نعالج في هذه المحاولة مسألتين تعللان ما سننسبه إلى القيم الذوقية (مجال الفنون) والقيم الوجودية (مجال ما بعد التاريخ أو الدين ومجال مابعد الطبيعة أو الفلسفة) التي هي موضوع هذه المحاولة بالقصد الأول وما سننسبه إليهما من دور رئيسي في أنواع القيم الثلاثة الأخرى (الرزقية والعملية والنظرية وتفاعلاتها المتبادلة) التي هي موضوعها بالقصد الثاني.



وسنعتمد في علاجنا منهج التحليل التراجعي من العلة إلى المعلول أو من الشرط إلى المشروط لأن القصد هو تشخيص الداء ووصف الدواء علنا بذلك نسهم في التنبيه إلى بعض شروط الشفاء:

1 ـ المسألة الأولى نظرية خالصة: لماذا يعد تحرير القيم الذوقية والوجودية شرط استئناف الحضارة العربية الإسلامية دورها التاريخي الكوني الإيجابي وشرط تحرير الإبداعات الثلاثة الأخرى تقديما للإبداع الرمزي فيهما على الإبداع الفعلي للوجود الإنساني من حيث هو تحقيق شروط استخلاف الإنسان النظري المجرد والمطبق واستخلافه العملي المجرد والمطبق؟

2 ـ المسألة الثانية عملية خالصة: وإذا كان ذلك كذلك فكيف نحرر القيم الذوقية والوجودية من سلطان القيم الرزقية والعملية ومن الدورة الجهنمية التي فرضتها عليها عولمة النجومية التي سيطرت على النخب العربية إلى حد بات فيه جل النخب العلمانية لا يستحون من العودة إلى الوطن راكبين الدبابات الغازية بعقلية المستعمر الذي يخرب ويدمر سواء بمنطق اجتثاث الصحوة الإسلامية المزعومة ظلامية (الجنرالات وسعدي سعد في الجزائر) أو اقتلاع النهضة العربية المزعومة دكتاتورية (عملاء الاستعلامات وجلبي في العراق)؟

فالمعلوم أن الكلام على اعتبار التحرير بهذا المعنى شرطا في استئناف الدور التاريخي الكوني الإيجابي يفترض أن تحرير ضربي القيم التي هي موضوع المحاولة بالقصد الأول هدفه تحديد الغايات. أما تحرير الضروب الثلاثة التي هي الموضوع بالقصد الثاني فهدفه تحرير الأدوات.

تكبيل القيم الوجودية هو الذي أفسد الثورة المحمدية بإفساد القيم الذوقية والقيم الرزقية والقيم النظرية والقيم العملية كما أثبتنا في غير موضع. وقد ركزنا هنا على القيم الذوقية والوجودية لأنهما موضوع المحاولة الرئيسي.ويمكن للتحريرين الغائي والأداتي أن يمكنا الأمة من استئناف دورها الكوني لارتباطه بالرسالة التي أسست وجود الأمة ذاته وبقائها فضلا عن المحافظة على الدور الكوني حتى في أضعف مراحل تاريخها. كما أنه من المعلوم أن الكلام على كيفية التحرير يفترض أن شروطه التاريخية قد أينعت وحان قطافها. فلم يبق إلا الجهد الفكري لتأويلها تأويلا يجعلها تحول كل التناقضات التي تعوقها حاليا إلى محفزات. ورغم أنها من حيث الطبيعة مجرد عوارض خارجية فإنها من حيث الوظيفة أصبحت أهم المكبلات التي تعوق محركات الوجود العربي الإسلامي. وهدفنا أن نحولها إلى محفزات. ذلك أن النخب يمكن أن تكون من المحركات إذا توفرت فيها شروط التحرر من الاستيلاب لتصبح مبدعة في مجالات القيم الخمسة فلا تكون النجومية النخبوية مستندة إلى آليات مغشوشة تعطي الريادة والقيادة لمن غلبت عليهم البلادة والقوادة.

وطبعا فهدف بحثنا هو تعيين الشروط التي نراها متحققة وتحديد كيفيات تأويلها وترتيبها بصورة تحقق التحرير عامة وتحرير النخب بصورة خاصة. إن تكبيل القيم الذوقية وتكبيل القيم الوجودية متواليان في الظهور التاريخي بعكس تواليهما في سلسلة العلل.

فتكبيل القيم الوجودية هو الذي أفسد الثورة المحمدية بإفساد القيم الذوقية والقيم الرزقية والقيم النظرية والقيم العملية كما أثبتنا في غير موضع. وقد ركزنا هنا على القيم الذوقية والوجودية لأنهما موضوع المحاولة الرئيسي.

