قيادات تعصف بلا مطر
تاريخ النشر: 18th, February 2025 GMT
د. سعيد الدرمكي
القيادة الحقيقية لا تُقاس بالمناصب أو الألقاب؛ بل تتجلى في القدرة على إلهام الآخرين، وترجمة الرؤية إلى واقع ملموس، وخلق تأثير مستدام. في عالم الأعمال، هناك قادة أحدثوا تحولات جذرية، فعززوا الأداء، ونقلوا شركاتهم من "جيد إلى عظيم".
من بين هؤلاء ستيف جوبز في شركة أبل الأمريكية، وجاك ويلش في جنرال إلكتريك الأمريكية أيضًا، اللذان لم يكتفيا بإدارة مؤسساتهما؛ بل أصبحا جزءًا من هويتها، مدفوعين برؤية بلا حدود وإنجازات ذات قيمة حقيقية.
القائد الذي يفتقر إلى رؤية استراتيجية واضحة، ويتجنب اتخاذ القرارات الحاسمة، ويفشل في التواصل الفاعل أو بناء بيئة عمل إيجابية، كمن يسير بلا بوصلة. هؤلاء القادة ينشغلون بالمظاهر والسلطة على حساب بناء الثقة وتعزيز العلاقات مع فرق العمل. يجيد بعض القادة فن الخطابة وصياغة الشعارات الرنانة حول التغيير، لكن غياب التنفيذ يكشف ضعف قراراتهم، التي تفتقر إلى استراتيجيات محكمة وخطوات عملية ملموسة. وهنا يظهر الفرق جليا بين القائد القادر على التحفيز وتحقيق الأهداف، وبين من يكتفي بالوعود دون إنجاز ملموس.
تُعد الترقية السريعة دون تأهيل كافٍ من أبرز أسباب الفشل القيادي. وفقًا لدراسة أجرتها مؤسسة "جالوب" البحثية، فإن 82% من قرارات تعيين المديرين لا تستند إلى معايير الكفاءة الحقيقية؛ مما يؤدي إلى شغل مناصب قيادية بأشخاص غير مؤهلين، وهو ما ينعكس سلبًا على الأداء المؤسسي. ومن بين العوامل الأخرى المؤدية إلى الفشل: مقاومة التغيير، وضعف القدرة على مواكبة التطورات، وغياب المهارات القيادية والإدارية. علاوة على ذلك، فإن انشغال القادة بالتفاصيل الصغيرة دون تفويض الصلاحيات يحدّ من الابتكار، ويؤثر على كفاءة المؤسسة بأكملها.
القيادة غير الفاعلة تترك بصمة سلبية على المؤسسات؛ حيث يؤدي ضعف القائد أو تسلطه إلى تآكل الحافز وانخفاض الإنتاجية؛ مما يزيد معدلات دوران الموظفين. في بيئة كهذه، يسود التوتر وتختفي روح التعاون، ما يخنق الابتكار ويعرقل النمو. ووفقًا لدراسة نشرتها مجلة "هارفارد بزنيس ريفيو" المرموقة، أفاد 50% من الموظفين بأنهم استقالوا بسبب سوء الإدارة، مما يؤكد أن القيادة الفاعلة ليست مجرد ميزة، بل ركيزة أساسية لاستدامة النجاح المؤسسي.
ويكمُن الفارق الجوهري بين القائد الناجح والقائد غير الفاعل في الرؤية والنهج. فالقائد الناجح يمتلك رؤية واضحة تشكل بوصلة توجيهه، وتلهم فريقه نحو الإنجاز، بينما يتكئ القائد غير الفاعل على سلطته فقط دون إلهام حقيقي. الأول يفتح أبواب الحوار، يستمع بوعي إلى التغذية الراجعة، ويتخذ قرارات قائمة على التفكير الاستراتيجي، في حين أن الآخر يغلق دائرة التواصل ويكتفي بفرض الأوامر. وعند مواجهة الأزمات، يظهر التباين بوضوح؛ فالقائد غير الناجح يتردد أو يندفع نحو قرارات متسرعة، بينما يتعامل القائد الناجح بمرونة وذكاء، محولًا التحديات إلى فرص، مما يعزز استدامة النجاح المؤسسي.
التحول من قائد غير ناجح إلى قائد فاعل ليس مجرد خطوات معدودة؛ بل رحلة مستمرة تتطلب وعيًا ذاتيًا والتزامًا حقيقيًا بالتطور؛ فالقائد الحقيقي لا يُولَد قائدًا؛ بل يصقل مهاراته عبر التعلُّم المُستمر، والاستماع الفاعل، وبناء بيئة قائمة على الشفافية والثقة. وإتقان فن التحفيز، وتقدير الجهود، والاستثمار في تطوير الفريق ليس ترفًا، إنما هو جوهر القيادة الفاعلة. الفرق بين القائد الملهم والقائد المتسلط يكمن في نهجه؛ الأول يمكّن فريقه، فيوقظ فيهم روح الإبداع والالتزام، بينما الآخر يفرض سلطته، فيقتل الدافعية ويحدّ من الإنجاز. القيادة ليست مجرد إدارة مهام، بل هي فن بناء العقول، وإطلاق الطاقات، وصناعة مستقبل مستدام يزدهر فيه الجميع.
