الكتاب: أمريكا... "إسرائيل" الكبرى... التاريخ الحقيقي لأمريكا في العالم العربي
 الكاتب: د. عبد الحي زلوم
الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2009 ـ عدد الصفحات 408

هل فعلاً أنَّ اللوبي الصهيوني يمتلك القدرة على توجيه القرار العام الخارجي الأمريكي، لما يخدم مصلحة "إسرائيل"، وليس أمريكا؟ وهل من الصحيح أن هناك سلطة أحادية الجانب في السياسة الخارجية الأمريكية، هي سلطة اللوبي الصهيوني، ولاسيما في الشق المتعلق بالشرق الأوسط تمارس ضغطاً مباشراً على الرؤساء الأمريكيين، حيث أن نجاح أو إخفاق أي رئيس أميركي يبقى مرهونا بأموال وأصوات اللوبي الصهيوني، كما تروج له الفكرة السائدة في العقل السياسي العربي؟

في سياق المحاولات لفهم طبيعة العلاقة بين "إسرائيل" والولايات المتحدة الأمريكية، كثيرا ما يجري تناولها من زاوية محددة، أو بنظرة أحادية الجانب، إذْ تحرص "إسرائيل" والحركة الصهيونية العالمية على تقديم صورة مضخمة لنفوذ اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة الأمريكية وهي تهدف من وراء ذلك تخويف أعداء "إسرائيل" وإظهار هذه الأخيرة بمظهر القوي المتحكم في القرار السياسي الأمريكي ليبدو وكأنه يتقمّص سمات الموقف الإسرائيلي بصورة لا يستطيع أحّد أن يفرّق بين صوت رئيس الوزراء الإسرائيلي من صوت الرّئيس الأمريكي في كل الأوساط الدّوليّة داخل وخارج الأمم المتّحدة.



وفيما درج الفكر السياسي العربي على إظهار الولايات المتحدة أمة تستحق الإشفاق، إذ إن قرارات هذه الدولة العظمى وتوجهاتها وسياساتها تصنع على يد الطباخين اليهود، حيث تستثمر "إسرائيل" هذه الصورة المضخمة لتيئيس العرب والمسلمين من إمكانية التأثير في الرأي العام الأمريكي والسياسة الخارجية الأمريكية المنحازة إلى جانب الكيان الصهيوني، فإنَّه يهمنا من جانبنا أن نؤكد على أنَّ "إسرائيل" ليست إلا مجرد أداة أمريكية تقوم بدور وظيفي لحماية المصالح الاستراتيجية الأمريكية فى منطقة الشرق الأوسط، ولاسيما بعد أن شيعت الولايات المتحدة مبدأ مونرو لتخرج من عزلتها التقليدية إلى معترك الصراع الدولي، وتعاظم دور الأداة لتتحول إلى عصا غليظة لإخضاع شعوب المنطقة وتنفيذ المخطط الأمريكى فى الهيمنة. وتدحض الحرب العدوانية الإسرائيلية على لبنانفي عام 2006 بما لا يقبله الشك نظرية اللوبي الصهيوني، لأنَّنا وجدنا بأن أمريكا كانت أكثر حماسا لخوض "إسرائيل" هذه الحرب، وكانت متمسكة بإطالة أمدها العدواني، وذلك من أجل تقديم مساعدة لما يسمى بحرب أمريكا على الإرهاب. ف"إسرائيل" في تلك الحرب كانت تقوم بوظيفة حربية في خدمة استراتيجية الإمبريالية الأمريكية...

