مجزرة تل الزعتر ودروس اليوم التالي.. جزء من معالم الهوية الفلسطينية
تاريخ النشر: 12th, August 2024 GMT
يكثرُ الحديث في هذه الأيام عن سيناريو اليوم التالي بعد الحرب على غزة، وماذا يمكن أن يحدث في حالة ترك غزة بلا سلاح أو مقاومة.. فتذكرتُ اليومَ التالي لاجتياح 1982، الذي أدّى إلى مجزرة صبرا وشاتيلا، رغم الوعود الأمريكية والقوات المتعددة الجنسيات، والذي أكد أن اليوم التالي من دون مقاومة يعني مجزرة.
وأنا كأحد الناجين من مجزرة تل الزعتر، يمكنني أن أتحدث عن الذي جرى في اليوم التالي لاستسلام المخيم، وكنت سابقاً قد كتبتُ مقالاً عن استشهاد مخيم تل الزعتر، وذكرت أن الحصار هو الجدار الأخير للصامدين وأن الاستسلام يعني مجزرة.
الكاتب والشاعر الفلسطيني ياسر علي على أطلال حيه في تل الزعتر
في مثل هذه الأيام قبل 48 سنة، وتحديداً في 12 آب (أغسطس) 1976، سقط مخيم تل الزعتر باتفاق سياسي بين القوى المتحاربة (لم يطلع على نَصّه أحد حتى الآن)، بعد حصار 52 يوماً وتلقّي 55 ألف قذيفة، وصدّ 72 هجوماً عنيفاً.
ومن أهم الدروس التي تعلمناها من هذا اليوم، هي أن التسليم كان خطيئة كبيرة ومهزلة سياسية راح ضحيتها نحو 4000 فلسطيني. ومنها تعلّم الفلسطيني أن لا يستسلم في أي حصار، وليكن قتالاً انتحارياً ينتهي بالنصر أو الشهادة. لأن أي حل غيرهما، سيكون ذلاً أو مذبحة.
قصص من اليوم التالي.. ما أشبه اليوم بالبارحة:
سلّمنا، نحن المدنيين، الذين علمنا بالاتفاق، أنفسنا صبيحة 12 آب 1976.. ووزعونا على مركزين، بالاتفاق مع أمين الجميل، مركز النافعة ومدرسة الفندقية في الدكوانة، وإليكم ما كتبه المجرم جوزيف سعادة في كتابه "أنا الضحية والجلاد أنا": "وزعنا الحشد على مبنيين، مبنى النافعة ومبنى المدرسة الفندقية، واستمر الوضع هادئاً حتى الفجر. عند الفجر مسّ المقاتلين مسٌّ فأخذوا يعرّبون الهاربين. اللبنانيون سُمِح لهم بالمغادرة، أما الفلسطينيون فوزّعوا على قسمين: الذكور من السادسة عشرة إلى الخمسين، والنساء والأطفال والعجَزة.
قال أحد المسلحين بأنه تلقّى الأوامر بتصفية الشباب. يومها لم تتوقف قرقعة المسدسات والرشاشات في الدكوانة. عشرات عشرات الجثث ملأت شوارع الدكوانة".
وقال مراسل صحيفة ستامبا الإيطالية: "رأينا سيارة فولكسفاغن وأخرى فورد تقطران جثث بعض الفلسطينيين. لقد قامت الميليشيات المسيحية بعمليات تصفية انتقامية. في الأشرفية قتل أحدُ رجال هذه الميليشيات رضيعاً بين ذراعي والده صارخاً: أريد أن أتذوّق الدم الفلسطيني... رأيت أطفالاً يضربون رؤوسهم بالحيطان صارخين بأنهم فقدوا أهلهم جميعاً".
تأكيداً على ماسبق، تضافرت الروايات، عن وجود 60 طفلاً يتحركون بين الجثث، بين طفل يحكي ويعي ما جرى ورضيع يبحث عن ثدي أمه القتيلة ليرضع.
وما أشبه اليوم بالبارحة: ستون طفلاً اختفوا لدى أحد الأديرة جرى تسليمهم وبيعهم لعائلات أوروبية بهدف تبنّيهم.. أليس هذا ما جرى منذ أشهر في بيت لحم أيضاً؟! بعض هؤلاء الأطفال عاد إلى لبنان ليبحث عن أهله (قصة ماريان الفرنسية معروفة ومنتشرة)..
