مايو 3, 2025آخر تحديث: مايو 3, 2025

إبراهيم أبو عواد

كاتب من الأردن

 

الأفكارُ المُتكاثرةُ في المنظومة الثقافية تُمثِّل إنتاجًا مُستمرًّا للعلاقاتِ الاجتماعية، وَتَوْليدًا دائمًا للعملية الإبداعية على الصَّعِيدَيْن: الإنسانيِّ والماديِّ، مِمَّا يَدْفَع باتِّجاه تَطوير رُؤيةِ الإنسانِ لذاته، ورُؤيته لِمُجْتَمَعِه.

وَهَذه الرُّؤيةُ المُزْدَوَجَةُ للذاتِ وَالمُحِيطِ تُؤَسِّس نظامًا فلسفيًّا تَراكميًّا يَفْحَصُ التَّصَوُّرَاتِ الحَيَاتِيَّة، ويَخْتَبِر التأمُّلاتِ الوُجودية، وَيَمْتَحِن الظُّروفَ المَعيشية. وهَذا يُؤَدِّي إلى تَقْويةِ الصِّلَةِ بَيْنَ الفِكْرِ والتَّطبيقِ مِنْ جِهَة، وَتَفْعِيلِ الوَعْي بأهمية الحَياة الثقافية للفردِ والجَماعةِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى.

وإذا كانت الأفكارُ تَتَحَوَّلُ مَعَ مُرورِ الوَقْت إلى مَواقف حَياتية وحَالاتٍ إبداعية، فَإنَّ عَناصر الحياة الثقافية تَتَحَوَّلُ مَعَ ضَغْطِ الواقع الاستهلاكيِّ إلى رُموز كامنة في المَشَاعِرِ المَقموعةِ، والأحلامِ المَكبوتة، والذكرياتِ المُسْتَتِرَة. وَوَظيفةُ الإنسانِ الأسَاسِيَّةُ هِيَ استخراجُ هَذه الرُّموزِ الكَامنةِ، وحَقْنُها بالحُرِّيةِ والحَيويةِ، وإعادةُ بَعْثِها إلى الحَياةِ، وهَذا يَعْني تَحَوُّلَ الثقافةِ إلى حَياةٍ دَاخِلَ الحَياةِ، وانتقالَ القِيَمِ الإبداعيةِ مِنَ الهَامِشِ إلى المَركَز، مِمَّا يَحْمِي المُجْتَمَعَ مِنَ الفَجَوَاتِ المَعرفية، وَالثَّغَرَاتِ المَخْفِيَّة في مَصادر الوَعْي الاجتماعيِّ.

إنَّ الوَعْي الاجتماعيَّ لا يُحرِّر الإنسانَ مِنَ الخَوْفِ والعَجْزِ فَحَسْب، بَلْ أيضًا يَمْنَعُ المُجْتَمَعَ مِنَ الوُقُوعِ في الفَراغِ، ويَحْمِي الحَضَارَةَ مِن انتحارِ المَعْنَى، وَيَحْرُسُ التَّنَوُّعَ الثقافيَّ مِنَ العَدَمِ، وَيَحْفَظُ الشُّعُورَ مِنَ الاستلابِ، وَيُبْعِد الشخصيةَ الفرديةَ والسُّلطةَ الاعتبارية للكَينونةِ الإنسانيةِ عَن الاغترابِ.

وَالوَعْيُ الاجتماعيُّ يُولَدُ مِنْ رَحِمِ اللغة، وَيَتَشَكَّلُ في الأُطُرِ المَرجعيةِ لِمَصادرِ المَعرفةِ تاريخيًّا وحَضاريًّا. وإذا كانَ التاريخُ يَكتبه المُنتصِر، والحَضارةُ يُهَيْمِن عَلَيْهَا الطَّرَفُ الأقْوَى، فَإنَّ اللغة يُفَجِّرُ طَاقَتَهَا الرَّمزيةَ الطَّرَفُ الأكثرُ إبداعًا. والإبداعُ لا يَتَكَرَّسُ كَحقيقةٍ واقعية إلا إذا تَخَلَّصَ مِنَ الجُمودِ، وَتَحَرَّرَ مِنَ الانكماشِ، وَأَفْلَتَ مِنَ الانغلاقِ. والإبداعُ لا يَتَجَذَّرُ كَمعرفةٍ جَمَاعِيَّة خَلَاصِيَّة إلا في ظِلِّ الانفتاحِ المَدروسِ، والتواصلِ المَنطقيِّ، وتَلاقُحِ الأفكار معَ التَّطبيقات، مِمَّا يُسَاهِمُ في تَشْييدِ الهُوِيَّةِ الإبداعية عَلى الخُصوصيةِ، وتأسيسِ السُّلطةِ المَعرفية عَلى الذاتيةِ الثقافية، بعيدًا عَن الحُلولِ المُسْتَوْرَدَةِ، وَعُقْدَةِ الشُّعُورِ بِالنَّقْصِ، والشُّعُورِ بِالدُّونِيَّةِ.