فهدفنا الأول فيها هو فهم علل إخراج الفنون الجميلة من حياة الأمة الروحية ومن فكرها. ما العلة التي جففت ذوق الوجود الحساني فلم يبق عند المسلمين من الأذواق المصاحبة للبعد الظاهر من الحياة إلا الذوق الغذائي والجنسي من غير ملطفاتهما الفنية؟ لِمَ ارتد العربي والمسلم إلى الغرائز الحيوانية الفجة التي لم يهذبها فن جميل ولا ذوق سليم عدى بذاءات المترفين؟ ولم بات المسلم عامة والعربي خاصة غاطسين في شبه حياة بهيمية لا تتجاوز الأكل والسفاح كما يتبين من حياة مترفيهم الذين ذبل منهم الذوق والعقل وانتفخ منهم البطن والكفل؟

وهدفنا الثاني هو اكتشاف العلة التي أخرجت كل التجارب الروحية من فكر الأمة النظري ( الديني والفلسفي) ومن حياتها الروحية فجف ذوق الوجود الوجداني ولم يبق من الأذواق ما لا يرقى للبعد الباطن من الحياة إلا نفس الذوقين وإن بالسلب بزعم التعفف عن الحياة المادية من غير ملطفات الشهوة الحيوانية السلبية في الفكر الصوفي المنحط فارتد الإنسان العربي والمسلم إلى عدمية الفعل التاريخي والاستسلام للامبلاة الوجودية التي يزعمونها خلوة صوفية وهي هروب من المسؤولية في تعمير الإرض شرط أهلية الاستخلاف فيها؟

لذلك فلا يمكن أن نتصور المسلمين قادرين على استئناف دورهم من غير حياة هذين النوعين من القيم. ومن اليسير أن يلاحظ القارئ الفصامين اللذين تعاني منهما النخب في الوطن العربي سواء أخدناه مفتت الأقطار بوصفها محميات الاستعممار كما هو الشأن في علاج هذه النخب الأعرج قضايا العصر من المنظور القطري العاجز أو أخذناه من منظور المجال الثقافي الواحد الذي شرع في التوحيد السلبي بينها بحسب منطق اللحظة التاريخية منطقها الذي يفرضه ما يسعى إليه العدو الأمريكي من توحيد لمجال استعداده لعماليق القرن الجديد بالاستحواذ على منابع الطاقة وثروات الأرض زرعيها ومعدنيها فضلا عن احتلال أفضل قاعدة أرضية قريبة منهم جمعيا . لكن تفسير هذين الفصامين لم ينل حظه من العناية والعلاج النظري لأنه لم يربط بما أصاب أسلوبي عمل الفكر البشري المضاعفين من عطل نتج عن التنافي بينهما من منظور أشباه النخب التي لم تغص إلى أعماق وحدة العقل المبدع رغم اختلاف الأساليب: أسلوب الفلسفة أو العقل ببعديه النظري (علوم الطبيعة) والعملي (علوم الأخلاق) وأسلوب الدين ببعديه النظري (العقيدة) والعملي (الشريعة).

والعلة الأساسية في إهمال هذا العلاج هي وهم التنافي بين هذين الأسلوبين والبدائل الزائفة الساعية إلى التخلص من ثنائية أسلوب الأدراك البشري: بالرد المتبادل بينهما الذي هو الحد الأدنى من نفي المردود للإبقاء على وحدانية المردود إليه.

لذلك فنحن نشرع في هذا العلاج آخذين مأخذ الجد الأسلوب الديني لتحديد القيم وادوار النخب المتكلمة باسمها رغم انتساب محاولتنا إلى الأسلوب الفلسفي. وهدفنا في المحاولة هو تفسير الآليات التي تتحكم في نجومية النخب وربطها باطارين قاهرين لا يمكن من دونهما فهم دور النخب عامة والنخب العربية الحالية خاصة لفهم علاقة الفصام الذي أصابها بآليات النجومية في الرأيين العامين العربي الإسلامي والأوروبي الأمريكي:

1 ـ أولهما هو إطار الحرب النفسية التي تعينت في استراتيجية الإعلام والتدخل الأمريكيين لتوجيه مؤسسات إبداع القيم ورعايتها وتبادلها في كل مجتمعات العالم عامة وفي المجتمعات الإسلامية والعربية منها على وجه الخصوص.

2 ـ والثاني هو ردود الفعل في مجالي الإعلام وإصلاح مؤسسات إبداع القيم ورعايتها وتبادلها في مجتمعات العالم عامة وفي المجتمعات الإسلامية والعربية على وجه الخصوص.