في اليوم التالي، انقسم الناس ثلاثة أقسام:
الأول: قسمٌ خرج مسلّماً، قتل المجرمون نصفهم.. وكنا نحن معهم، شهدنا يوماً من أيام الحشر في شمس آب، بدون شربة ماء.. وصل نصفنا إلى بيروت الغربية بعد مرورنا على اثني عشر حاجزاً، كل حاجز أسوأ من الذي سبقه، حتى وصل من كل شاحنة نصف الذين ركبوا فيها من الدكوانة.
وصلنا في حالة تيهٍ، منا مَن كان أقاربه بانتظاره، ومعظمنا مصاب أو يتيم أو فاقد.. تولّت أمرنا منظمة التحرير الفلسطينية، وأسست للأيتام مؤسسة بيت أطفال الصمود. وكثير من هذه العائلات تشتت لأشهر أو سنوات، من دون أن يلتقوا ليعرفوا من نجا ومن مات منهم. (كانت عائلتنا في الحصار ستة، وصلنا إلى بيروت الغربية ثلاثة، التحق بنا الرابع عصراً، ثم التقينا أخي الذي لم يكن في الحصار، والتقينا لاحقاً والدي الذي سبقنا مع الصليب الأحمر جريحاً، ثم التقينا بعد شهر كامل أخي الذي خُطف 27 يوماً). أما صديقي (ح.ع) فظن أن أهله ماتوا، وبقي يتيماً عدة أشهر حتى التقى أمه في حلب..
الثاني: خرج في الجبال، بعضهم بسلاحه وبعضهم من دون سلاح.. كثيرون تم اصطيادهم في الوديان والجبال.. في المرة الوحيدة التي التقيت فيها الأستاذ مفيد صادق "أبو العواصف"، أخبرني أن مجموعته التي قادها، بدأت 100 عنصر خرجوا في الجبال ليلاً، وصل منهم إلى المناطق الآمنة 37 عنصراً.
الثالث: وهو بيت القصيد.. بقوا في المخيم. نعم بقوا في المخيم. وهذه المرة الأولى التي أكتب فيها عنهم..
يقول سعادة في كتابه، أنه بعد سقوط المخيم دخل إليه مع مجموعاته ".. كل خطوة يخطوها المرء في أزقّة المخيم وسككه كانت تعرّضه للخطر. فلقد كان الواحد لا يعرف من أين تطلق النار: من المتاريس، من أقنية الصرف الصحي، من دهاليز جوفية وأنفاق مجهّزة محصنة.. كانوا قلّة ولكنّهم كانوا في ميدان يعرفونه من الألف إلى الياء".. بقيت وسائل الإعلام حينها تتحدث عن جيوب مقاومة نحو عشرة أيام.
ألا يُذكّرنا الأمر بأنفاق ترفض الذل تحت الاحتلال في غزة، وتجعل احتلالاً باهظ الثمن غير مستقر في مكانه؟ ولو أن قوات الثورة الفلسطينية تجهّزت لمثل هذا الحصار لما وقعت المجزرة وسقط المخيم.
الباقون كانوا قسمين:
الأول ـ المدنيون الذين بقوا بدون سلاح، وتُمثّل قصتهم الحاجة أم علي معروف (صدّيقة علي ياسين عودة) التي لمح المجرمون ابنها فلاحقوه، حتى وصل البيت فخبّأته في مكان آمن.. دخل المسلحون خلفه، سألوها عنه فلم تعترف، وعدوها بسلامته إذا اعترفت، وإلا سيفجّرون البيت فوقهما.. أخرجته من مخبئه، فقتلوه وأجلسوه في حضنها.. أصابتها حالة نفسية لازمتها حتى وفاتها في مدينة صيدا منذ ستة أشهر. وأصابها البُهاق الجلدي الذي كان واضحاً عليها..
ولم تكن هذه هي الحالة الوحيدة داخل المخيم بعد تسليمه.. فالمحتلون لم يرحموا من بقي في المخيم، وهذا درس بليغ من دروس اليوم التالي!
الثاني ـ المسلحون الذين بقوا في المخيم.. صحيح أنهم لم يبقوا ضمن خطة، ولكنهم كانوا أبطالاً..