هل إنَّ اللوبي الصهيوني هو الذي يسير السياسة الأمريكية؟

ومع ذلك، فإن الدكتور عبد الحي زلوم في كتابه: أمريكا..."إسرائيل" الكبرى، يقدم لنا صورة مضخمة جدا عن اللوبي الصهيوني، إذ يقول: "من أبلغ المؤشرات على مدى ما يحظى به اليهود من نفوذ في الولايات المتحدة ما صدر عن المرشح الديمقراطي للانتخابات الرئاسية الأخيرة. فما إن ضمن باراك أوباما ترشيح الحزب له حتى: "حثّ الخطى إلى مؤتمر تعقده لجنة العلاقات الأمريكية ـ الإسرائيلية AIPAC، أقوى جماعات الضغط الإسرائيلي في البلاد، وهناك ألقى كلمة كسر فيها سائر الأرقام القياسية المسجلة في إظهار الخنوع وممارسة التزلف على حد تعبير الكاتب وعضو الكنيست الصهيوني السابق يوري أفنيري في عموده المنتظم بتاريخ 10 يونيو/حزيران 2008 وأضاف أفنيري: "انظروا كيف أن أول عمل أقدم عليه أوباما بعد ضمان ترشيح الحزب له كان التضحية بمبادئه.. وها قد أقبل أوباما زاحفاً وسط الغبار لينكب على أقدام "إيباك" ويخرج عن خطه المعهود في تبرير سياسة تناقض تماماً أفكاره التي طالما نادى بها".

الذي يهم فعلاً هنا هو وجه التشابه الكبير بين المشروعين الأمريكي والصهيوني، على المستويين: الروحي والمادي لدرجة يمكن معها القول إن: "إسرائيل" ليست سوى أمريكا الصغرى، وإن أمريكا هي "إسرائيل" الكبرى. وجدت في هذه الجملة أبلغ تعبير عن مضمون كتابي فوقع عليها اختياري كعنوان للكتاب..وجاء في مقالة أفنيري أيضاً القول: "الذي يهم فعلاً هنا هو وجه التشابه الكبير بين المشروعين الأمريكي والصهيوني، على المستويين: الروحي والمادي لدرجة يمكن معها القول إن: "إسرائيل" ليست سوى أمريكا الصغرى، وإن أمريكا هي "إسرائيل" الكبرى. وجدت في هذه الجملة أبلغ تعبير عن مضمون كتابي فوقع عليها اختياري كعنوان للكتاب".

تعمل اللجنة الأمريكية ـ الإسرائيلية للشّؤون العامّة التي تعرف اختصارا باسم "ايباك"AIPAC ، The American-Israel: Public Affairs Committee ، وتضم في عضويّتها عدّة منظّمات صهيونيّة مثل بناي بريث، وتعقد اللجنة مؤتمراً سنويّاً يحضره عدد كبير من الشّخصيّات الأمريكية السّياسيّة من مجلس الشّيوخ والنّوّاب وغير ذلك، تعمل على تضخيم دورالنفوذ الصهيوني في الولايات المتحدة الأمريكية، من خلال الصورة التي تقدمها في أجهزة الإعلام الأمريكية والعالمية على أساس أنها هي التي تتحكم بالقرار السياسي الأمريكي.

ويحاول اللوبي الصهيوني الموالي لـ "إسرائيل" داخل أمريكا أن يوهم الرأي العام العالمي، ولا سيما الرأي العام العربي، من أنه يمتلك قدرة خاصة على التأثير من خلال اتصاله برجال الإدارة والشيوخ والنواب وامتلاكه لقاعدة معلوماتية وإمكانيات التأثير على الحملات الانتخابية من خلال المساهمة في تمويلها.

وفي الحقيقة، فإن هذا التأثير في مجرى الانتخابات الأمريكية هو محدود جدا، لأن الذي يقررمصير الانتخابات الرئاسية هو المجمع الصناعي العسكري في الولايات المتحدة والاحتكارات النفطية الأمريكية، التي تأتي دائما بالرئيس المناسب الذي يخدم مصالحها في كل مرحلة تاريخية محددة.

ويستند اللوبي الصهيوني في تضخيم دوره لعدة عوامل أهمها مكانة دولة "إسرائيل" في الاستراتيجية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، ودور القوة العظمى التي تقوم بها أمريكا اليوم والمرجعية الأيديولوجية ـ الثقافية الأمريكية والتي تنعكس في علاقة المجتمع الأمريكي بالجالية اليهودية القائمة على الإدماج والتبني والعلاقة الخاصة بالدولة الإسرائيلية.

لقد استطاع اللوبي الصهيوني أن يبني أوهاماً دعائية حول المصالح المشتركة بوصفها أساس العلاقة بين الولايات المتحدة و"إسرئيل"، وكيف هيأ دعاوى إعلامية وسياسية مغلوطة، هدفها إبراز قوة اللوبي الصهيوني هذا وكأنها هي التي تسير السياسة الأمريكية، وهذا ما يتناقض مع منطق الأمور وحقيقة السياسة الأمريكية، إذ كيف يمكن لإمبراطورية بقوة وجبروت الولايات المتحدة الأمريكية أن تسير بقوة لوبي معين، حتى لوكان صهيونيا.

