غزة.. ملحمة صمود في وجه الإبادة
تاريخ النشر: 15th, April 2025 GMT
لم يكن الرابع عشر من أيار يومًا عاديًا في تاريخ غزة، بل كان أشبه بنيزك هوى على قلب فلسطين، ولا يزال أثره غائرًا حتى يومنا هذا. فمنذ ما يقارب سبعة وسبعين عامًا، أقدمت عصابات من الصهاينة الغزاة على طرد شعب من أرضه وتهجيره قسرًا، تنفيذًا لوعد بلفور المشؤوم، الذي كان جزءًا من مخططاتهم الإجرامية القائمة على القمع والتهجير والتعسف، وإعطاء فلسطين لليهود، برعاية الإمبراطورية البريطانية آنذاك، ومع وطأة الظلم، ونير الاقتتال، وتجاوزات العدو، أقسم أبناء هذه الأرض ألا يحيدوا عن درب النضال، وأن يفنوا ما تبقى من عمرهم في سبيل كرامة الوطن.
في السابع من أكتوبر المجيد لعام 2023، انقدحت شرارة طوفان الأقصى معلنة فجرًا جديدًا من المقاومة وكاشفة زيف المواقف العربية المتوارية خلف قرارات مجلس الأمن والمجتمع الدولي الساعية لترسيخ دعائم المشروع الاستيطاني الصهيوني في غزة وطمس معالم القضية الفلسطينية إلى الأبد. كل ذلك يجري وفق خطط صهيونية خبيثة بدأها ترامب وأكملها بايدن مستغلين عوامل التطبيع والدعم المشبوه لتحقيق مصالح شخصية بثمن بخس.
مع غمرة طوفان السابع من أكتوبر، سطرت الكتائب في غزة ملاحم بطولية، ونفذت عمليات عسكرية محكمة، أرعبت قادة الكيان، وشلت قوى دفاعاتهم في مواقع عدة، واستولت على قواعدهم العسكرية، لتتوج ذلك بالسيطرة على بعض مستوطناتهم لفترة وجيزة، كان هذا المشهد زلزالًا مدويًا للكيان المتغطرس، الذي لم يتخيل يومًا أن يتحول الصياد إلى طريدة، وأن شجرة الزيتون المباركة قد أنجبت رجالاً من حديد، لا يعرفون الخضوع، ولا يرضون بالهوان.
لم تنته الحكاية هنا! إنما هي للتو بدأت. ففي الوقت الذي أعلن فيه الطوفان بدء انتفاضته، تحرك النظام الإسرائيلي تحت غطاء الدفاع عن النفس بأعتى الهجمات وأعنف الضربات، ممهدًا بذلك الخطوة الأولى لحرب الإبادة في غزة، مستهدفًا المدنيين العزل والبنى التحتية والمنشآت، وكل شيء في القطاع. علمًا بأن الضربات المدوية لم تكن عشوائية، بل كانت جزءًا من خطط مدروسة وسياسة واضحة تهدف إلى جعل القطاع غير صالح للعيش، فتتلاشى الحياة فيه شيئًا فشيئًا.
إنه النظام المارق الذي طغى وتجبر في هيمنته على القطاع المحاصر، وشن حرب إبادة جماعية بأبشع صور الوحشية والدموية على الإطلاق، مستغلًا خذلان العرب لغزة وموقفهم المتخاذل من القضية الفلسطينية، كذلك وهن مجلس الأمن الدولي الذي يكتفي ببيانات الشجب والإدانة منذ عقود دون أن يحرك ساكنًا. علمًا بأن الموازين ستختلف حتمًا لو تجرأت أرض الزيتون وحلفاؤها على المساس بأمن الكيان الإسرائيلي، حينها سيهب العالم بأسره لنجدته، وتطبيق قرارات حاسمة ترضي غرور الصهاينة.
إن واقع اليوم يعكس مدى الخسة والانحدار الذي أصاب العالم والأنظمة العربية خاصة، ويكشف عن مأساة تتجدد، وتاريخ يعيد نفسه، ودمار قادم تكتب فصوله بغباء الشعوب وتخاذل حكامهم، ولكن العاقبة للمتقين.
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
حرب الإبادة بالعطش
في غزة، لم تعد القذائف وحدها تقتل. هناك سلاح أشد بطأً لكنه أكثر بشاعة: التعطيش. في ظل العدوان الإسرائيلي المتواصل منذ أكتوبر 2023، لم يتحوّل الماء إلى رفاهية فحسب، بل إلى أداة إبادة جماعية تمارس بدم بارد.