وَالحِفَاظُ عَلى مَفاهيمِ الهُوِيَّة والسُّلطةِ والذاتيةِ في المَنظومةِ الثقافية ذات التطبيقات الاجتماعية ، لا يَعْني العُزلةَ والتَّقَوْقُعَ عَلى الذاتِ وَالخَوْفَ مِنَ الآخَرِين ، بَلْ يَعْني اعتمادَ الثقافة المُجتمعية كَنِظَامِ حَيَاةٍ مُمَيَّز وأُسلوبِ عَيْشٍ فَعَّال ، انطلاقًا مِنْ مَبْدَأ الخُصوصيةِ ، وَالمَعاييرِ الأخلاقيةِ ، وَالتَّكَيُّفِ مَعَ القُدراتِ الفردية وَخَصَائصِ الجَماعةِ الإنسانية ، وَالتَّأقْلُمِ مَعَ الفِعْلِ الحَضَاريِّ المُنْبَثِق مِنَ الواقعِ المُعَاشِ ، وَالمَضمونِ التاريخيِّ النابعِ مِنْ أدواتِ اللغةِ وآلِيَّاتِهَا .

واللغةُ بِوَصْفِهَا حَرَكَةً فِكرية، وباعتبارِها تَيَّارًا مَعرفيًّا، تَمْنَحُ الحَيَاةَ الإبداعية للعلاقاتِ الاجتماعية، وَتُعْطِي العُمْقَ الإنسانيَّ للأحداثِ التاريخية. وإذا كانَ التاريخُ يُعَاد تَفْسِيرُه بشكلٍ مُستمِر في المَنظومةِ الثقافية التُّراثية، والمَناهجِ الحَياتية المُعَاصِرَة، فَإنَّ اللغة يُعَاد اكتشافُها بشكل دائم في أنماطِ السَّيطرة الوجودية، وأبعادِ الفِعْلِ الاجتماعيِّ.

وإعادةُ تَفْسيرِ التاريخِ وإعادةُ اكتشافِ اللغةِ تُمثِّلان خَطَّيْنِ مُتَقَاطِعَيْن في بُؤْرَة مَركزية واحدة، هِيَ كَينونة المُجْتَمَع، وتُجسِّدان نَسَقَيْنِ مُتَكَامِلَيْن في إطارٍ مَرجعيٍّ واحد، هُوَ كِيَان الإنسان. وَالوَعْيُ الاجتماعيُّ هُوَ نُقْطَة التَّوَازُنِ بَيْنَ كِيَانِ الإنسانِ وكَينونةِ المُجْتَمَعِ، وَهُوَ أداةُ الحَفْرِ في أعماقِ الشَّخصيةِ الإنسانيةِ، وأبعادِ السُّلطةِ المُجتمعية، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تَكريسِ اللغةِ كحالةٍ إنسانية ضِمْنَ شُروطِ تَفْسيرِ التاريخ، وإخراجِ الفِعْلِ اللغويِّ مِنَ تَرَاكُمِ الألفاظِ إلى رِحْلَةِ البَحْثِ عَن المَعْنَى في الفِكْرِ والوُجودِ.

وكُلَّمَا تَعَزَّزَ دَوْرُ اللغةِ في سَبْرِ أغوارِ النَّفْسِ الإنسانية، وَرَصْدِ التَّحَوُّلاتِ العميقة في بُنْيَةِ العَلاقاتِ الاجتماعية، تَجَذَّرَ دَوْرُ الثقافةِ في عَقْلَنَةِ اللامَعقول، وَأنْسَنَةِ إفرازاتِ المَاضِي وَمُعْطَيَاتِ الحَاضِرِ وَقِيَمِ المُسْتَقْبَلِ، وَتَحويلِ التَّجَارِبِ الإنسانية إلى مَصادر مَعرفية عَلى تَمَاس مُبَاشِر مَعَ الفِعْلِ التاريخيِّ والفَاعليَّةِ الحَضارية. وهَذا النَّشَاطُ اللغويُّ والثقافيُّ يُخَلِّصُ الإنسانَ مِنْ عِبْءِ التأويلاتِ المَصلحية للتاريخِ، ويُحَرِّرُ الذاكرةَ الحَضارية مِنْ جَلْدِ الذاتِ وَالخَوْفِ مِنَ المُسْتَقْبَلِ، ويُطَهِّرُ العَلاقاتِ الاجتماعية مِن احتكارِ الحقيقةِ المُطْلَقَةِ وَالوِصَايَةِ عَلى الآخَرِين.