لقد شاعت دائما مقولة في الدوائر العربية الرسمية بأن السياسة الأمريكية الخارجية في الشرق الأوسط يوجهها اللوبي الصهيوني الذي يصول ويجول ويرهب الساسة الأمريكيين لكي يقدموا دائما المصالح الإسرائيلية حتى لو تعارضت مع المصالح القومية الأمريكية.

ولكن لم تظهر دراسات تسلط الضوءعلى الحجم الحقيقي للوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الأمريكية، لأن مثل هذه الدراسات تعتبر من المحرمات. والواقع أنه في مختلف المحطات كانت قوة اللوبي الصهيوني مستمدة من طبيعة النظام السياسي الأمريكي وليس في مواجهته، ومن حيوية شبكة العلاقات التي صاغتها مجموعة المنظمات التي تمثل اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة، ومن طريقة عمل النظام السياسي الأمريكي ذاته، لا من القوة الذاتية لهذا اللوبي التي تضخمها أجهزة الإعلام لأسباب سياسية وإيديولوجية، حتى تبث روح الاستسلام في العقل السياسي العرب.

لكن هذا اللوبي الصهيوني يكتشف يوما بعد يوم أنه لم يعد يقود اليهود الأمريكيين، كما كان يفعل في إيهام الرأي العام خلال العقود الماضية. فاليهود الأمريكيون يعلمون أن "إسرائيل" ليست الترياق الذي بإمكانها استخدامه لحل إشكالاتها الداخلية.

ويحاول الكاتب أن يقدم عدة شهادات تبرز الدور القوي للوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، فيقول: "ولعل ما حصل مع اثنين من الأكاديميين الأمريكيين المعروفين مؤخراً ما يشكل مثالاً على طريقة عمل اللوبي اليهودي المناصر ل"إسرائيل" في الولايات المتحدة. فقد طلبت مجلة "أتلانتيك ماغازين"، من أستاذين من جامعة شيكاغو وجامعة هارفارد، إعداد دراسة عن اللوبي الإسرائيلي . وبعد عامين من العمل والبحث والتمحيص، أبلغهما رئيس التحرير بأن المجلة لن تتمكن من نشر الدراسة. وفي ذلك يقول البروفيسور جون ميشيمر: "عملنا على إعداد الدراسة على مدى عامين بالتعاون مع محرري "أتلانتيك ماغازين". وفي يناير/كانون الثاني 2005 أرسلنا لهم النص النهائي، الذي جاء منسجماً تماماً مع ما تم الاتفاق عليه ومتضمناً مقترحاتهم كافة. بعدها بأسابيع فوجئنا برئيس التحرير يبلغنا بأن المجلة قررت عدم نشر الدراسة".

قرَّر الأستاذان جون ميشيمر وستيفن وولت توسيع الدراسة وإعدادها للنشر ككتاب صدر عام 2007 بعنوان: "اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية للولايات المتحدة" أوضح االمؤلفان في كتابهما بأن الفكرة الرئيسية التي شكلت موضوع الدراسة المرفوضة كانت بسيطة ومباشرة، وهي أن الولايات المتحدة تقدم دعماً مادياً وسياسياً ل"إسرائيل" بمعدلات غير عادية، وبأن هذه المساعدات لا يمكن تبريرها على أسس إستراتيجية أو أخلاقية على حد سواء. وبدلاً من ذلك "فإن هذه المساعدات هي نتاج القوة السياسية للوبي ال"إسرائيل"ي في المقام الأول".

ويرى المؤلفان "أن السياسة الأمريكية المنحازة تماماً ل"إسرائيل" تضر بالمصالح القومية للولايات المتحدة بل هي ضارة بالمصالح ال"إسرائيل"ية نفسها على المدى البعيد". ولتوضيح حجم الدعم الذي تحظى به "إسرائيل" من الولايات المتحدة من حجم ما تتلقاه من مساعدات أميركية يمولها دافعو الضرائب الأمريكيون في المقام الأول. فحتى عام 2005 كان حجم ما تسلمته "إسرائيل" من مساعدات أميركية قد وصل إلى 154 مليار دولار معظمها هبات لا ترد"...، ولمثير هنا أن المساعدات الأمريكية ل"إسرائيل" تأتي بمعدل 100 ألف دولار لكل أسرة إسرائيلية مكونة من أربعة أفراد في وقت يعاني فيه 45 مليون أميركي من ضيق الحياة المعيشية ويصنفون تحت خانة الفقراء، طبقاً لمكتب الإحصاءات الرسمي في واشنطن، الأمر الذي ينسف المقولة الأمريكية الشهيرة: الإحسان يبدأ من البيت".