فالماء، هذا الحق الطبيعي الأول، جرى تحويله إلى سلاح عقاب جماعي يستهدف الحياة من جذورها. ووفقًا لما أعلنته سلطة المياه وجودة البيئة، فإن أكثر من 90% من البنية التحتية للمياه والصرف الصحي في غزة قد دُمّرت بالكامل. الآبار نُسفت، الأنابيب فُجّرت، والمياه العادمة أصبحت مشهدًا مألوفًا في الشوارع وبين المنازل، بينما يُجبر الأهالي على الشرب من مياه مالحة أو ملوثة، في ظل انهيار كلي لشبكات المعالجة.
نصيب الفرد من المياه انخفض من 120 لترًا يوميًا إلى أقل من 10 لترات. ليس هذا انخفاضًا طبيعيًا ناتجًا عن أزمة عابرة، بل نتيجة استراتيجية ممنهجة لتجفيف الحياة. ومع هذا التدهور، تنتشر الأوبئة والأمراض الجلدية والهضمية، ويُدفع الأطفال والنساء والنازحون إلى حافة الهلاك.
لكن المأساة لا تتوقف عند العطش. بلدية غزة، عبر تحذير رسمي، كشفت أن نقص الوقود حال دون تشغيل معظم الآبار، بينما يتزايد الطلب مع النزوح الجماعي وارتفاع درجات الحرارة. وهذا يعني شيئًا واحدًا: أزمة مياه حادّة مرشحة للتفاقم إلى مستوى «عطش جماعي» شامل، ما لم يتم كسر هذا الحصار الخانق فورًا.
في هذه الظروف، تتحول غزة إلى بؤرة لكارثة بيئية وصحية. المياه ملوثة، الصرف الصحي منهار، النفايات تملأ الأزقة، والرائحة الكريهة تغلف الحياة اليومية. إنها قنبلة وبائية موقوتة في مدينة محاصرة بموتٍ بطيء وصامت.
في المقابل، تُصدر المؤسسات المحلية والدولية بيانات ونداءات استغاثة تطالب بفتح ممرات إنسانية لإدخال المياه وأدوات التنقية والوقود. لكن الاحتلال يواصل خنق غزة، ويُمعن في سياسة «القتل بالتقنين»، بينما يقف المجتمع الدولي موقف المتفرّج، وكأن الموت البطيء ليس جريمة طالما لا يُبثّ على الهواء مباشرة.
أما المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، فاختار تسمية الأشياء بمسمياتها. في بيان غاضب، أكد أن ما يجري هو جريمة حرب ترتقي إلى الإبادة الجماعية باستخدام سلاح التعطيش، وهو انتهاك فجّ للقانون الدولي الإنساني ولقرارات محكمة العدل الدولية. أكثر من مليوني إنسان لا يحصلون على أكثر من 5 لترات يوميًا، ما يعني أن كل ساعة تأخير تُقربهم من الهاوية.
هؤلاء ليسوا أرقامًا، بل بشر: أطفال، مرضى، كبار سن، نساء حوامل، نازحون ينامون في العراء ويشربون من المستنقعات. العطش في غزة لم يعد نتيجة حرب، بل صار شكلاً من أشكال الحرب ذاتها.
ما يحدث في غزة ليس مجرد مأساة إنسانية، بل وصمة عار أخلاقية على جبين العالم. كل دقيقة صمت هي شراكة في الجريمة. كل تردد في كسر الحصار هو تواطؤ معلن. فحين يتحول الماء إلى أداة قمع، تصبح المقاومة حقًا، والصمت خيانة.
الاحتلال يستخدم الماء كرصاصة بطيئة تخترق الحياة، بينما العالم يوزع البيانات على الورق. ولكن غزة – رغم العطش – لا تستسلم. تحتاج إلى وقود، نعم، وماء، نعم، لكنها قبل كل شيء تحتاج إلى عدالة وقرار سياسي جريء يضع حدًا لحرب الإبادة.
– غزة لا تموت فقط من العطش… بل من الخذلان الدولي المتواصل.
– غزة لا تحتاج إلى الشفقة… بل إلى إرادة توقف الجريمة.. الآن.
كاتب وصحافي فلسطيني