د. نزار قبيلات يكتب: الفلسفة والشعر
تاريخ النشر: 5th, May 2025 GMT
الشعر والفلسفة من أهم دواعي الجمال، وذلك بما يحمله كل منهما من قيم تُفعّل وجوديّة الإنسان وتحاول ابتكار مفاهيم وصور متخيلة تساعد على إماطة اللّثام عن السؤالية وقلق الوجود، فالفلسفة تحاول الحصول على إجابات شافية عن تلك السؤالية من خلال الفكر، أما الشعر فمن خلال تجلياته التي تتحقق بالذوق والخيال يحصل على فضاءات وعوالم موازية جديدة، إذ العلاقة بينهما تكاملية ومتعالقة، لأنهما أي الشعر والفلسفة يعتمدان على مُكنة العقل والروح لتحصيل المعرفة والجمال، وكذا التمكن من القبض على لحظات زمنية وعلى الإجابة عن قلق الميتافيزيقيا، كل ذلك يتم بواسطة اللّغة التي هي مدار التفكر ومختبر التخييل الفني، وبالتالي جعل المتلقي منفعلاً حين تمس رسالة الشاعر أو الفلسفي عواطف المتلقين، غير أن الفارق هنا يكمن في توسّل الشعر للبلاغة التزويقية، في حين تحاول الفلسفة صناعة المفاهيم وإيجادها والبرهنة عليها منطقياً.
ولا بد من التنبه هنا إلى أن الفلاسفة يرون الجمال قبل اللّغة، ذلك لأن التفكير لا يقف عن حدود فلسفة اللغة وحسب، على أن هناك أمثلة على تناول الفلاسفة لموضوعات اشتغالهم من خلال استثمار جمال اللغة في الطرح الفلسفي، من ذلك ما أنجزه ابن طفيل في «حي بن يقظان» وأيضاً ما كتبه الجاحظ، وهو ما يثبت تكامل العقل الفلسفي والعاطفة الأدبية وإبراز كل منهما لقيم الحكمة والأخلاق والتأدّب، فكما أن تعليم العربية وفق مبادئ الدين الإسلامي يعني تعلّم المروءة لمن يتحدث بها، يرى الفلاسفة أن الخطيب أو المرسل عليه أن يتمتع بالتأدب والتخلّق والوجه الحسن، فهذا حرص مشترك على دور اللغة وأهميتها في تحقيق التواصل والجمال والإقناع، فكل منهما يضيف للآخر ويُكمِله.
وبهذا يعني تعلّم الشعر التفقّه بالفلسفة، بغية الحصول على الجمال الذي يُدرك بالعقل والنظر، وأيضاً بالشعر الذي استطاع حتى تجميل القبيح وإبراز قيم إنسانية مشتركة، بغض النظر عن العرق أو اللون أو اختلاف الألسن، فالشعر يغذي الوعي ويشعل مُمكِّنات الإدراك، ويوسّع الخيال والتفكير، وبالتالي الوصول إلى موئل الجمال الذي تذوب فيه المختلفات وتتشارك فيه قيم الوجود الإنساني، وهنا يدافع أبناء العربية عن تعريف الشعر كونه ليس مجرد كلامٍ موزون ومقفى، بل هو كما يذكر الجاحظ «صناعة وضرب من النسيج وجنس من التصوير»، وهو بذلك موهبة وفلسفة وكذلك قدرة على إعمال الخيال في سبيل إعادة تمثل وتجسيم قضايا الفلسفة الإنسانية، غير أن الشعر قادر على شعرنة التفاصيل المكانية والزمنية، في حين الفلسفة قادرة على إعادة جمع كل التفاصيل الدقيقة تلك وصهرها في مفهوم، على أن هذه وجهة نظر ناقد أدبي وليس فلسفياً بالدرجة الأولى.
*أستاذ بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية أخبار ذات صلة
المصدر: صحيفة الاتحاد
كلمات دلالية: نزار قبيلات الفلسفة الشعر
إقرأ أيضاً:
بين الشعر والشعور والشاعر
(1)
المحاولة الأولى.. محاولة لـ«شاعر متعثر» لا يملك غير كلماته، لا يعرف كيف يوجهها، ولا كيف يسردها..
هو شعور جميل، ولكنه ليس شعرا في كثير من الأحيان.
(2)
يكون الشاعر مشروعا خاما في بداياته، ويكتب، ويكتب، ويضع كل ما ينجزه في دفتر صغير، يعود إليه بعد حين، فيكتشف أن ما كتبه ليس سوى خواطر، لا ترقى للشعر.. فيضحك، ويعيد ترتيب أوراقه من جديد.
(3)
يحاول مرة أخرى، وفي كل مرة يتعثر، ويسقط من على صهوة القصيدة، ولكنه يواصل المحاولة، لعل في الطريق ثمة أملا.
(4)
بعد سنين، وحين يشبّ «الشاعر المبتدئ»، ويفهم معنى الشعر، يجد أن كل سنوات عمره السابقة كانت مجرد خطوة واحدة في الاتجاه الصحيح.
(5)
يكثف الشاعر معارفه، ومصادر شعره، وخيالاته من خلال القراءة، والممارسة، والتواصل مع الشعراء حتى يشتد عوده، ويتعلم كيف يصبح شاعرا، ثم يحلّق بعيدا.
(6)
كثيرون يظلون مجرد محاولات لا تتطور، بينما يرتقي آخرون، ويظل الفرق بين الاثنين، هو ذلك الشعور المبهم الذي يكتنف كلا منهما، وتبقى العين والأذن أداتين للوصول إلى الساحل المقابل للشعر.
(7)
لا يمكن لشاعر أن يرتقي دون قراءة، ولا يمكن لشاعر أن يصبح شاعرا دون استماع، ولا يمكن لشاعر أن يصبح نجما دون مغامرة.
(8)
الشعر هو ذلك الشعور الذي ينتابنا على حين غرة، ويعيننا على التعبير عن ذواتنا، ولكننا نحتاج إلى تلك الملكة الفطرية التي تسكننا، كي نخرج من دائرة الشعور إلى فسحة الشعر.
(9)
في كل منا شاعر، إما أن نسقيه فيكبر.. وإما أن نهمله فيموت.