يحيى السنوار.. مقاوم بطل وليس مغامراً أو مقامراً
تاريخ النشر: 24th, October 2024 GMT
يمانيون – متابعات
لم يجرؤ أحد من حكام الدول العربية على نعي يحيى السنوار، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس وشهيد الأقصى وفلسطين والأمتين العربية والإسلامية، يستوي في ذلك المطبعون منهم مع الكيان وغير المطبعين. فهل لهذا الصمت المريب، والذي يشبه صمت الموتى وسكان القبور، تفسير مقنع؟
طرحت هذا السؤال على أحد أصدقائي، فرد علي مستنكراً: وهل كنت تتوقع من هؤلاء غير هذا المسلك المعيب؟ ثم أردف قائلاً: الخشية من إغضاب الأسياد هي التفسير الوحيد.
في كل شعوب العالم شريحة ضئيلة من نخب فكرية وسياسية ترتبط مصالحها دائماً بمصالح النخبة الحاكمة، أياً كانت، ثم ترتضي لنفسها دور المبرر لسياساتها مهما بلغ حجم الفجوة بين توجهاتها وطموحات شعوبهم المغلوبة على أمرها، بل قد يبلغ بها الشطط حداً يدفعها أحياناً إلى الترويج، عن قصد أو من دون قصد، للسردية التي يرددها أعداء الأمة!
قد يرى البعض أن من الأفضل تجاهل ما تلوكه تلك الشريحة الخارجة عن الإجماع الشعبي، غير أنني أعتقد أن بعض أطروحاتها بشأن “طوفان الأقصى” بالذات يثير البلبلة، وهو ما يستدعي الرد والتفنيد، حرصاً على صيانة وعي الأجيال الشابة وحمايته من أي تشوه أو انحراف.
فهناك من يردد، عن حسن نية حيناً، وعن سوء نية غالباً، مقولة مفادها أن “طوفان الأقصى” كان مقامرة غير محسوية العواقب، بالنظر إلى الخلل القائم في ميزان القوة بين الكيان الصهيوني وفصائل المقاومة الفلسطينية، ثم كان يجب أن نتوقع منه رداً همجياً يؤدي إلى حدوث ما وقع بالفعل. غير أن هذه السردية تتجاهل حقيقة جوهرية، وهي أن هذا الكيان لم يترك أمام الشعب الفلسطيني من خيار آخر سوى حمل السلاح، وهذا هو الدرس الذي استوعبه يحيى السنوار.
عاش يحيى السنوار حياة المنفى والتشرد، شأنه في ذلك شأن الأغلبية العظمى من الشعب الفلسطيني. وُلد في خان يونس عام 1962، داخل مخيم كانت أسرته اضطُرّت إلى اللجوء إليه والعيش فيه بعد تهجيرها قسراً من مدينة عسقلان التي استولى عليها الكيان الصهيوني في إبان “نكبة” 48، وأمضى السنوات الخمس الأولى من طفولته حين كان قطاع غزة واقعاً تحت الحكم المصري، أي قبل أن يتمكن الكيان الصهيوني من الاستيلاء عليه واحتلاله في إبان “نكسة” 1967، وهو يعني أنه عاش سائر فترة مرحلة طفولته وكل مرحلة شبابه في ظل احتلال صهيوني مباشر.
ولم يكد وعيه السياسي يتفتح حتى فوجئ الشاب يحيى السنوار بالرئيس المصري أنور السادات يطرق أبواب القدس. حينها فقط، وفي هذه المرحلة المبكرة من عمره، بدأ يدرك طبيعة الفوارق الجوهرية التي تفصل بين مصر الناصرية ومصر الساداتية، كما بدأ يدرك، في الوقت نفسه، أنه لم يعد أمام الشعب الفلسطيني سوى الاعتماد على قواه الذاتية لتحرير أرضه واستخلاص حقوقه المغتصبة.
ولأنه امتلك كل سمات الشخصية القيادية منذ نعومة أظفاره، كان من الطبيعي أن يصبح، في إبان دراسته في الجامعة الإسلامية في غزة، واحداً من أبرز زعماء الحركة الطلابية، قبل أن ينخرط لاحقاً في العمل السياسي المنظم ويتحول إلى مقاوم جسور يحمل السلاح في وجه المحتل.
