"لا مُلك لمن لا هيبة له" توارث العرب هذه المقولة جيلا بعد جيل، بينما ينسبها البعض للخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، فهي ما زالت مقولة حية وخلاصة حكيمة تؤكد الأحداث على مر الزمان صحتها. فالهيبة وقاية لمن يحكم، وإسقاط الهيبة هدف لمن يريد هز مقعد الحكم وزلزلة الأرض من تحت قدمي الحاكم.

وحين ننتقل من التاريخ إلى الواقع، نجد أن الدولة الوليدة في سوريا عاشت لحظات قلق وترقب إثر أحداث الساحل التي استهدفت هيبة الحكم، وأرادت إثبات قدرة فلول نظام الأسد على إثارة الفوضى.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2مصطفى طلاس.. وزير الدفاع المرعب الذي أهدى سوريا لبشار الأسدlist 2 of 2شرخ في جدار الغرب.. الطلاق بين الولايات المتحدة وأوروباend of list

ولم تكد تنتهي الأحداث في الساحل، إلا وأعلن مجلس سوريا الديمقراطية (مسد) المظلة السياسية لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) رفضه الإعلان الدستوري للمرحلة الانتقالية الذي اعتمده الرئيس أحمد الشرع، ووصف المجلس الإعلان بأنه غير شرعي، ولا يتوافق مع اتفاق الشرع ومظلوم عبدي قائد قسد، وذلك بحجة أن النص على أن الشريعة الإسلامية مصدر أساسي للتشريع يأخذ البلاد نحو الفوضى.

وفي الجنوب السوري، صرح شيخ عقل الطائفة الدرزية حكمت الهجري بأن "حكومة دمشق متطرفة، وأنه لا وفاق ولا توافق معها"، وتزامن حديثه مع دخول وفد من 50 شخصا من رجال الدين الدروز من السويداء إلى الجليل شمال فلسطين المحتلة لزيارة قبر النبي شعيب بواسطة حافلات برعاية جيش الاحتلال، في حدث هو الأول من نوعه.

إعلان

وتشير تلك الوقائع المتناثرة جغرافيا ما بين شرق سوريا وغربها وجنوبها، والمتفاوتة من حيث تداعيات كل منها، إلى حجم التحديات الداخلية التي تجابه الإدارة الجديدة في دمشق.

وهي تحديات تتقاطع مع الرؤية الإسرائيلية بضرورة تقسيم سوريا إلى 4 كيانات، واحد للعلويين في الساحل، وآخر للدروز في السويداء، وثالث لقسد في شمال وشرق سوريا، ورابع لحكومة دمشق، ضمن رؤية تستند إلى تناقضات وطموحات تحرك جهات محلية هنا وهناك.

هجمات الساحل الدموية

بعد دخول فصائل الثوار إلى دمشق، نعمت سوريا بفترة هدوء نسبي وسلام مجتمعي، فلم تحدث عمليات انتقامية أو إراقة للدماء رغم المرارات والجراحات المتفاقمة خلال سنوات الثورة، والتي أسفرت عن مقتل نحو مليون شخص، واختفاء أكثر من 100 ألف آخرين قسريا، فضلا عن تهجير ونزوح ملايين السوريين.

وجاء مشهد دخول الثوار إلى دمشق حضاريا وسلميا مقارنة بما حدث على سبيل المثال عند دخول القوات الأميركية إلى بغداد في عام 2003 حيث عمت الفوضى وانتشرت أعمال السلب والنهب لمقدرات العراق وثرواته. وبدا أن سوريا تتنفس الصعداء بعد أن اختنقت بأجواء الظلم والاستبداد ما يزيد على 6 عقود.

يُقال إن عقارب الساعة لا تعود للخلف، لكن أيادي العابثين يمكن أن تحطم الساعة ذاتها، وهو ما حاولت فعله فلول نظام الأسد بداية من الساعة الثالثة عصر يوم الخميس السادس من مارس/آذار الجاري، ولمدة يومين.

ففي التوقيت المذكور، وبعد ساعات من إعلان العميد غياث سليمان دلا أحد قادة الفرقة الرابعة بجيش الأسد تأسيس "المجلس العسكري لتحرير سوريا" لمواجهة النظام الجديد، بدأت تتوالى الأخبار عن سلسلة هجمات في منطقة الساحل تستهدف عناصر الأمن والجيش.