يحاول اللوبي الصهيوني الموالي لـ "إسرائيل" داخل أمريكا أن يوهم الرأي العام العالمي، ولا سيما الرأي العام العربي، من أنه يمتلك قدرة خاصة على التأثير من خلال اتصاله برجال الإدارة والشيوخ والنواب وامتلاكه لقاعدة معلوماتية وإمكانيات التأثير على الحملات الانتخابية من خلال المساهمة في تمويلها.هذا الكتاب لم يأت بشيء جديد على صعيد الدراسة المعمقة لدور اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، وللعلاقة الخاصة التي تحكم "إسرائيل" بأمريكا، بل أنه كرر نفس الأسطورة التي يتداولها الفكر السياسي العربي حول التأثير الصهيوني في الولايات المتحدة الأمريكية، علماً أنَّ هذه الأسطورة ليست قدرًا على العرب والمسلمين أن يستسلموا لها، بل إنَّ المطلوب هو القيام وبعمل دؤوب لمواجهة هذا النفوذ الصهيوني، إذ يوجد في أمريكا أكثر من عشرة مليون عربي ومسلم، وهو عدد يفوق عدد اليهود الأمريكيين. والحال هذه بإمكان العرب والمسلمين الأمريكيين أن يشكلوا لوبي عربي منافس للوبي الصهيوني، داخل هذه التكتلات البشرية العربية والمسلمة يعتمد بالدرجة الأولى على السيطرة الاقتصادية الممكنة في هذه التكتلات واستغلال الرأي العام الشعبي الأمريكي المتعاطف نسبيا مع الشعب الفلسطيني خلال الانتفاضة الكبرى في الثمانينات، وإلى حد ما مع الانتفاضة الثانية، حتى وإن كان دوافع هذا التعاطف هي الممارسات القمعية الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة التي تتناقض مع ما هو عالمي في القيم.

وفضلا عن ذلك، فإن مسؤولية العرب والمسلمين جميعا تتمثل في دعم هذه الجالية العربية والمسلمة بكل الوسائل لتشكل لها موطئ قدم في الحياة الاقتصادية الأمريكية، والعمل على تنمية ثقافة هذه الجالية وتوجيهها من أجل تغيير الصورة المشوهة التي اكتسبها الشعب الأمريكي عن العرب والمسلمين بعد أحداث الحادي عشر من أيلول.

وعلى مستوى دوام العلاقات والمرجعية النفعية، فإن هناك إمكانية للتأثير والتداخل، وهو ما حدث فعلاً خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة حيث برزت الجاليات العربية والمسلمة كقوة ملموسة تؤخذ في الحسبان في الجولات القادمة. إلا أن هذا لن يؤدي في المدى المنظور لوضع الطابع المتميز للعلاقات الأمريكية ـ ال"إسرائيل"ية موضع تساؤل وإنما زيادة أو نقصان تكلفة أو هامش المناورة المتروك ل"إسرائيل" واللوبي في الولايات المتحدة الأمريكية.

فالطابع الخاص للعلاقات الأمريكية -الإسرائيلية يعمل الآن على ضبط الصراع العربي ـ الصهيوني أكثر مما يسهم في تسويته لمصلحة كافة أطرافه. ويبقى ما هو مطلوب من العرب والمسلمين الأمريكيين أن يقوموا بالدراسات الفكرية والسياسية لبلورة سياسة إعلامية ونشرها عبر وسائل الإعلام الحديثة وشبكة الأنترنت من أجل إنشاء لوبي عربي ومسلم قوي في الولايات المتحدة قادرعلى مواجهة الدعاية المضللة للوبي الصهيوني.