والقصة روتها السيدة (م.د) لأحد الأصدقاء، قائلة: أترى هذه الساعة في يدي؟ إنها لأحد المهاجمين الذين دخلوا المخيم!!
والقصة أن الذين أبرموا الاتفاق "المجهول" لتسليم المخيم، لم يخبروا رجال المحور التحتاني (علي سالم ومجموعاته)، فتطوعت هذه السيدة لتخبره.. ذهبت إليه وقالت: الناس تغادر المخيم، قالوا في اتفاق، المسلحون يخرجون في الجبال ليلاً والمدنيون يسلمون أنفسهم عند مداخل المخيم.
واشتد القتال في محوره (الوحيد)، حوصرت (م.د) معهم، وتراجع سالم إلى وسط المخيم، وكَمَن في مدرسة بيسان، ولما شاهدوا المجرمين يدخلون ويقتلون ويسرقون ما يجدونه، من أدوات كهربائية وغيرها (ذكر هذا جوزيف سعادة في كتابه المذكور أعلاه)، وعندما اقتربوا من المدرسة، خرج إليهم مع مجموعته بكثافة نارية، فقتل منهم من قتل، وهرب من هرب..
راوية القصة، تقول إن الساعة التي في يدها، سحبتها من يد أحد المهاجمين القتلى..
لم يكتفِ علي سالم بهذا، وخرج بعد يومين في الجبال بتشكيل عسكري يحمي به من بقي من المدنيين الذين خرجوا بالجبال معه، وخافوا أن يخرجوا كالمدنيين بعدما وصلتهم أخبار المجازر. وأخبرني (ي.ح) أحد الذين خرجوا معه أن القوى المعادية كانت تسيّر دوريات في الجبال للقبض على الخارجين من المخيم، فيصرخون في الوديان طالبين من المجموعات التسليم. فما كان من علي سالم إلا أن أرسل مجموعة اشتبكت معهم، فولّوا مدبرين ولم يعودوا.
ووصلت مجموعة علي سالم بعسكرييها ومدنييها إلى المناطق الآمنة بسلام.
لقد علّمتنا الخبرة كفلسطينيين، أن الاستسلام لن يوفر علينا الدماء ولو كان في ظل الأمم المتحدة والقوات المتعددة الجنسيات.. لهذا لم يستسلم الفلسطينيون في أي حصار بعد صبرا وشاتيلا، من حرب المخيمات حتى غزة اليوم مروراً بمخيم جنين وغيره.
وما أشبه اليوم بالبارحة!
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي تقارير تقارير مجزرة الفلسطيني اللبنانيون لبنان فلسطين ذكرى مجزرة لاجئون تقارير تقارير تقارير تقارير تقارير تقارير سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الیوم التالی فی المخیم فی الجبال تل الزعتر علی سالم
إقرأ أيضاً:
“تحريك الأرض”.. الكشف عن عملية سرية في صحراء سورية لإخفاء معالم جريمة كبرى في عهد الأسد
سوريا – كشف تحقيق أجرته وكالة “رويترز” أن حكومة الرئيس السوري السابق بشار الأسد نقلت آلاف الجثث من إحدى أكبر المقابر الجماعية إلى موقع سري في الصحراء، في عملية سرية استمرت لعامين.
وأظهرت نتائج التحقيق أن العملية التي أشرف عليها الجيش تضمنت نبش المقبرة الجماعية في منطقة القطيفة، ونقل الجثث إلى مقبرة جديدة ضخمة في صحراء الضمير في محاولة لإخفاء الأدلة على جرائم النظام خلال الحرب الأهلية السورية.
وقالت الوكالة إنها تحدثت إلى 13 شخصا لديهم معرفة مباشرة بالعملية، وراجعت وثائق أعدها مسؤولون شاركوا فيها، كما قامت بتحليل مئات الصور الملتقطة بالأقمار الصناعية لكلا الموقعين خلال عدة سنوات.
وذكرت أن العملية التي حملت اسم “تحريك الأرض” نفذت بين عامي 2019 و2021، وكان هدفها حسب الشهود “طمس معالم الجرائم” وتحسين صورة النظام السوري بعد سنوات من العقوبات الدولية والعزلة السياسية.