ووقع الهجوم الأول في قريتي بيت عانا والدالية بريف جبلة، ثم بعد ساعتين اتسع نطاق الهجمات ليشمل مناطق مختلفة في مدن جبلة وبانياس واللاذقية، وحوصرت قوات من وزارة الدفاع داخل الكلية البحرية التي تضم مستودعات أسلحة سيؤدي سقوطها إلى امتلاك المهاجمين لقدرات تسليحية كبيرة، كما تعرضت عشرات المواقع والنقاط الأمنية والعسكرية لهجمات متزامنة.

إعلان

وبينما حاول المسؤولون في الحكومة الجديدة استيعاب صدمة الهجوم المفاجئ، وتقدير أبعاده، تعرضت أرتال الدعم والمؤازرة الحكومية التي تحركت من مدينة اللاذقية باتجاه مدينتي جبلة والقرداحة إلى كمائن دامية، وحصار على الطرق، كما قطع المهاجمون الطرق السريعة بين إدلب وحمص وحماة باتجاه محافظتي اللاذقية وطرطوس، فضلا عن استهداف المهاجمين للمشافي لحصار المصابين من قوات الأمن داخلها.

ومع اتساع نطاق الهجمات لتشمل منطقة جغرافية جبلية وعرة تقترب مساحتها من نصف مساحة دولة لبنان، وتوالي الاستغاثات من عناصر الأمن والجيش المحاصرين، وتجاوز أعداد الضحايا من الأمن نحو 200 شخص فضلا عن عشرات المفقودين، أُعلن النفير العام في كافة المحافظات السورية لنجدة القوات المحاصرة في الساحل، فتدفق عشرات آلاف المقاتلين بحسب مصادر مطلعة، ونجحوا في القضاء على المجموعات المسلحة التي قطعت طريق "إم 4" (M4) ووصلوا من إدلب والشمال السوري إلى مدينة اللاذقية فجر يوم الجمعة السابع من مارس/آذار، ومنها إلى مدينة جبلة لفك الحصار عنها، ودخلوا المدينة بعد اشتباكات استمرت نحو 4 ساعات.

وبالتزامن مع ذلك تحركت قوات دعم ومؤازرة من حمص وحماة باتجاه طرطوس وبانياس، ودارت اشتباكات عنيفة على طريق حمص طرطوس، وانتهت الأحداث بانسحاب المهاجمين إلى عمق القرى الجبلية بحلول السبت الثامن من مارس/آذار.

وفجرت تلك المواجهات طاقات الغضب الكامنة في صدور بعض المقاتلين حديثي الانتساب للقوات المسلحة وأجهزة الأمن، فحدثت تفلتات، ووقعت انتهاكات بحق بعض المدنيين غير المتورطين في الهجمات، بذريعة أنهم يمثلون حاضنة اجتماعية للمسلحين الذين شنوا الهجمات، وأنهم كانوا قاعدة لدعم نظام الأسد الأب والابن، وهنا بدا أن الألغام التي أراد المهاجمون وضعها في وجه الإدارة الجديدة بدأت تنفجر لتهدد السلم الأهلي، وتستهدف النموذج الوطني الجامع الذي أرادت الحكومة الجديدة في دمشق تقديمه داخليا وخارجيا.

جانب من قوات الدعم الحكومية التي قدمت إلى اللاذقية وطرطوس في الساحل السوري لمواجهة المهاجمين (مواقع التواصل)  خطورة الأزمة

حكوميا، ومع اتضاح نطاق الهجمات وما أعقبها من حدوث نفير عام تضمن حدوث تجاوزات ضد المدنيين، أدركت الإدارة في دمشق خطورة ما يحدث، وأن من ضمن أهدافه ضرب ثقة المواطنين في وعود السلطة بحمايتهم، وربما تؤدي لاستنساخ الأحداث في مناطق أخرى مما يؤثر على شرعية الحكومة وقدرتها على توفير الأمن، كما يوحي بأن البلاد تعيش في فوضى وأن الدولة ضعيفة مما يغري الطامحين للحكم الذاتي أو الراغبين في الانفصال بكيانات صغيرة تتمركز فيها أقليات عرقية ودينية.