إنَّ الحديث عن اللوبي يتطلب الدراسة المعمقة وغير المبسطة لعملية صنع القرار في السياسة الخارجية، إذ إن هناك عملية تبسيط واختزال في فهم السياسة الخارجية الأمريكية لدى الفكر السياسي العربي، إما عبر الاعتماد على نظرية اللوبي الصهيوني المسيطر على كل مقدرات السياسة الخارجية، وإما على أساس الاعتماد على اختزال كل عملية صنع القرار بشركات النفط والسلاح.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب نشر لبنان كتاب عرض نشر كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی الولایات المتحدة الأمریکیة الصهیونی فی الولایات المتحدة السیاسة الأمریکیة السیاسة الخارجیة السیاسی الأمریکی اللوبی الصهیونی العرب والمسلمین الرأی العام من خلال ة التی

إقرأ أيضاً:

في اليوم العالمي لمكافحة الإيدز.. ما هي المصاعب التي تواجه المرضى في العالم العربي؟

يوضح طبيب مختص في الأمراض المعدية لـ"يورونيوز" أن الالتزام المنتظم بالعلاج الثلاثي يخفض فيروس VIH إلى مستوى غير قابل للكشف، مما يمنع انتقاله، ويُمكّن المصاب من عيش حياة طبيعية تمامًا، بما في ذلك الزواج والإنجاب.

تشهد منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ارتفاعًا في عدد الإصابات بفيروس نقص المناعة البشرية (HIV)، في وقت لا تزال فيه فجوة الوعي والمعرفة بالفيروس أكبر العقبات أمام مكافحته. فغياب الفهم العلمي للمرض والوصم الاجتماعي المصاحب له يحوّلان "الجهل" إلى جدار عازل أمام الفحص المبكر والعلاج المنقذ للحياة.

وبحسب تقديرات الأمم المتحدة فقد ارتفع عدد الإصابات الجديدة بفيروس نقص المناعة البشرية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بنسبة 94% بين عامَي 2010 و2024. وتمثّل المنطقة نحو 2% من الإصابات الجديدة السنوية على مستوى العالم. ومع أن معدل انتشار الفيروس في المنطقة منخفض جدًا مقارنة بمناطق أخرى، فإن بالإمكان خفض عدد الإصابات الجديدة سريعًا إذا اتخذت الدول إجراءات مناسبة تلبي احتياجات الفئات الأكثر عرضة للإصابة.

وتُظهر البيانات أن الشباب بين 15 و24 عامًا يمثلون نحو 23% من الإصابات الجديدة في المنطقة، مع غلبة واضحة بين الذكور الذين شكلوا 64% من هذه الحالات. ورغم هذه الأرقام، تظل الخدمات الصحية غير متاحة بالشكل الكافي لهذه الفئة.

كما لا تزال الاستجابة للفيروس بعيدة كثيرًا عن تحقيق أهداف التغطية المحددة لعام 2025، إذ أن عدد الوفيات المرتبطة بالمرض يتراجع بوتيرة بطيئة جدًا لا تتجاوز 6% بين عامَي 2010 و2024. وتُسجّل المنطقة أدنى معدلات التغطية العلاجية في العالم.

وفي حوارٍ مع "يورونيوز"، يزيح الطبيب المختص في الأمراض المعدية محمد الفاهم الستار عن أحد أكثر الأمراض التي أحاطها الجهل والوصمة الاجتماعية بالغموض في عالمنا العربي، مقدمًا شرحًا وافيًا يفرّق فيه بين فيروس "VIH" ومرض "الإيدز"، وكيفية تطوره، وطرق تشخيصه وعلاجه، وذلك في محاولةٍ لتصحيح المفاهيم الخاطئة وتشجيع المجتمع على تبني نظرةٍ أكثر وعيًا.

ما الفرق بين فيروس VIH والإيدز؟

يؤكد الطبيب محمد الفاهم على وجود خلط واسع النطاق بين المصطلحين، قائلاً: "VIH هو فيروس نقص المناعة البشرية، وهو العامل المسبب الذي يدخل الجسم ويستهدف الخلايا المناعية المسماة CD4، مما يضعف دفاعات الجسم تدريجيًا. أما الإيدز فهو المرحلة المتقدمة من الإصابة، ويُشخّص عندما ينهار الجهاز المناعي بالكامل أو عندما ينخفض عدد خلايا CD4 إلى مستوى شديد فتظهر أمراض انتهازية وأورام مرتبطة بضعف المناعة".