وأفادت “رويترز” بأنها أبلغت حكومة الرئيس أحمد الشرع بنتائج التحقيق، لكنها لم تتلق ردا على الأسئلة الموجهة لها.
كما امتنعت الوكالة عن الكشف عن الموقع الدقيق للمقبرة الجديدة لتجنب أي عبث أو تدخل غير قانوني.
وأكدت الوكالة في تقريرها أن المقبرة في صحراء الضمير تضم ما لا يقل عن 34 خندقا بطول إجمالي يصل إلى كيلومترين، مما يجعلها واحدة من أوسع المقابر التي أُنشئت خلال الحرب السورية وتشير تقديرات الشهود إلى أن عشرات الآلاف من الجثث قد دُفنت هناك.
وأوضحت أن المقبرة الأصلية في القطيفة بدأت تستخدم عام 2012 وتحتوي على جثث جنود وسجناء توفوا في سجون النظام ومستشفياته العسكرية.
وكشف عنها لأول مرة عام 2014 حين نشر ناشط حقوقي سوري صورا تظهر موقعها العام في ضواحي دمشق، بينما تم تحديد موقعها الدقيق لاحقاً عبر شهادات قضائية وتقارير إعلامية.
ومنذ فبراير 2019 وحتى أبريل 2021، كانت ست إلى ثماني شاحنات محملة بالتراب والجثث تتحرك ليلاً أربع مرات أسبوعياً من القطيفة إلى موقع الضمير، وفقا لشهود شاركوا في العملية. وقالوا إنهم جميعا يتذكرون الرائحة الكريهة التي كانت تفوح أثناء الرحلات، بمن فيهم سائقو الشاحنات والميكانيكيون وسائقو الجرافات وضابط سابق في الحرس الجمهوري شارك في مراحلها الأولى.
وقال ضابط سابق في الحرس الجمهوري إن فكرة نقل الجثث بدأت تتبلور في أواخر عام 2018، عندما كان النظام على وشك إعلان النصر في الحرب. وأضاف أن الهدف كان إخفاء الأدلة على الجرائم الجماعية استعداداً لمحاولة استعادة الاعتراف الدولي.
وأكد سائقان وضابط سابق أن الأوامر صدرت إليهم بإفراغ مقبرة القطيفة بالكامل وإخفاء أي دليل على عمليات القتل الجماعي. وبحلول سقوط النظام، كانت جميع الخنادق الـ16 في الموقع الأصلي قد أُفرغت تماماً.
ووفقا لجماعات حقوقية سورية، فقد اختفى أكثر من 160 ألف شخص داخل أجهزة الأمن التابعة للنظام السابق، ويُعتقد أن العديد منهم دُفنوا في المقابر الجماعية المنتشرة في أنحاء البلاد. ويرى خبراء أن عمليات النبش المنظم وتحليل الحمض النووي (DNA) قد تساعد في تحديد هويات الضحايا، لكنها تتطلب إمكانيات كبيرة تفتقر إليها البلاد حالياً.
وقال وزير الطوارئ وإدارة الكوارث رائد الصالح إن العدد الهائل للضحايا والحاجة إلى إعادة بناء النظام القضائي يعوقان العمل على هذا الملف. وأعلنت اللجنة الوطنية للمفقودين عن خطط لإنشاء بنك للحمض النووي ومنصة رقمية مخصصة لعائلات المفقودين، مؤكدة الحاجة لتدريب خبراء في الطب الشرعي وتحليل الحمض النووي.
وقال محمد العبد الله، مدير مركز العدالة والمساءلة في سوريا، إن عملية نقل الجثث العشوائية من القطيفة إلى الضمير كانت “كارثية” على عائلات الضحايا، مؤكداً أن إعادة التعرف على الرفات ستكون عملية معقدة للغاية.
وأضاف العبد الله أن تشكيل اللجنة الوطنية للمفقودين خطوة إيجابية من الحكومة الجديدة، لكنه أشار إلى أن اللجنة “ما تزال تفتقر إلى الموارد والخبراء اللازمين”.
وقال أحد السائقين الذين شاركوا في العملية إن الحديث عنها في حينه كان يعني الموت المحتوم، مؤكدا: “لم يكن أحد يجرؤ على مخالفة الأوامر، لأنك كنت قد تُدفن في الحفر نفسها”.
المصدر: “رويترز”