إعلان

إن المخاطر الخارجية لأحداث الساحل لا تقل عن المخاطر الداخلية، فهي تفتح الباب أمام التدخلات الأجنبية تحت لافتة التدخل الإنساني لحماية الأقليات ومنع حدوث إبادة جماعية بحق السكان، وهو مدخل يمس سيادة سوريا ويدفع باتجاه تدويل مشكلة محلية، ويجعل الإدارة الجديدة محلا للابتزاز.

وهو سيناريو تكرر في دول أخرى مثل دارفور بالسودان، فتدخل آنذاك مجلس الأمن لإصدار قرارات أسفرت عن فرض عقوبات اقتصادية على السودان، وإحالة مسؤولين سودانيين للتحقيق أمام المحكمة الجنائية الدولية، فضلا عن تشكيل لجنة أممية لتقصي حقائق.

وقد أدت التدخلات الدولية في مناطق أخرى مثل البوسنة والهرسك لفرض حظر توريد سلاح على الأطراف المتنازعة، وتشكيل بعثة عسكرية أممية لحماية المدنيين وتأمين إيصال المساعدات الإنسانية، ولكن مع إخفاق البعثة في حماية مسلمي البوسنة، أوكلت المهمة إلى قوات عسكرية من حلف الناتو.

محاولات علاج الأزمة

في مواجهة الأحداث المتلاحقة، سارعت الحكومة السورية لاتخاذ عدة خطوات لإنهاء الأزمة، وبدأت بفرض حظر للتجول في محافظتي طرطوس واللاذقية، في حين أمرت وزارة الدفاع بإخلاء منطقة الساحل ممن لا صلة لهم بالعمليات العسكرية، وشددت على عدم التعرض لأي شخص داخل منزله، مع الإنذار بتحويل المخالفين للتعليمات إلى القضاء.

ثم أعلنت وزارة الدفاع بعد 3 أيام من بدء الاشتباكات انتهاء العمليات العسكرية في محافظتي اللاذقية وطرطوس، وسحب وحدات الجيش من منطقة الساحل إلى ثكناتها، وتولي وزارة الداخلية وجهاز الأمن العام مهام حفظ الأمن بالمنطقة.

ومن جهته، تعهد الرئيس السوري أحمد الشرع في خطاب موجز بالحفاظ على السلم الأهلي ومحاسبة كل من يتجاوز ضد المدنيين، كما أصدر قرارا رئاسيا بتشكيل "لجنة وطنية مستقلة" للتحقيق في الانتهاكات التي تعرض لها المدنيون، فضلا عن التحقيق في الاعتداءات على المؤسسات ورجال الأمن والجيش، ثم أصدر الشرع قرارا رئاسيا ثانيا بتشكيل "لجنة عليا للحفاظ على السلم الأهلي" تختص بالتواصل المباشر مع الأهالي بالساحل لتقديم الدعم لهم بجوار عملها على تعزيز الوحدة الوطنية، كما بدأت الشرطة العسكرية في ملاحقة وتوقيف عدد من مرتكبي التجاوزات.

إعلان تباين المواقف الإقليمية والدولية

مع انتشار فيديوهات للضحايا من عناصر الأمن فضلا عن فيديوهات أخرى تكشف حدوث تجاوزات ومقتل أعداد من المدنيين في منطقة الساحل، برزت تباينات في المواقف الإقليمية والدولية وفقا لمصالح كل دولة، والشواغل التي توليها الأهمية في الملف السوري.

فجل الدول العربية تعطي الأولوية لاستقرار سوريا تمهيدا لبدء إعادة الإعمار وعودة اللاجئين، بينما دوليا وإقليميا تتضارب أهداف العديد من الدول، فإسرائيل لديها أولوية تتمثل في إضعاف حكومة دمشق وإشغالها بالملفات الداخلية وصولا لتجزئة سوريا وتفتيتها، بينما روسيا تريد تأمين قواعدها العسكرية في حميميم وطرطوس، والحفاظ على علاقاتها الاقتصادية والأمنية مع سوريا.