وفي نهاية المطاف، القيادة ليست مجرد ألقاب براقة أو خطابات تحفيزية عابرة؛ بل هي الأثر العميق الذي يتركه القائد في مؤسسته وعلى من حوله. والقائد الناجح يشبه المطر الذي يغذي الأرض، فينعش العقول، ويزرع الإلهام، ويخلق بيئة تنبض بالحياة والابتكار. أما أولئك الذين لا يتركون سوى العواصف الجافة، فقد يُحدثون ضجيجًا مؤقتًا، لكن أثرهم يتلاشى سريعًا دون أن يتركوا إرثًا مستدامًا. والمؤسسات العظيمة لا تُبنى بالكلمات وحدها؛ بل تحتاج إلى قادة يجمعون بين الرؤية الواضحة والتنفيذ المحكم، لضمان نجاح لا يقتصر على الحاضر؛ بل يمتد ليشكل مستقبلًا أكثر إشراقًا واستدامة.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
شرق أوسط على حافة الأيديولوجيا.. من التخادم إلى الصدام.. !
لم تكن المواجهة الأخيرة بين إيران وإسرائيل مجرد حرب تقليدية دامت اثني عشر يومًا، بل لحظة فارقة تكشف عن عمق التحولات البنيوية في توازن القوى داخل الشرق الأوسط، وعن مآلات الصراع الإقليمي في زمن يتداخل فيه الواقعي مع الميتافيزيقي، والسياسي مع الديني، والمصلحي مع الإيديولوجي.
اعتاد المحللون لعقود أن يفسروا تعقيدات هذا الصراع عبر نظريتين مركزيتين:الأولى ترى العلاقات الدولية بوصفها لعبة توازن قوى تحكمها اعتبارات الردع والمصالح القومية والأمن، والثانية، تقرأ العلاقة بين طهران وتل أبيب من خلال منظور تاريخي يتحدث عن "تخادم وظيفي" قديم ومتجدد، يتستر بعداء ظاهر يخفي مصالح متبادلة.
لكن كلا النموذجين يعجز عن الإحاطة بظاهرة مركّبة بهذا القدر من التشابك، حيث تتلاقى الأيديولوجيا مع منطق الدولة الحديثة، وتختلط المصلحة بالرسالة، وتتحول العقيدة إلى أداة لصناعة السياسة، وربما إلى محرّك لها في لحظات التحوّل الكبرى.
الحرب لم تكن استعراضًا عسكريًا فحسب، بل إعلان نهاية زمن المناورة، إسرائيل، بعد هول صدمة السابع من أكتوبر، فقدت قدرتها على الردع داخل غزة، وخسرت هيبتها في نظر حلفائها، وأدركت أن أدوات "الاحتواء" القديمة مع أذرع إيران لم تعد مجدية. كان لا بد من قلب الطاولة، حتى لو كلفها ذلك فتح أكثر من جبهة.
في المقابل، لم يكن النظام الإيراني راغبًا في حرب مفتوحة. طالما بنى شرعيته على خطاب المواجهة دون الدخول في مغامرات مباشرة، مستندًا إلى شبكة من الأذرع والميليشيات التي تمارس "الردع بالوكالة". لكن حين ضُربت مصالحه المباشرة، لم يعد ممكنًا الاكتفاء بالصمت.
الأخطر في هذا المشهد هو الدور الأمريكي، الذي تجاوز هذه المرة منطق المصالح التقليدي نحو خطاب ديني معلن، تُهيمن عليه أفكار إنجيلية متطرفة. أصوات في الكونجرس، ورسائل من سفراء، وتصريحات علنية تؤكد أن إسرائيل بالنسبة لكثير من الساسة الأمريكيين لم تعد مجرد حليف إستراتيجي، بل وعد إلهي، ونبوءة يجب تحقيقها.، !
هذا التداخل بين المقدّس والسياسي، بين الخرافة والقوة، يحول الصراع من نزاع على النفوذ إلى معركة وجودية، لم تعد سوريا ولبنان والعراق ساحات جانبية، بل مفاتيح أساسية في إعادة تشكيل الإقليم. النظام الإيراني يرى أن سقوط حزب الله أو انهيار النظام السوري هو بداية نهايته. وإسرائيل ترى أن أي بقاء لهذه المحاور هو تهديد دائم لبقائها.
ورغم أن الدولة الحديثة في ظاهرها تقوم على مؤسسات، إلا أنها في لحظات الحسم تكون رهينة خطابها الثقافي والديني.. الأيديولوجيا هنا ليست مجرد خطاب سياسي، بل بنية شعورية تتغلغل في كل قرار، وكل حساب، وكل صفقة.
الشرق الأوسط يخرج من هذه الحرب أكثر تشظيًا، وأكثر وضوحًا في الوقت ذاته. لم تعد الرهانات قائمة على "تفاهمات ظرفية"، بل على اختيارات كبرى تعيد رسم الحدود والولاءات والهويات.
ما نشهده ليس مجرد حرب، بل صدام رؤى حول المستقبل. بين نظام إيراني يعتقد أن تصدير ثورته ضرورة للبقاء، ودولة إسرائيلية ترى في التفوق العسكري غطاءً لعقيدة إقصائية، لا تعترف بوجود الآخر.
السؤال الآن: هل نستطيع كعرب أن نخرج من دائرة التوظيف في هذه المعركة.. ؟ أم نظل مجرد أوراق في صراع أكبر منا جميعًا.. .؟
إن ما بعد الحرب هو اختبار للوعي، وللإرادة السياسية، وللقدرة على بناء مشروع يتجاوز التبعية والتخادم، نحو فهم جديد للذات، ودور جديد في الإقليم والعالم.، !! [email protected]
اقرأ أيضاًالرئيس السيسي يتلقى اتصالاً من زيلينسكي لبحث تطورات الأزمة الأوكرانية والأوضاع في الشرق الأوسط
بوتين وماكرون يناقشان هاتفيًا الوضع في أوكرانيا والشرق الأوسط