اللاهوت وأثره في منهج التفكير
تاريخ النشر: 4th, September 2024 GMT
أ.د. المهدي إمبيرش **
إن أهم ما يُواجه المفكرين والباحثين، تحديد مفاهيم المصطلحات، خاصة وأنَّ الكثيرين يتعاملون مع مصطلحات تتم ترجمتها من خلال قواميس الترجمة.
ولا شك أن المصطلح يعكس في الغالب الأكثر منهج التفكير الذي ينعكس على اللسان، ونفهم اللسان في البيان العربي، على أنه من باب المجاز، فهو ليس العضو أو الجارحة المعروفة؛ بل مايدور في الذهن من كل العمليات التي تنتج الأفكار مرتبطةً بمنهج التفكير، ومن ثم يحدد التعبير عنها أو عبورها جملةً من المعطيات تتعلق بمنطق الإلقاء ومنطق التلقي.
لقد أكد القرآن الكريم الاختلاف في الألسن، أي في مناهج التفكير بين الأمم واللسان ليس اللغة. ولأن لكل أمة روحها ومنهج تفكيرها فإن لها لسانها. ويمكن أن يتحدث الملايين لغةً، ولكن مناهج تفكيرهم تكون مختلفة وهي التي تتحكم في منطق التلقي.
دعونا الآن نلقي بعض الضوء على مصطلح اللاهوت، ذلك لأنه يرتبط بفهمٍ قديم مُتجدد للكون أثّر في مناهج التفكير؛ بل وفي الأفكار والمواقف والوسائل والأساليب وطبيعة العلاقات، ففي الاعتقاد القديم الذي لا يزال قائمًا أن الكون يتركب من ثنائية السماء والأرض وفي الخرافات والأساطير، أن الإله أو مجموع الآلهة مقرها في السماء ومن ثَم تكتسي السماء ميسم المقدس والإلهي والساكن والمفارق والمجرد وفي المقابل تكون الأرض المادة والمتحرك وربما المدنس وهنا تبرز الثنائية (Dualism)، كما يبرر هذا الصراع بين ضدين.
إن المشكلة التي برزت هي كيف يُملأ الفراغ بين السماء والأرض أي كيف يتم إيجاد الوسيط الذي بمثابة اللغة المشتركة بين الضدين من ثم يظهر لنا الثالوث (Trinity). ولنوضح ذلك نقدم مثالًا للخرافة اليونانية القديمة. فقد كانت هذه الخرافة تقول إن (أورانوس) هو الذي أوجد (جيا) الأرض، والذي تزوجها، ومن ثم تتخذ السماء طابع الذكورة والاستعلاء والأرض الأنوثة والتدني.
هنا تأتي الخرافة بـ"هرمس" المؤول الذي يستطيع أن يترجم لغة الإله إلى لغة البشر. والتأويل هو القول بمعرفة قصد الأول؛ ولأنَّ هذا الموضوع يحتاج إلى عدة مداخلات وإلى الانعكاسات التي تمت على الفكر الإنساني حتى اليوم، سنواصل العرض والتوضيح لاحقًا.
*************
** أ.د. مهدي مفتاح إمبيرش وزير الثقافة الليبي الأسبق، يعمل على درجة أستاذ في كلية الآداب قسم الفلسفة جامعة طرابلس ليبيا متحصل على درجة الماجستير من قسم الدراسات الشرقية بجامعة توسان، أريزونا في الولايات المتحدة بمرتبة الشرف في دراسة المقارنة بين جبران خليل جبران وفريدريك نيتشه، تحصل على درجة الدكتوراه في فلسفة التاريخ من جامعة لايبتزغ، والدكتوراه الثانية من جامعة طرابلس ليبيا في فلسفة الحضارة، وله العديد من الكتب والمؤلفات والدراسات المطبوعة.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
قصة صورة من الحرم.. بياض يُبهج وبكاء يُطمئن
في صورة التقطت لإحدى الصلوات اليوم داخل المسجد الحرام، تتجلى لحظة نادرة تجمع بين البهجة والخضوع في آنٍ واحد. بدا الحرم كما لو أنه قطعة من نور، اكتسى باللون الأبيض من أعلاه إلى أدناه، حيث امتزجت صفوف المصلين بثياب الإحرام، وتوحدت القلوب والوجوه في قبلة واحدة، تحت قبة السكينة والسكوت.
الآلاف سجدوا وركعوا في توقيت واحد، كأنما تماهت أجسادهم مع الدعاء، وتعمّدت أرواحهم بالرضا.
لحظة أظهرت عظمة المكان وقدسيته، وعمق الإيمان حين ينسكب صامتًا في عيون دامعة، وقلوب ترجف خشيةً ورجاء. تتسلل الآية الكريمة إلى هذا المشهد العابق بالسكينة: تراهم ركعًا سجدًا يبتغون فضلًا من الله ورضوانًا، فتبدو الصورة وكأنها تفسير بصري للنص، أو تأكيد حيّ لما تقوله السماء.
اللون الأبيض لم يكن مجرد مظهر، بل دلالة على الطهر والتجرد من الدنيا، وعلى المساواة التي لا تفرق بين غني وفقير، ولا بين جنسية وأخرى.
وفي هذه اللحظات، يبدو أن الأرض تعانق السماء، وأن الدعاء يصل أسرع من المعتاد، لأن النفوس مهيأة، والقلوب خفيفة، والخشوع حاضر بلا استئذان.
المشهد أسرّ الناظرين بالفعل، لكنه أيضًا أيقظ فيهم شعورًا لا يُوصف، كأن من لم يكن حاضرًا هناك، تمنى لو كان. هي لحظات تتكرر كل يوم في الحرم، لكنها لا تتشابه أبدًا.
الحرم
مشاركة