وفي حين تريد الدول الأوروبية في المجمل خروج الروس من سوريا، وإشراك الأقليات العرقية والدينية في النظام السياسي الجديد، وإعادة اللاجئين، تركز الولايات المتحدة على ملف مكافحة الإرهاب ومنع عودة ظهور تنظيم الدولة الإسلامية "داعش".

ووفق هذا التباين في الأهداف جاء التباين في المواقف، فنددت وزارات الخارجية في تركيا والأردن وقطر والسعودية والكويت والبحرين ومصر بالهجمات التي شنتها "مجموعات خارجة عن القانون استهدفت قوات الأمن"، وأن تلك التحركات "تستهدف أمن سوريا واستقرارها وتحاول دفعها للفوضى والفتنة والصراع".

لكن الموقف الإيراني بدا مغايرا، حيث أشارت وزارة الخارجية الإيرانية إلى أن الانتهاكات بحق الأقليات تجرح مشاعر الرأي العام، وتعتبر اختبارا حقيقيا لحكام سوريا، بينما شددت الخارجية العراقية على ضرورة تغليب لغة الحوار بدلا من التصعيد العسكري، وحذرت من أن استمرار العنف سيؤدي إلى تفاقم الأزمة، في حين أصدر حزب الله بيانا نفى فيه الاتهامات الموجهة له بالضلوع في الأحداث، ووصفها بأنها ادعاءات لا أساس لها من الصحة.

إعلان

غربيا، جاء موقف الاتحاد الأوروبي متوازنا وأقل صخبا، وكذلك الموقف البريطاني الذي دعا لرسم مسار واضح لتحقيق العدالة الانتقالية. لكن المواقف الأكثر انتقادا جاءت من واشنطن، حيث ندد وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو بمن سمّاهم "الإرهابيين الإسلاميين المتطرفين الذين قتلوا الناس غرب سوريا"، ودعا "السلطات المؤقتة لمحاسبة مرتكبي المجازر بحق الأقليات".

وبشكل أكثر عدوانية نشر وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس بيانا قال فيه "إن الجولاني استبدل ثوبه ببدلة، وقدم وجها معتدلا، والآن خلع القناع وكشف عن وجهه الحقيقي، إرهابي من مدرسة القاعدة يرتكب أفعالا مروعة ضد السكان المدنيين".

أما موسكو، فقد فتحت قواتها في حميميم أبواب القاعدة العسكرية أمام أعداد كبيرة من المدنيين الذين طلبوا الحماية، فضلا عن فلول النظام الذين هربوا بعد فشل هجماتهم، بينما أعرب الكرملين عن قلقه من أعمال العنف، ودفع بالتنسيق مع واشنطن بملف أحداث الساحل إلى مجلس الأمن الذي عقد مشاورات مغلقة انتهت بإصدار بيان صاغته الولايات المتحدة وروسيا يدين أعمال العنف في اللاذقية وطرطوس، ويحث على بدء تحقيقات سريعة وشفافة ومستقلة وفقا للمعايير الدولية، ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات، فضلا عن دعوته حكومة دمشق لاتخاذ "تدابير حاسمة للتصدي للتهديد الذي يشكله المقاتلون الإرهابيون الأجانب".

لقد حمل بيان مجلس الأمن عبارات مطاطة قابلة لتفسيرات مختلفة، فهو من جهة يتسق مع ما أعلنته الحكومة السورية من إجراءات تجاه التحقيق في الأحداث ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات، لكنه من جهة أخرى يفتح الباب أمام تدخلات دولية قد تسعى لفرض إملاءات على الحكومة السورية فيما يخص نهج التحقيق، فضلا عن إقصاء المقاتلين الأجانب الذين انخرطوا في الثورة السورية، إذ سبق أن تعهد الشرع بمنحهم الجنسية السورية تكريما لجهودهم في إسقاط نظام الأسد.

دروس من الأزمة

لقد انتهت الاشتباكات سريعا مثلما اندلعت فجأة، لكن ارتداداتها ما زالت تتفاعل. فميدانيا انسحب المهاجمون إلى الجبال الوعرة واندمجوا بين السكان في القرى المتناثرة الحصينة جغرافيا، وهو ما يعني امتلاكهم قدرات مستقبلا على شن هجمات جديدة.