كان عمر يحيى السنوار أقل من 25 عاماً حين تأسست حركة حماس عام 1987. ولأن منظمة التحرير الفلسطينية، بقيادة ياسر عرفات، والتي أُجبرت على الرحيل عن بيروت عقب الغزو الصهيوني للبنان عام 1982، كانت بدأت تتخلى بالتدريج عن الكفاح المسلح وتتجه نحو التسوية السلمية تحت شعار “إقامة الدولة المستقلة على أي جزء يتم تحريره من الأرض الفلسطينية المحتلة”، كان من الطبيعي أن تتمتع حركة حماس بجاذبية أكبر بالنسبة إلى مناضل نشط وشاب تخرج حديثاً من الجامعة الإسلامية.
صحيح أن تأثير حماس في الساحة الفلسطينية ظل محدوداً خلال الأعوام التي أعقبت تأسيسها، لكن إقدام منظمة التحرير الفلسطينية على إبرام “اتفاقية أوسلو” الكارثية عام 1993 أضعف كثيراً نفوذها ونفوذ الفصائل المشاركة فيها، وخصوصاً حركة فتح، وهو ما فتح الباب واسعاً أمام تعاظم نفوذ الفصائل الأخرى المتمسكة بالمقاومة المسلحة، وفي مقدمتها حركة حماس. وعندما نجح حزب الله عام 2000 في تحرير الجنوب اللبناني من الاحتلال الإسرائيلي من دون قيد أو شرط، أشعل هذا النجاح حماسة الفصائل الفلسطينية التي ترفع السلاح في وجه الاحتلال، ولا شك في أن حركة حماس كانت من أكبر المستفيدين من هذا التحول المهم في موازين القوى الإقليمية.
أُلقي القبض على السنوار مرتين، الأولى في عام 1982 والثانية في عام 1983، ولم يمكث في المعتقل سوى عدة أشهر في كل مرة، لكن حين أُلقي القبض عليه مرة ثالثة عام 1988 حُكم عليه بالسجن المؤبد عدة مرات، ومكث فيه أكثر من 22 عاماً متواصلة، أي ما يزيد على ثلث عمره بالكامل، إلى أن أفرج عنه في صفقة شاليط عام 2011.
تجدر الإشارة هنا إلى أنه لم يضيّع وقته طوال فترة سجنه، فلقد أتقن اللغة العبرية خلال تلك الفترة، الأمر الذي مكنه من متابعة تطور الحياة السياسية داخل الكيان الصهيوني وتفاصيلها، إلى أن أصبح خبيراً يُعتَدّ به في هذا الشأن، كما دفعته ميوله الأدبية إلى كتابة رواية اختار لها عنوان “الشوك والقرنفل”، ونُشرت عام 2004. وبعد خروجه من السجن بعام واحد، أي في عام 2012، انتُخب عضواً في المكتب السياسي لحركة حماس، التي أصبح رئيساً لمكتبها في قطاع غزة ابتداءً من عام 2017، وأُعيد انتخابه للمنصب نفسه عام 2021.
وهكذا أصبح السنوار هو الحاكم الفعلي لقطاع غزة لمدة 7 أعوام متواصلة، لكنه لم يكن حاكماً تقليدياً لأنه تمكن من تحويل هذا القطاع المحاصَر، براً وبحراً وجواً، إلى ورشة عمل لتصنيع السلاح وتخزينه، وإلى ساحة لتدريب المقاتلين، إلى أن تمكن من التخطيط والتنفيذ لعملية “طوفان الأقصى” التي أكد الكيان الصهيوني أن يحيى السنوار هو عقلها المدبر، وبعيد عن أعين أجهزة الأمن الإسرائيلية التي استطاع خداعها بكل مهارة وحذق.
للذين يدّعون أن “طوفان الأقصى” كان مقامرة غير محسوبة النتائج، يكفي أن نذكرهم بأن عمر “اتفاقية أوسلو” التي راهنوا عليها لإقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية عند حدود 67، يزيد الآن على 30 عاماً، وبأن الحكومات المتعاقبة التي أدارت الكيان طوال تلك الفترة كانت تتجه نحو التطرف يميناً باطّراد، إلى أن وصلنا إلى الحكومة الحالية التي يتحكم فيها اليمين الديني والعنصري، والتي يرى جميع المراقبين أنها أكثر الحكومات تطرفاً في تاريخ الكيان وأكثرها إصراراً على رفض قيام دولة فلسطينية مستقلة من حيث المبدأ، بل ذهبت في تطرفها إلى حد التلويح صراحة بأنها تخطط تقسيمَ المسجد الأقصى، زمانياً ومكانياً، تمهيداً لهدمه وإقامة “الهيكل المزعوم” على أنقاضه.