ويختصر الفاهم الفكرة بقوله: "الإصابة بالفيروس لا تعني الوصول إلى الإيدز، ويمكن تجنب المرحلة المتقدّمة بشكل كامل بفضل العلاج المتوفر اليوم".

ويشرح الطبيب لـ"يورونيوز" المراحل التي يمر بها الفيروس قائلاً: "بعد انتقال الفيروس، يمر بمرحلة حادة تشبه الإنفلونزا في أيامه الأولى، ثم يدخل في مرحلة خمول قد تستمر لسنوات دون أعراض تذكر. خلال هذه الفترة، يتكاثر الفيروس بوتيرة منخفضة لكنه يواصل إضعاف المناعة".

Related تقنية جديدة تكشف الفيروس المختبئ في الخلايا.. هل أصبح الشفاء من الإيدز قريبًا؟عقار جديد يقلب موازين الوقاية من الإيدز عالميًا.. ما الذي نعرفه عن "يييتوو"؟"عواقب وخيمة".. كيف يؤثر وقف المساعدات الأمريكية على مرضى الإيدز في أوكرانيا؟

ويحذر الطبيب المختص من أن "غياب الأعراض لا يعني غياب الخطر، لذلك التشخيص المبكر هو حجر الأساس في الوقاية والعلاج".

ما هي طرق انتقال الفيروس بشكل علمي؟ وكيف تُشخص الإصابة بدقة؟

يُجمل الطبيب طرق الانتقال في: "العلاقة الجنسية غير المحمية، أو التعرض لدم ملوث، أو من الأم إلى الرضيع خلال الحمل أو الولادة أو الرضاعة". وينفي بشكل قاطع انتقال الفيروس عبر "الاحتكاك اليومي، والمصافحة، والطعام، والهواء، والبعوض"، داعيًا إلى "تصحيح هذه المفاهيم لـ"حماية المجتمع وتقليل الهلع".

ويُفصّل المختص في آلية التشخيص بالقول: "الاعتماد الطبي الحالي يقوم على اختبار ELISA للكشف المبكر عن الأجسام المضادة والمستضدات في آن واحد. في حال إيجابية النتيجة، يتم اللجوء إلى اختبارات تأكيدية. كما يُقاس الحمل الفيروسي لمعرفة كمية الفيروس في الدم، ويُجرى تحليل CD4 لتقييم قوة الجهاز المناعي.. هذه الفحوصات ضرورية لتحديد المرحلة ووضع خطة العلاج المناسبة".

ماذا عن العلاج؟ وهل فعلًا يستطيع المريض أن يعيش حياة طبيعية؟

يجيب الطبيب بنعم قاطع، موضحًا: "العلاج الثلاثي المضاد للفيروسات، إذا التزم به المريض بانتظام، يخفض كمية الفيروس في الدم إلى مستوى غير قابل للكشف. وعندما يصبح الحمل الفيروسي غير قابل للكشف، يصبح المريض غير قادر على نقل العدوى.. هذه الحقيقة العلمية غيّرت جذريًا نظرة الطب إلى المرض، وجعلت المريض قادرًا على الزواج، والإنجاب، والعيش بشكل طبيعي تمامًا".

وتشير اليونيسيف إلى أن هناك فجوة كبيرة بين الأرقام الرسمية والواقع الحقيقي، حيث يظل العديد من المصابين غير مشخّصين بسبب الخوف أو الوصمة الاجتماعية. وقد أظهرت بيانات عام 2022 أن 52% من الأطفال المصابين بفيروس HIV لا يعرفون حالتهم الصحية، و62% لا يتلقون العلاج، و65% لا يصلون إلى مستوى كبت الفيروس. أما المراهقون بين 15–19 عامًا، فتغطية العلاج بينهم لا تتجاوز 30%، أي أقل من نصف المتوسط العالمي. وفي هذا الصدد، سألنا الطبيب:

هناك دائمًا حديث عن فجوة بين الأرقام الرسمية والواقع الحقيقي.. لماذا؟

يحلل الطبيب الظاهرة قائلاً: "الأرقام الرسمية تعكس فقط الحالات التي جرى تشخيصها، بينما توجد نسبة غير قليلة من الأشخاص الذين لا يخضعون للفحص".