إعلان

فهم ليسوا مقاتلين هواة إنما كانوا جزءا من جيش الأسد وأجهزة أمنه، وتمرسوا لسنوات في القتال ضد فصائل الثورة، ولديهم شبكات من العلاقات داخل سوريا وخارجها تكفل لهم توفير التمويل والإمدادات اللوجيستية، فضلا عما بأيديهم من أسلحة احتفظوا بها من حقبة نظام الأسد.

كما أنهم يعملون وسط بيئة تضررت من سقوط النظام، فمئات الآلاف فقدوا رواتبهم ومصادر دخلهم بعد حل جيش نظام الأسد وأجهزة أمنه المتعددة. وهذا لا يعني قدرتهم على إسقاط النظام الجديد أو إعادة النظام الأسد، إنما يشير لقدرتهم على تهديد الأمن وإثارة الفوضى والانتقاص من هيبة الإدارة الجديدة.

على جانب آخر، كشفت الهجمات عن ضعف أجهزة الأمن الجديدة في منطقة الساحل، إذ لم تتوافر لديها معلومات مسبقة عن الهجمات التي شارك فيها حسب التقديرات الرسمية نحو 4 آلاف مسلح، وهو ما سيتطلب تعزيز قدرات أجهزة جمع المعلومات، وإعداد خطط احترافية مسبقة تعتمد على قوات تدخل سريع مجهزة ومدربة ومنضبطة للتصدي لأي هجمات مستقبلية دون إعلان النفير العام الذي تتخلله أجواء من الفوضى وضعف الانضباط.

دوليا، امتلكت بعض الدول الساعية للضغط على حكومة دمشق ورقة قابلة للتسويق دوليا، وستستخدمها للابتزاز والمساومة، مما سيتطلب من الإدارة الجديدة تعزيز السلم الأهلي، وتعويض المتضررين، ونشر ثقافة التسامح، والعمل قدر الإمكان على تجنب تكرار تلك النوعية من الأحداث سواء في منطقة الساحل أو في غيرها من المناطق التي توجد فيها مكونات وكتل مناوئة، وتفكيك المشاريع المعادية بأقل قدر من الدماء.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات رمضان أبعاد الإدارة الجدیدة اللاذقیة وطرطوس فی منطقة الساحل السلم الأهلی حکومة دمشق نظام الأسد فی الساحل فضلا عن

إقرأ أيضاً:

سوريا الآن تواجه أخطر سيناريو

بدا أن العملية السياسية التي أعقبت تغيير النظام في سوريا 8 ديسمبر/كانون الأول 2024 تتجه نحو تبني نظام سياسي مركزي. فقد أسفر مؤتمر الحوار الوطني، الذي عُقد بتوجيهات من الرئيس السوري أحمد الشرع، عن قرار "اعتماد نظام حكم مركزي".

وفي هذا الإطار، تم إعداد "مسودة الدستور المؤقت" على أساس هذا النظام. وأعلنت تركيا وقطر، إضافة إلى الولايات المتحدة الأميركية ودول غربية أخرى، دعمها لنظام سياسي "مركزي".

وقد عززت الأحداث الأمنية التي شهدتها مدن الساحل السوري في مارس/آذار 2025 الدعم لـ"نظام الحكم المركزي" على المستويين؛ الداخلي والدولي.

بيد أن أحداث السويداء، التي بدأت بين الدروز والبدو العرب، ثم تصاعدت لتصبح أزمة معقدة؛ بسبب الهجمات الإسرائيلية، يبدو أنها قد تؤثر على مستقبل سوريا الإداري.

فما حدث في السويداء عزز موقف قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي تقترح نظام حكمٍ لامركزيا في مواجهة حكومة دمشق. وقد تقاربت وجهات النظر بين أميركا وإسرائيل، اللتين تختلفان في العديد من النقاط، بشأن مستقبل سوريا بعد أزمة السويداء.

وقد عزز الدعم القوي الذي قدمته إسرائيل للدروز في أزمة السويداء وانسحاب حكومة دمشق من المنطقة، مطالب "الفدرالية/الحكم الذاتي" في كل من المنطقة العلوية، والمنطقة الكردية كذلك.