فإذا أضفنا إلى ما تقدم أن دولاً عربية متعددة كانت بدأت تطبع علاقاتها بالكيان، في انتهاك صارخ للمبادرة التي تبنتها قمة بيروت عام 2002 التي اشترطت قيام دولة فلسطينيية أولاً، لأدركنا بوضوح تام أن القضية الفلسطينية كانت في طريقها إلى التصفية النهائية، وخلال فترة زمنية قصيرة لا تتجاوز فترة ولاية الحكومة الحالية للكيان. ولولا “الطوفان” لما عادت هذه القضية إلى الحياة، ولما أصبحت تتصدّر جدول أعمال النظامين العالمي والشرق أوسطي مثلما هو حادث الآن.
القول إن السنوار هو المسؤول عما لحق بغزة من دمار، بسبب دوره في عملية “الطوفان”، هو ادعاء لا سند له. فالكيان الصهيوني هو الذي ارتكب جريمة الإبادة في حق الشعب الفلسطيني، وهو الذي دمر قطاع غزة وجعله غير قابل للحياة، ثم يتعين أن يعاقَب على جرائمه.
فللحروب قواعد وأصول ينظمها القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، وانتهكهما الكيان معاً بطريقة أدت إلى محاكمته أمام محكمة العدل الدول بتهمة ارتكاب أعمال إبادة جماعية، وإلى إقدام المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية على طلب إصدار أمر توقيف في حق كل من رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير دفاعه، وتقديمهما للمحاكمة بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وهو موقف يواجهه الكيان لأول مرة في تاريخه.
صحيح أن النظام الدولي، الذي أصيبت مؤسساته بالشلل بسبب الفيتو الأميركي، وكذلك النظام العربي الرسمي، والذي عجز بدوره عن القيام بأي جهد لوقف جرائم الكيان، يُعَدّان بدورهما مسؤولين عما جرى للشعب الفلسطيني بسبب تقاعسهما عن معاقبة الكيان، غير أنه لن يكون في وسع الكيان بعد اليوم، إذا تمكن من النجاة والبقاء في قيد الحياة، أن يدعي أنه واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط وسيفقد تعاطف الرأي العام العالمي إلى الأبد.
كان يُفترض أن يكون يحيى السنوار تحت الأرض لإدارة الحرب من داخل غرفة العمليات، غير أنه اختار أن يحمل السلاح وأن يشتبك بنفسه مع العدو في قتال مباشر.
وأيا كانت الأسباب التي دفعته إلى هذا الخيار، والتي لا بد من أن تكون أسباباً وجيهة ومقنعة، فلا شك في أن هذا المشهد كاشف بذاته عن المعدن الحقيقي لبطل لا بد من أن يخلده التاريخ العربي والتاريخ الإنساني على مر الزمان. لم يكن هذا الرجل الفذ مغامراً ولا مقامراً، لكنه كان بطلاً مقاوماً، ومن المؤكد أن الشعب الذي أنجبه قادر على أن ينجب الكثيرين من أمثاله. تحية إلى روحه الطاهرة.
————————————————-
ـ موقع الميادين نت – حسن نافعة
المصدر: يمانيون
كلمات دلالية: الکیان الصهیونی الشعب الفلسطینی یحیى السنوار طوفان الأقصى حرکة حماس إلى أن غیر أن
إقرأ أيضاً:
ترامب يغير الشرق الأوسط وليس نتنياهو
تظهر قيمة تحليل أو مقال رأي عندما يتمكن الكاتب من أن ينفع نفسه أولًا وينفع القارئ ثانيا في تبديد الضباب الكثيف الذي تطلقه أوهام أو حملات إعلامية تحتوي على نصف الحقيقة وتستهدف منع الجمهور من أن يفهم حدثا سياسيا على حقيقته.
ينطبق هذا على زيارة ترامب للمنطقة واختياره للدول الثلاث الأغنى فيها وهم السعودية وقطر والإمارات ليزورها ويحصل منها بتعبيره هو على أربعة تريليونات دولار.