واللغةُ تَسْتَمِدُّ حَيَاتَهَا مِنْ حَركتها المُستمرة نَحْوَ المَعْنَى، والثقافةُ تَسْتَمِدُّ حَيَوِيَّتَهَا مِن اندفاعها الدائم باتِّجَاه الهُوِيَّة. والحَيَاةُ والحَيَوِيَّةُ وَجْهَان لِعُمْلة واحدة، يُوجَدان مَعًا، ويَغِيبان مَعًا. وحَرَكَةُ اللغةِ لَيْسَتْ نَقْلَةً مِيكانيكية في الزَّمَانِ والمَكَانِ، وإنَّما هِيَ نَقْلَةٌ في الشُّعُورِ والوِجْدَانِ، واندفاعُ الثقافةِ لَيْسَ وَظيفةً رُوتينية، وإنَّمَا هُوَ تَوْظِيفٌ للشُّعُورِ والوِجْدَانِ في الوَعْي التاريخيِّ والذاكرةِ الحَضارية، مِنْ أجْلِ إعادةِ الإنسانِ إلى إنسانيته، بِوَصْفِهِ كائنًا حَيًّا وكِيَانًا حُرًّا وكَينونةً إبداعيةً، والإنسانُ هُوَ مَركَزُ التاريخِ والحَضارةِ، ومِحْوَرُ العَمليةِ الإبداعية في الزَّمَانِ والمَكَانِ. وَبِدُون إنسانيةِ الإنسانِ لا يُمْكِن أنْسَنَةُ التاريخِ القائمِ على الصِّرَاعِ، وَبِدُون إبداعِ الإنسانِ لا يُمْكِن عَقْلَنَةُ الحَضارةِ القائمةِ عَلى الاستهلاكِ.

المصدر: وكالة الصحافة المستقلة

كلمات دلالية: الم ج ت م ع الو ع ی الم س ت الف ع ل فی الم

إقرأ أيضاً:

الشيطان يرتدي برادا 2 عودة الثلاثي الذهبي بقصة تعكس تحولات الموضة والإعلام

يتابع عشاق السينما والموضة بشغف أخبار الجزء الثاني من الفيلم الأيقوني "الشيطان يرتدي برادا" (The Devil Wears Prada)، وذلك بعد إعلان "ديزني ستوديوز" رسميا عن بدء إنتاجه العام الماضي، إثر الظهور اللافت للبطلات الثلاث، ميريل ستريب وآن هاثاواي وإيميلي بلانت، على مسرح حفل جوائز نقابة الممثلين الأميركيين "إس إيه جي" (SAG)، في لمّ شمل آثار الحنين بعد نحو عقدين من عرض الجزء الأول.

وكان الفيلم الأصلي، الذي صدر عام 2006، قد حقق نجاحا عالميا لافتا بإيرادات تجاوزت 327 مليون دولار، رغم ميزانية متواضعة لم تتعدَّ 41 مليون دولار. ويُعزى هذا النجاح إلى كونه من أوائل الأفلام التي تناولت عالم صحافة الموضة بأسلوب درامي مشوّق ومختلف.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2السطوة الناعمة لهوليود.. كيف غيّرت أميركا شكل السينما العالمية؟list 2 of 2"ميغان 2" دمية القرن الجديد التي أعادت تعريف رعب الدمى في السينماend of list

ومع انطلاق تصوير الجزء الجديد رسميا في يونيو/حزيران الماضي، بدأت بعض التفاصيل تتسرب إلى وسائل الإعلام العالمية.

الثلاثي الذهبي ومفاجآت في طاقم العمل

كان الشاغل الأكبر لصناع الجزء الثاني من الفيلم هو تأمين عودة الثلاثي الأساسي: ميريل ستريب في دور ميراندا بريستلي، آن هاثاواي في دور آندي ساكس، وإيميلي بلانت في دور إميلي تشارلتون. وقد نجح المخرج ديفيد فرانكل في إتمام هذه المهمة بعد مفاوضات مطوّلة ومعقدة.