مؤتمر الحسكة

عقدت قوات سوريا الديمقراطية مؤتمرا في مدينة الحسكة بهدف المساهمة في تطوير موقف موحد بشأن إرساء نظام "اللامركزية" في سوريا، تحت اسم: "مؤتمر وحدة موقف مكونات شمال شرق سوريا".

شارك في المؤتمر أكثر من 400 شخص، بمن فيهم شخصيات بارزة من المنطقة تربطها علاقات جيدة مع قوات سوريا الديمقراطية، بما في ذلك بقايا نظام الأسد.

وشارك الزعيم الدرزي المدعوم من إسرائيل، حكمت الهجري، ورئيس مجلس العلويين السوري، الشيخ غزال غزال، عبر الإنترنت. كما شاركت في المؤتمر عشائر عربية وتركمانية، ونشطاء من المنطقة.

إعلان

قامت قوات سوريا الديمقراطية بأسابيع من التحضيرات المكثفة لعقد المؤتمر، وخاصة في محافظتي دير الزور والرقة، بما في ذلك اجتماعات مكثفة مع النشطاء والشيوخ وشخصيات بارزة من العشائر الكردية والعربية، سعيا إلى زيادة الدعم الشعبي لنظام اللامركزية الذي اقترحته.

وقد أوضحت في اجتماعاتها أن نظام اللامركزية أو الحكم الذاتي يجب أن يشمل جميع مناطق سوريا، وليس مناطقها فحسب، وكان الهدف الرئيسي من المؤتمر أن تحشد زخما حول فكرة اللامركزية لتستخدمه في محادثاتها مع دمشق للتأكيد على أنه "النظام الوحيد الذي يلبي مطالب الشعب وطموحاته".

كما أرادت قوات سوريا الديمقراطية، من خلال إشراك الزعيم الدرزي حكمت الهجري، والشيخ العلوي غزال غزال في المؤتمر، أن تطرح مشروع اللامركزية على دمشق بوصفه مطلبا جامعا لمختلف المناطق.

وأوضح جيفان ملا إبراهيم، عضو اللجنة التحضيرية، أن الهدف يتمثل في توحيد موقف مكونات المنطقة، وإيصال رسالة صريحة إلى الأطراف السورية والدولية بأن هذه المكونات تمتلك إرادة مشتركة لبناء دولة سورية تعددية ولامركزية تكفل المساواة في الحقوق والواجبات.

وفي الأشهر الأخيرة، دفعت قوات سوريا الديمقراطية عددا من زعماء العشائر العربية في الرقة ودير الزور إلى تبني مشروع "الإدارة الذاتية"، وطرحه كخيار محلي، بغض النظر عن مستقبل وجودها في هذه المناطق.

وفي هذا السياق، عقد قائد قوات "قسد" مظلوم عبدي، إلى جانب عدد من المسؤولين، اجتماعات مع زعماء العشائر، وممثلي المجالس المحلية؛ لبحث منح السكان سلطات أوسع لإدارة شؤونهم بعيدا عن سلطة الحكومة المركزية في دمشق.

البيان الختامي للمؤتمر

حمل البيان الختامي لمؤتمر الحسكة مؤشرات لافتة على ملامح مستقبل سوريا، مؤكدا تصميم المكونات السورية المشاركة على التحرك بشكل مشترك، حيث جاء فيه: "إرادة ممثلي الكرد والعرب والسريان والآشوريين والتركمان والأرمن والشركس والمجتمعات الأخرى اتحدت للتعبير عن التزامهم المشترك بخط وطني وديمقراطي شامل قائم على التنوع والشراكة والمواطنة المتساوية".

كما أشار البيان، في معرض تناوله ما جرى في اللاذقية والسويداء، إلى "ضرورة تحديد المسؤولين عن الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية في السويداء واللاذقية بغض النظر عن هويتهم"، في رسالة تهدف إلى زيادة الضغط على حكومة دمشق حيال هذه الأحداث.

وأعلن البيان دفاعه الواضح عن نموذج الإدارة الذاتية، معتبرا أن وحدة سوريا وسلامتها لا يمكن ضمانهما إلا عبر هذا النموذج. وجاء فيه: "أعرب المشاركون عن أن نموذج الإدارة الذاتية الحالي هو تجربة تشاركية يمكن تطويرها والنهوض بها، وتشكل مثالا حيا للحكم المجتمعي الديمقراطي".

