعطيات التي تحكم صياغة العقيدة الأمنية للصين؛ ثمة خط أحمر في قلب هذه المنظومة لا يغادر مكانه رغم تعاقب الأعوام وتباين الأولويات، لا يقبل المساومة ولا التبديل، هو تايوان.
إعلانفمنذ مطلع الألفية، كررت الكتب البيضاء أن قوى الانفصال التايوانية تمثل التهديد الأخطر للعلاقات السلمية عبر المضيق. وفي وثيقة عام 2010، طُرح توحيد المضيق بوصفه "مهمة نهائية"، مع فتح باب المشاورات المتكافئة وبحث آلية أمنية لبناء الثقة. لكن الخطاب ازداد حدة في ورقة عام 2019، حيث وُصفت قوى استقلال تايوان بأنها "أخطر تهديد فوري للسلام"، مع تعهد صريح بأن بكين ستتخذ كل الإجراءات الضرورية لمنع الانفصال والتصدي لأي تدخل خارجي.
هذا الاهتمام الآخذ في التصاعد بمسألة تايوان، يرجع بالأساس لاعتبار نزاع السيادة على الجزيرة ليس مجرد نزاع حدودي اعتيادي فحسب، بل المعركة الأكثر رمزية لمحاولة الصين الانعتاق من الطوق الأميركي المفروض على حدودها البحرية عبر سلسلة من القواعد والتحالفات.
بيد أن أولويات الأمن القومي الصيني لم تقف عند حدود مضيق وجزيرة تايوان، بل توسعت لتشمل حماية الحقوق البحرية والمصالح الخارجية المتنامية. حيث شددت ورقة عام 2013 على دور الجيش في حماية المصالح البحرية، بما في ذلك إنفاذ القانون البحري واستغلال الموارد البحرية. وعمّقت وثيقة 2015 هذا النهج بالدعوة إلى التخلي عن "العقلية البرية" وبناء قوة بحرية حديثة قادرة على حماية السيادة وحقوق الملاحة وخطوط الاتصال البحرية (SLOCs) والمصالح الاقتصادية بالخارج.
هذا التوجه تُرجم عمليا بإنشاء "قاعدة دعم جيش التحرير الشعبي الصيني" في جيبوتي، وهي قاعدة عسكرية تابعة للبحرية الصينية، عززت قدرات الصين على إبراز القوة في القرن الأفريقي وسواحل المحيط الهندي، وهي أول قواعد البحرية الصينية وراء البحار.
شكّل الكتاب الأبيض الصيني لعام 2025 نقطة تحول مفصلية في الفكر الأمني الصيني، إذ يُعد أول وثيقة رسمية تركز بالكامل على تقديم مفهوم "الأمن القومي في العصر الجديد"، بصورة تعكس ترسيخ مقاربة "الأمن القومي الشامل" التي طرحها شي جين بينغ عام 2014، والتي تستند إلى فلسفة شمولية تربط بين الأمن الداخلي والخارجي، القوة التقليدية وغير التقليدية، أمن الدولة وأمن الشعب، وأخيرا بين السياسة والاقتصاد والتنمية والأمن. إنها مقاربة توسع مفهوم الأمن ليغطي كل مفاصل الدولة والمجتمع، ويبتلع كل مناشط الحياة.
وفي قلب تلك المقاربة يقف "الأمن السياسي" بوصفه مهمة أساسية وشريان حياة للأمن القومي، فالحفاظ على سيطرة الحزب الشيوعي والنظام الاشتراكي لم يعد في هذه الحالة مجرد سجال سياسي، بل غدا "ركيزة أمنية عليا"، يُنظر إلى أي تهديد لها باعتباره خطرا وجوديا على تماسك الدولة.
من هنا، توسعت أدوات الرقابة والسيطرة لتشمل قطاعات كانت تُعد سابقا خارج نطاق الأمن القومي، مثل التكنولوجيا والتمويل ومنصات التواصل وسلامة الغذاء والدواء. هذه النقلة تمثل تحول الصين نحو نموذج أمني مركزه الحزب، وتطمس فيه الحدود بين الحوكمة اليومية والدفاع عن الدولة.