لاحقا، انضم عدد من نجوم الجزء الأول إلى طاقم العمل، من بينهم تريسي ثومز، تيبور فيلدمان، وستانلي توتشي، مما عزز طابع الاستمرارية والحنين في المشروع.

في المقابل، قرر بعض الممثلين الذين شاركوا بأدوار ثانوية في الجزء الأول عدم العودة، أبرزهم أدريان غرينير وجيزيل بوندشن.

وبحسب ما أكدته التقارير الصحفية، فإن الجزء الجديد سيشهد انضمام مجموعة من الأسماء الجديدة على رأسهم كينيت براناه وجاستين ثيرو وبولين شالاميه وسيمون آشلي وهيلين جي ولوسي ليو وسيمون أشلي وكاليب هيرون، في أدوار لا تزال طي الكتمان.

محاكاة واقعية

استند الجزء الأول من فيلم "الشيطان يرتدي برادا" (The Devil Wears Prada) إلى رواية تحمل الاسم نفسه، صدرت عام 2003 بقلم الكاتبة الأميركية لورين ويسبرغر، والتي استلهمت أحداثها من تجربتها الشخصية كمساعدة لرئيسة تحرير مجلة "Vogue" الشهيرة، آنا وينتور.

إعلان

ورغم أن ويسبرغر أصدرت لاحقا جزءا ثانيا من الرواية بعنوان "الانتقام يرتدي برادا: عودة الشيطان" (Revenge Wears Prada: The Devil Returns)، والذي يتناول حياة آندي بعد مغادرتها عالم ميراندا، فقد اختار صنّاع الفيلم عدم اعتماد هذا النص كمرجع للجزء الجديد.

بدلا من ذلك، تعود ألين بروش ماكينا، كاتبة سيناريو الجزء الأول، لتقدّم حبكة مبتكرة تواكب التحولات الكبيرة في عالمي الصحافة والموضة. تدور أحداث الفيلم المرتقب حول ميراندا بريستلي، التي لا تزال تتولى رئاسة تحرير مجلة "رنواي" (Runway)، لكنها تواجه تحديا وجوديا مع تراجع مبيعات الصحف والمجلات التقليدية، لصالح صعود منصات التواصل الاجتماعي وتأثيرها الطاغي.

وأمام خطر انهيار إمبراطوريتها الإعلامية، تضطر ميراندا للاستعانة بمساعدتيها السابقتين: آندي، التي أصبحت تدير واحدة من أكبر شركات الإعلان الرقمي، وإميلي، التي تشغل منصبا مرموقا على رأس دار أزياء عالمية. ومن هذا الموقف، تنطلق حبكة الفيلم في سياق يجمع بين الصراعات القديمة، والعلاقات المعقّدة، والتغيرات الجذرية في صناعة الموضة والإعلام.

يُذكر أن الجزء الثاني من فيلم "الشيطان يرتدي برادا" من المقرر طرحه في دور العرض السينمائي في الأول من مايو/أيار من العام القادم، وسط ترقّب عالمي لما سيقدمه هذا العمل من دراما مشوّقة وأناقة بصرية منتظرة.

مقالات مشابهة

  • تحولات العقيدة العسكرية الإسرائيلية.. من الردع إلى الحرب الدائمة
  • “دور المثقف في بناء الدولة والمجتمع” محاضرة بثقافي حمص
  • الشيطان يرتدي برادا 2 عودة الثلاثي الذهبي بقصة تعكس تحولات الموضة والإعلام
  • «ذوبان وتيه».. تحولات ومشاهد مؤثرة من الحياة
  • من يهاجم الهلال .. يهاجم التاريخ نفسه لا تهاجموا المجد من خلف الشاشات .. الهلال لا يُشبه أحد
  • القصير: غزة تواجه وضعًا إنسانيًا بالغ الخطورة.. والمجتمع الدولي مطالب بتحمل مسؤوليته
  • وزير خارجية إيرلندا: أطفال غزة يموتون والمجتمع الدولي صامت
  • تحولات تنظيم الدولة بأفريقيا من وجهة نظر غربية
  • وزير التعليم العالي يكرم الطلاب الفائزين بمسابقةمعًا لمواجهة الأفكار غير السوية
  • لمواجهة الأفكار غير السوية.. «عاشور» يكرم الفائزين في مسابقة «معا»