كما خص البيان قوات سوريا الديمقراطية بإشادة بارزة، مؤكدا "تقديرهم الكبير للتضحيات التي قدمتها هذه القوات في الدفاع عن المنطقة وكرامة شعوبها"، واعتبارها "نواة لبناء جيش وطني جديد، طوعي ومهني، يمثل البنية المجتمعية الحقيقية لسوريا ويحمي حدودها ووحدة أراضيها".

ويُفهم من هذه الإشادة وما رافقها من محادثات بين الزعيم الدرزي حكمت الهجري، ورئيس مجلس العلويين السوري الشيخ غزال غزال، أن مظلوم عبدي سيحمل في مفاوضاته مع أحمد الشرع تمثيل الدروز والعلويين أيضا، خصوصا فيما يتعلق بقضايا نظام الحكم في البلاد.

إعلان

كما لفت البيان إلى ضرورة إعداد مسودة دستور تقوم على بنية لامركزية، منتقدا مسودة الدستور المؤقت التي أعلنها الشرع لعدم تلبيتها مطالب السوريين في الحرية والكرامة، وداعيا إلى عقد مؤتمر حوار وطني جديد يضم جميع الأطراف.

ومع صدور هذا البيان، أعلنت قوات سوريا الديمقراطية والمشاركون رفضهم أي ترتيبات إدارية أو سياسية أو قانونية أعلنتها دمشق منذ 8 ديسمبر/كانون الأول، ما جعل العملية التي انطلقت من أحداث السويداء ومرت بمؤتمر الحسكة تفتح بابا واسعا للنقاش حول شكل الدولة السورية، وتزيد الشكوك في قدرة الخطوات التي اتخذتها حكومة دمشق حتى الآن على ترسيخ دولة مركزية قابلة للاستمرار.

رد فعل دمشق وزيارة هاكان فيدان

قُوبل مؤتمر الحسكة وبيانه الختامي برد فعل غاضب من حكومة دمشق، التي اعتبرته خطوة مناقضة للاتفاق الموقع بين أحمد الشرع ومظلوم عبدي في 10 مارس/آذار.

ونشرت وكالة الأنباء السورية الرسمية (سانا) تقييما لمسؤول حكومي لم يُذكر اسمه، عبر فيه عن موقف دمشق من المؤتمر، في صيغة غير رسمية لتجنب إصدار بيان مباشر تتحمل الحكومة تبعاته.

وجاء في هذا التقييم أن المؤتمر "ضربة لجهود التفاوض المستمرة"، وأن الحكومة "لن تتفاوض مع أي طرف يسعى لإعادة النظام المخلوع بأي شكل أو اسم"، كما عدت استضافة "شخصيات متورطة في أعمال انفصالية وعدائية" انتهاكا واضحا لاتفاق 10 مارس/آذار.

وأكد التقييم أن المؤتمر محاولة لجذب تدخلات أجنبية وإعادة فرض العقوبات، وحمّل قوات سوريا الديمقراطية المسؤولية عن تبعاته القانونية والسياسية والتاريخية، معتبرا أنه تهرب من الالتزامات المتعلقة بوقف إطلاق النار وتوحيد المؤسسات، وانتهاك مستمر للاتفاقية. كما شدد على أن شكل الدولة السورية سيُحدد من خلال دستور دائم يقره الشعب عبر استفتاء عام.

ولفت الانتباه إعلان هذا المسؤول أن دمشق لن تشارك في الاجتماع المقرر عقده في فرنسا مع قوات سوريا الديمقراطية، وهو موقف جاء بعد يوم واحد فقط من زيارة مفاجئة لوزير الخارجية التركي هاكان فيدان إلى دمشق 7 أغسطس/آب، لم يُعلن عنها مسبقا. ووفق مصادر في أنقرة، استمر لقاء فيدان مع الشرع ثلاث ساعات، خُصص جزء منها لاجتماع مغلق بين الرجلين.