وبصورة واضحة؛ يؤكد الكتاب على العلاقة العضوية بين التنمية والأمن، مع إعادة ترتيب الأولويات، فلم تعد التنمية تُنتج الأمن، بل بات الأمن شرطا مسبقا للتنمية، وأصبح الاستقرار الاقتصادي والاكتفاء الذاتي التكنولوجي من متطلبات الأمن القومي، وليس مجرد أدوات لخدمة النمو.
وتعزز هذا التصور بصورة مطردة تحت وطأة الضغوط التي فرضها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، منذ عودته إلى السلطة، عبر فرض رسوم جمركية وسياسات عزل تهدد مكانة الصين في سلاسل الإمداد العالمية.
في هذا السياق الدولي المتوتر، طُرحت بكين "مبادرة الأمن العالمي" (GSI) لتكون إطارا بديلا للأمن الدولي، يناهض ما تعتبره "عقلية الحرب الباردة" التي تقودها الولايات المتحدة. تدعو المبادرة إلى أمن مشترك وشامل وتعاوني ومستدام، يقوم على احترام السيادة وتسوية النزاعات سلميا. بهذا، تسعى الصين إلى إعادة صياغة قواعد اللعبة الأمنية الدولية وفق رؤيتها، دون التزام صارم بتبنّي النموذج الغربي السائد.
إعلانبهذا المنظور؛ لا يقدم كتاب 2025 تصورا متطورا للأمن الصيني فحسب، بل يعكس نضجا إستراتيجيا في كيفية فهم الصين لعالم يشهد انزياحات كبرى. وبذلك يتحول الأمن القومي من مظلة لحماية الدولة إلى عدسة لفهم السياسة الصينية في الداخل والخارج، ويصبح تتبع هذه الوثائق الرسمية سبيلا لفهم طريقة تفكير بكين في عالم ما بعد القطبية الأميركية.
هندسة الهيمنة: جيش بمقاييس الطموح الصيني"يجب أن نبني جيشا يطيع أوامر الحزب، ويستطيع خوض الحروب والانتصار فيها، ويتحلى بالانضباط الرفيع"
بهذه العبارة الحاسمة التي أطلقها شي جين بينغ في أول خطاب له بصفته رئيسا للجنة العسكرية المركزية عام 2012، رسمت القيادة الصينية مسارا طويل الأمد لإعادة بناء جيش التحرير الشعبي ليصبح قوة عالمية حديثة. بدءا من تحديث العقيدة والمبادئ، إلى عملية هندسة هيكلية وتنظيمية عميقة، استهدفت تحويل الجيش من كتلة ضخمة تقليدية إلى آلة قتالية مرنة وفعّالة، قادرة على العمل في بيئة قتال معقدة، متعددة المجالات، وعالية التقنية.
وقد فصّلت الورقة البيضاء لعام 2019 هذه الإصلاحات، التي تُعد الأوسع منذ عقود، وركّزت على إعادة هيكلة القيادة وتعزيز الكفاءة القتالية. شملت الإصلاحات إعادة تنظيم الأجهزة الوظيفية للجنة العسكرية المركزية، وإنشاء هيئات جديدة أبرزها "قوات الدعم الإستراتيجي (PLASSF)"، وتحويل "قوة المدفعية الثانية" إلى "قوة الصواريخ لجيش التحرير الشعبي (PLARF)"، إضافة إلى "تأسيس قوة الدعم اللوجستي المشترك (PLAJLSF)". كان الهدف من كل ذلك محددا، هو "تعزيز القيادة المركزية وتحسين نظم القيادة والسيطرة العملياتية المشتركة"، بما يواكب طبيعة الحروب الحديثة.