من أولى هذه الأوهام أو أنصاف الحقائق هو الادعاء بأن رحلة ترامب كانت مجرد رحلة تجارية وإجراء الصفقات لرئيس يأتي من عالم البيزنس ولم تتضمن تغيرات جيو-استراتيجية كارثية على المنطقة. وثانيها: إن دول الخليج التي زارها ترامب قدمت تريليونات الدولارات مجانا.. تماما كما كانت تقدم عواصم العالم جزية لإمبراطور روما ولم تحصل في مقابلها -من وجهة نظر نخبتها الحاكمة- على مكاسب مهمة.ثالثها: هذه الأوهام إن ما حدث في الجولة كان تعبيرا عن شرخ في العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية وأن واشنطن باتت تنظر لإسرائيل كعبء وليس كشريك استراتيجي وأنها استبدلت بها أطرافا عربية وإقليمية.
رابعها: وأكثرها مرارة في الحلق ووجعا في القلب هي ما بشر به إعلام عربي قبيل زيارة ترامب من أنه سيقدم حلًا شاملًا للصراع العربي-الإسرائيلي وليس فقط إنهاء الحرب في غزة وإنهاء حصار التجويع ثم أصابت هذه الحملة الخرس المفاجئ عندما أعاد ترامب «اللامعقول» السياسي متحدثا في عقر دار العرب وفي وقت توقيع عقود تريليونات الدولارات من هؤلاء العرب! عن تملك أمريكي لقطاع غزة وتحويله «منطقة حرية»!!
إقامة الحلف السني العربي-التركي مع إسرائيل ضد إيران: هذا في الرد على نصف الحقيقة الأول فليس صحيحًا أن كل ما حققه ترامب هو تجاري فحسب متضمنا بتعبيرات عقد أكبر صفقات في التاريخ. فلقد حقق ترامب في جبهة السياسة أكبر مما حققه في جبهة التجارة. أنجز ترامب ما فشل فيه في ولايته الأولى من إقامة التحالف الاستراتيجي السني «العربي-التركي» مع إسرائيل تحت القيادة الأمريكية وهو المخطط له أن يواجه الخطر الإيراني ويقلّص النفوذ الصيني في هذه المنطقة الحيوية.
صحيح أن هذا التحالف موجود «عمليا» من خلال صيغتين: الأولى دمج إسرائيل في مقر وخطط القيادة المركزية الأمريكية في البحرين التي تنسق بينها وبين الدول العربية الحليفة لواشنطن وكذلك من خلال منظمة «النقب» التي أثبتت وجودها العملي بمساعدة أطراف عربية لإسرائيل في التصدي للهجمات الإيرانية والحوثية، إلا أن الأمر بات بعد جولة ترامب أكثر أهمية وأوسع نطاقا.
بلقائه الرئيس السوري أحمد الشرع ورفع العقوبات انضمت سوريا إلى المعسكر الأمريكي وانتقلت مع إسرائيل إلى مرحلة انتقالية مشابهة لمرحلة مصر السادات بين (١٩٧٥ و١٩٧٧) ستقودها -كما قادت القاهرة- تلقائيًا إلى مرحلة الصلح والتطبيع. هذا الانقلاب الجيو-استراتيجي هو انتصار لتركيا صاحبة النفوذ السياسي الأعظم على دمشق منذ ٨ ديسمبر ويوقف التنافس القائم بينها في سوريا مع إسرائيل ويوجهه أكثر نحو تعاون وتقسيم نفوذ. ثم فمن وجهة نظر التحليل السياسي يصبح التحالف الإقليمي التابع لواشنطن المعادي لإيران تحالفا سنيًا-إسرائيليًا يشمل العرب وتركيا عضو الناتو وليس تحالفا عربيًا-إسرائيليًا فحسب. واقعية ترامب لم تجعل الإعلان «غير الرسمي» بالطبع عن قيام هذا التحالف مشروطا كما في السابق بانضمام أطراف فيه إلى اتفاقات التطبيع الإبراهيمي تاركا هذه المهمة لعامل الوقت. ما فعله ترامب في جولته من ضم سوريا وتركيا عمليًا للتحالف الإقليمي الذي سعت واشنطن إليه هو زلزال تكتوني هائل.