وتناول اللقاء ملفات متعددة، من بينها أوضاع مخيمات تنظيم الدولة، ومسار المفاوضات بين قوات سوريا الديمقراطية ودمشق، وملف دمج هذه القوات في الدولة، إلى جانب الهجمات الإسرائيلية على سوريا. وتشير المصادر إلى أن قرار دمشق الانسحاب من اجتماعات فرنسا جاء بناء على توصية مباشرة من فيدان.

هل اللامركزية مناسبة لسوريا؟

تتنوع أشكال الحكم في العالم بين أنظمة رئاسية وأخرى برلمانية، إضافة إلى صيغ حكم أخرى تختلف باختلاف الدول.

ففي ألمانيا، مثلا، هناك 16 ولاية لكل منها برلمانها ورئيس وزرائها وقوانينها الخاصة، لكنها تبقى خاضعة للحكومة الفدرالية في مجالات مثل السياسة الخارجية والدفاع، ضمن نظام برلماني.

وفي الولايات المتحدة، تطبق الولايات نظامها الداخلي، لكن البلاد تحكمها سلطة رئاسية. أما المملكة المتحدة، فهي دولة مكونة من أربع دول: أسكتلندا، وإنجلترا، وويلز، وأيرلندا الشمالية، ولكل منها ترتيبات حكمها الخاصة.

وتظهر في آسيا والشرق الأوسط أيضا أشكال حكم مختلفة، تعكس في كل حالة تاريخ الدولة وخبرتها المؤسسية وتراكمها المجتمعي، وهو ما يجعل نقل أي نموذج حكم ناجح من بلد إلى آخر أمرا غير مضمون النتائج.

يستند مؤيدو الحكم الذاتي أو اللامركزية في تبريرهم إلى أمثلة مثل بقاء أسكتلندا ضمن المملكة المتحدة، أو كون هامبورغ ولاية ألمانية، أو انتماء فلوريدا إلى الولايات المتحدة.

لكن بناء نظام حكم ناجح يتطلب توافقه مع الواقع الجغرافي والسياق الاجتماعي والقيم السائدة، إذ قد لا يحقق النموذج الفاعل في أوروبا النتيجة ذاتها في بيئة جغرافية مختلفة.

إعلان

ولهذا السبب، تبدو سوريا، ومنطقة الشرق الأوسط عموما، أقل ملاءمة لتطبيق نظام لامركزي، نظرا لاحتمال أن يؤدي إلى انقسامات في ظل غياب الأمن والاستقرار الاقتصادي.

فاللامركزية قد تكون أكثر جدوى في دول تتمتع بظروف سياسية وأمنية واقتصادية مستقرة، مع الأخذ في الاعتبار أن دولا راسخة مثل أسكتلندا حاولت الانفصال رغم استقرارها.

وفي السياق السوري، يرى كثيرون أن النقاش حول اللامركزية ينبغي أن يأتي بعد ترسيخ نظام مركزي يضمن الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني. غير أن فاعلين ودوليين يحاولون استغلال أوجه القصور ومناطق الضعف لدى الحكم الجديد لدفع البلاد بعيدا عن مسار الحكم المركزي.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطبيان إمكانية الوصولخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • تفاصيل المشدد 10 سنوات لـ شخص بتهمة إصابة شاب بعاهة مستديمة بالقاهرة
  • سوريا الآن تواجه أخطر سيناريو
  • الأمم المتحدة تحذر من انجرار اليمن إلى ساحة الاضطرابات الإقليمية
  • مبعوث أممي: الاضطرابات الإقليمية تقوض استقرار اليمن
  • غروندبرغ لمجلس الأمن: الإضطرابات الإقليمية تقوض آفاق السلام في اليمن "نص الإحاطة"
  • كيف انعكس ذهاب بشار الأسد علي دول الساحل الأفريقي ومنها السودان؟
  • سوريا.. مظاهرات في مدن مختلفة للتضامن مع فلسطين
  • كأس العالم للرياضات الإلكترونية.. انطلاق النسخة الإقليمية الجديدة من دوري الملوك العالمي
  • ما دلالات تسليم أمن السويداء لضابط من نظام المخلوع بشار الأسد؟
  • غرفة صناعة دمشق وريفها: الاستثمارات الجديدة خطوة إستراتيجية لإعادة الإعمار وتحريك الاقتصاد