وعلى مستوى البنية البشرية والتنظيمية، جرى تقليص عدد القوات، حيث خُفضت القوة العاملة بنحو 300 ألف جندي لتستقر عند مليوني جندي، مع إعادة تشكيل الجيوش الجماعية، وتطبيق نموذج "الفيلق – اللواء – الكتيبة" بدلا من النموذج التقليدي واسع النطاق. كما جرى تعزيز أنواع جديدة من القوات القتالية، بما يجعل الجيش أكثر مرونة وفاعلية في بيئة قتال عالية الكثافة المعلوماتية.
وفي سياق أوسع، حددت الصين أهدافا بعيدة الأمد لتحديث جيشها، تُعرف بعنوان "حلم الجيش القوي" التي طرحها شي جين بينغ، وتتضمن: تحقيق الميكنة العسكرية بحلول عام 2020، والوصول إلى التحديث الكامل بحلول عام 2035، وبناء جيش عالمي المستوى بحلول عام 2049 بحلول الذكرى المئوية لتأسيس جمهورية الصين الشعبية.
ولتحقيق هذه الرؤية، تستثمر بكين بكثافة في البحث والتطوير، مع تركيز خاص على الصواريخ النووية متوسطة وبعيدة المدى، والقدرات غير المتماثلة، والاستجابة السريعة، والحرب المعلوماتية، والدفاع السيبراني.
أما من حيث الإنفاق الدفاعي، فتؤكد الكتب البيضاء أن نفقات الصين معقولة ومتناسبة مع نموها الاقتصادي، مشيرة إلى أنها لم تتجاوز 2% من الناتج المحلي الإجمالي خلال العقود الثلاثة الماضية. وتوضح وثيقة 2019 أن الزيادة في الإنفاق تُوجه لتحسين رفاهية الجنود، وتطوير المعدات، وتعميق الإصلاح، وتعزيز التدريب القتالي.
لكن رغم هذه التأكيدات، يظل مجال الإنفاق العسكري نقطة خلاف دائمة مع الغرب، حيث يشير معارضو السياسة الصينية في الساحة الدولية إلى غياب الشفافية في تفاصيل الميزانيات العسكرية وعمليات الاستحواذ على الأسلحة.
هذا التباين بين الخطاب الرسمي والشكوك الدولية يعزز من الاعتقاد بأن الكتب البيضاء الصينية أدوات إستراتيجية للرسائل أكثر من كونها تقارير مُخصصة للإفصاح الكامل، وتهدف بالدرجة الأولى إلى تشكيل تصورات الخارج عن نية الصين وتوجهاتها العسكرية.
وفي ظل عالم يزداد اضطرابا، وتتفكك فيه القواعد القديمة التي حكمت النظام الدولي لعقود، تواصل بكين بلا هوادة تعزيز ما تسميه "أساس الأمن القومي الشامل"، وهو المفهوم الذي لا يقتصر على تحصين الحدود أو تحديث القدرات العسكرية، بل يمتد ليشمل كل مفصل من مفاصل الدولة، من الاقتصاد إلى التكنولوجيا، ومن الأمن الغذائي إلى الأمن الأيديولوجي. في هذا التصور، لا تُترك أي جبهة دون تحصين، ولا يُترك الجيش دون دور يتجاوز الحماية إلى إعادة هندسة البيئة الإستراتيجية المحيطة بالصين.
فالمسألة لم تعد مجرد تحديث لقوة عسكرية تقليدية، بل بناء تدريجيا لذراع إستراتيجية قادرة على الحسم عند المنعطفات الكبرى، حين تتصاعد التوترات وتُختبر التوازنات. لقد بدأت الصين فعليا في تأمين حاضرها، لكنها تُعد جيشها وتُعيد صقله من أجل لحظة قادمة لم تحن بعد، لكنها حتمية في منطق القوة الصاعدة، لحظة قد تُعاد فيها كتابة خرائط النفوذ، ويُعاد فيها تعريف من يمتلك الحق في صياغة قواعد النظام العالمي القادم، ومن يفرض شروط السلام أو الحرب.
إعلان