حققت الدول التي جرت فيها الزيارة مكاسب ولو نسبية حتى لو كانت في نظر البعض مؤقتة، فدول الخليج اتفقت على تباينات مواقفها أن هجومًا عسكريًا إسرائيليًا أو أمريكيًا على إيران في هذه المرحلة سيؤدي إلى تفجير المنطقة بحرب قد تستمر لسنوات كحرب الخليج الأولى. حرب قد تدمر فيها منشآت النفط في كامل المنطقة وتغلق مضائق حيوية مثل هرمز وتعرض الوحدة الوطنية في بعض البلدان لهزات وتتعثر خطط التنمية الطموحة بالمنطقة. وكانت رسالتها واضحة قبل ربما أكثر من شهرين لترامب: الحصول على هذه التريليونات الهائلة مشروط بمنع خطة أعدها نتنياهو لضرب إيران ودفع ترامب عن خيار الحرب لخيار التفاوض مع طهران. في جولته ولكي يثبت أنه حقق هذا المكسب أو المقابل لدول الخليج تحدث صراحة عن أن إيران وأمريكا توصلتا إلى مشروع اتفاق. تقدير متفائل أكده الجنرال شمخاني من طهران عندما أكد أن إيران مستعدة للتخلي عن عمليات التخصيب العالية التي تجعلها قريبة من السلاح النووي وهو صلب موقف ترامب التفاوضي الذي بات يطالب بعدم امتلاك طهران لسلاح نووي وليس تفكيك برنامجها النووي كله.مكسب ثاني حققته بعض دول الخليج على الأقل، من وجهة نظر ترامب، ألا وهو عدم تردده في الإفصاح بأنه لا يعطي الدول العربية التي تعاني من ضائقة اقتصادية مهما كانت أهميتها الجيو-استراتيجية الوزن الذي يعطيه للدول الغنية.. وإنه ينقل عصا القيادة العربية في التصور الاستراتيجي الأمريكي إلى السعودية.
ليس صحيحًا أيضًا أن استبعاد إسرائيل من هذه الجولة أو لقائه الشرع ورفع العقوبات وتوسيع الحلف المناوئ لإيران ليشمل تركيا كان شرخًا في علاقات واشنطن-تل أبيب. قد يكون موجهًا لنتنياهو كشخص تجاسر على تخطي ترامب في الادعاء بأنه هو القائد الذي سيغير خرائط الشرق الأوسط ولكنه ليس موجهًا ضد إسرائيل. التوصيف الصحيح لإنجاز ترامب بضم سوريا لمعسكر واشنطن وتعهد الشرع له بعدم العداء مع إسرائيل يصب في صالحها ويحقق لإسرائيل ما يعجز قصر نظر نتنياهو وخضوعه لابتزاز ائتلافه الحكومي المتطرف عن استثماره. نصر تاريخي حققه ترامب كانت تحلم به وتسعى إليه إسرائيل منذ منتصف الخمسينيات عبر التحالفات مع تركيا والعراق وباكستان آنذاك في مشروعات حلف بغداد والحلف الإسلامي لكنها أخفقت فيه بسبب قوة مصر الناصرية آنذاك ومع غياب هذا الدور المحوري للقاهرة الآن فإن ترامب يحقق لإسرائيل ودون أن تقدم تنازلًا واحدا في احتلالها للأراضي الفلسطينية والسورية واللبنانية.
الوهم الرابع الذي يحقق تفكيكه فهما أفضل لزيارة ترامب ومكاسب واشنطن وتل أبيب الجيو-استراتيجية منها هو المكانة الهامشية التي احتلتها فلسطين في جولته. ترامب الذي ضغط على نتنياهو ليقبل وصاغرا خيار المفاوضات مع إيران بدلا من الحرب كان بوسعه ومقدوره ممارسة الضغط نفسه عليه في مفاوضات ويتكوف بالدوحة لكي يقبل بإنهاء الحرب ودخول المساعدات. لكنه امتنع عن ذلك أولًا: لأن ترامب كرجل أعمال فهم جيدًا أن القضية الفلسطينية ليست أولوية لدى العرب وأنها ليست شرطًا لإتمام الصفقات المربحة. وثانيًا: وهذا هو الأهم لأن العرف غير المعلن للعلاقة منذ هاري ترومان هي طاعة إسرائيلية لواشنطن في الشؤون الدولية والإقليمية مقابل إطلاق العنان لإسرائيل في القضية الفلسطينية. ثالثًا: لأن ترامب متفق كلية مع أهداف ترامب في فلسطين وهي إزالة المقاومة المسلحة ورمزها الحالي حماس من غزة ومن الوجود إن أمكن. لهذا في الوقت الذي كانت تنهال فيه مئات المليارات العربية على ترامب في أيام زيارته الأربعة للمنطقة كانت تنهال مئات القنابل الأمريكية على غزة في المجزرة الأسوأ منذ شهور.
حسين عبدالغني إعلامي وكاتب