ويتابع: "الأمراض المنقولة جنسيًا عمومًا، وخاصة تلك التي تحمل وصمة، يكون عدد الحالات غير المشخّصة أعلى من المعلَن..هذه الظاهرة تنتشر في العالم العربي، كما أن تقديرات منظمات دولية تشير إلى أن الأرقام الحقيقية قد تتجاوز المعلَن بنسب تتراوح بين ثلاثين وخمسين بالمائة في بعض الدول".

هل يمكن الحديث عن وصمة مرتبطة بالمرض؟

"للأسف نعم".. بهذه الكلمات يصف الطبيب لـ"يورونيوز" الوصمة الاجتماعية، معتبرًا أنها "عقبة أكبر من الفيروس نفسه". ويشرح: "كثير من الناس يتجنبون الفحص خوفًا من الحكم الاجتماعي".

ولا يزال فيروس نقص المناعة البشرية في المجتمعات العربية محاطًا بهالة كثيفة من العار، التي غالبًا ما تكون أثقل وطأة من المرض نفسه. وتنبع هذه الوصمة من "مفاهيم خاطئة مرتبطة بطرق انتقال الفيروس"، و"خلط غير علمي بين الإصابة والسلوكيات "غير الأخلاقية" من وجهة نظر المجتمع"، مما يلقي باللوم على المريض ويجعله عرضة للتمييز والنبذ. ويؤدي هذا الخوف من الوصمة إلى نتائج كارثية، أبرزها إحجام الكثيرين عن إجراء الفحص خوفًا من معرفة النتيجة، أو إخفاء التشخيص حتى عن المقربين، أو التردد في طلب العلاج، مما يزيد من انتشار الفيروس في صمت.

وقد شكل الإيدز لعقودٍ مصدر رعبٍ عالمي، متربعاً على عرش الأمراض الأكثر رعباً ووصمة. لكن الأبحاث العلمية حوّلته من "حكم بالإعدام" إلى مرض مزمن يمكن السيطرة عليه.

ويقول الطبيب: "التأخر في التشخيص هو ما يسمح للمرض بالانتشار، ويجعل البعض لا يبدأ العلاج إلا في مراحل متقدمة.. لذلك التوعية عنصر أساسي، لأنها ترفع الإقبال على الفحص وتقلل الخوف غير المبرر".

ويضيف الدكتور في رسالته: "الفصل الواضح بين الإصابة بالفيروس والمرحلة المتقدمة أمر ضروري.. يمكن اليوم السيطرة على فيروس VIH بشكل كامل إذا تم التشخيص مبكرًا وبدء العلاج في الوقت المناسب.. الأرقام الرسمية مهمة لكنها لا تعكس الواقع بالكامل.. لذلك يجب تعزيز الثقافة الصحية، تشجيع الفحص الطوعي، ومحاربة الأفكار الخاطئة التي تجعل المرض موضوع خوف وخجل بدل أن يكون حالة طبية قابلة للعلاج والمتابعة".

انتقل إلى اختصارات الوصول شارك محادثة

مقالات مشابهة

  • أمريكا تُمول مخططات توسيع إنتاج القبة الحديدية الإسرائيلية
  • في اليوم العالمي لمكافحة الإيدز.. ما هي المصاعب التي تواجه المرضى في العالم العربي؟
  • ميليشيا النجباء الحشدوية تعلن عن استهداف القوات الأمريكية وإسرائيل قريباً
  • الانسحاب مقابل العفو: المعارضة الإسرائيلية تقترب من إنهاء مصير نتنياهو السياسي
  • بحبح يوجه انتقادا نادرا للإدارة الأمريكية على خلفية انتهاكات إسرائيل
  • أمريكا أولاً.. التعريفات الجمركية والدبلوماسية وإسرائيل
  • إعلامي جزائري لـعربي21: الخطة الأمريكية واعتقال بوعقبة تهز المشهد السياسي
  • سفير أميركا لدى لبنان: لا حاجة لحصول إسرائيل على إذن من الولايات المتحدة من أجل الدفاع عن مواطنيها
  • أمريكا أولاً.. المنتزهات الوطنية الأمريكية تعلن زيادة رسوم السيّاح الدوليّين
  • فصائل الحشد الإيرانية:سندافع عن إيران ضد أمريكا وإسرائيل