وسنركز على تفسير الفصامين مقتصرين على النخب العربية نموذجا منحطا من النخب الإسلامية أولا ولمعرفتنا بتقازيحها ثانيا فضلا عن كونها ما تزال النواة الرئيسية في الثقافة الإسلامية  بسبب لسان القرآن حسب تصورنا لما بقي لها من دور في تاريخ البشرية الكوني. وذلك لعلتين موجبة وسالبة. وكلتاهما ليس للنخب العربية الحالية فيهما يد.

فأما العلة الموجبة فهي دور الثقافة الإسلامية الناطقة بالعربية عامة ودور اللسان العربي خاصة في تراث كل المسلمين. ومعنى ذلك أن العلة الموجبة لا يدين بها دور الثقافة العربية في الثقافة الإسلامية بشيء للنخب العربية الحالية بل العكس هو الصحيح أي أن النخب العربية التي قد يسمع لها أحيانا لا يسمع لها إلا بقدر مواصلتها للثقافة الإسلامية الأولى. وتلك هي العلة في كثرة الطحالب الطفيلية من النخب العربية عامة والعلماني منها على وجه الخصوص الطحالب التي تتاجر بهذه الثقافة (كباعة الآثار المسروقة  من المتاحف والمؤلفات من المكبات) بخطاب قابل للنفاق في السوق الغربية تأييدا للموقف الغربي من الثراث العربي.

والمعلوم أنه لا أحد من الغرب يمكن أن يسمع لما يقولونه عن الفكر الغربي من سخافات لا تتجاوز ما يلتقطونه من سوق "الثيات الملبوسة أي الفريب. وسواء كان من يسمع لهم يدري أو لا يدري فإن ما يقولونه عن الفكر العربي أكثر سخافة مما يقولونه عن الفكر الغربي لكن تأييد الأحكام المسبقة يحقق بعض القبول لغير المقبول بحسب المعقول.

إسرائيل وأمريكا لا تحاربان الأمة الإسلامية لأنها تعتبر النخب العربية الحالية تحديا فكريا أو علميا أو تقينا كما هو الشأن مثلا بالنسبة إلى النخب الأوروبية والصينية واليابانية والهندية. إنما التحدي علته أن العرب لا يزالون قلب العالم الإسلامي رمزيا رغم كون ذلك يحصل رغما عن أنوفهموأما العلة السالبة لأهمية النخب العربية والتي ليس للنخب العربية فيها يد كذلك فأمرها بين حتى للغافلين والمغفلين: إنها علة سعي أمريكا للاستحواذ على الوطن العربي لما فيه ولموقعه فضلا عن وجود إسرائيل. فإسرائيل وأمريكا لا تحاربان الأمة الإسلامية لأنها تعتبر النخب العربية الحالية تحديا فكريا أو علميا أو تقينا كما هو الشأن مثلا بالنسبة إلى النخب الأوروبية والصينية واليابانية والهندية. إنما التحدي علته أن العرب لا يزالون قلب العالم الإسلامي رمزيا رغم كون ذلك يحصل رغما عن أنوفهم (عروبة القرآن والسنة والتراث الديني الإسلامي) وماديا (كون الوطن العربي يوجد في ملتقى القارات الثلاث التي أبدعت كل الحضارات وكون محرك الحضارة المادي أو الطاقة جلها والرمزي أو المشاعر كلها توجد فيه). ولعل ما قوى أثر هذين الإطارين الخاصين بالنخب العربية في حدود دورها في الثقافة الإسلامية فضلا عن هاتين العلتين ظاهرتان كونيتان لا مرد لهما ظاهرتان تمثلان في الوقت نفسه علامة منزلة الوطن العربي السلبية والايجابية في التاريخ الكوني:

1 ـ فأما المنزلة السلبية فيمكن استنتاجها من الحقيقة التاريخية التي بدأت بعد تكون الدولة الإسلامية. فكل القوى التي سعت إلى تأسيس نظام طغياني عالمي حاربت المسلمين عامة والعرب خاصة لأنها اعتبرتهم عائقا أمام مشروعها. ذلك أن تمكين الإسلام العرب والمسلمين من تحقيق دار الإسلام حيث هي الآن جعلهم رقما ضروريا في المعادلة التاريخية الكونية بحكم كونهم رقما ضروريا في ما يستمد من المكان وثرواته  المادية والزمان وثرواته الروحية أي من معين  مقومات الوجود البشري فضلا عن تعريف القرآن المسلمين بكونهم الشاهدين على العالمين وعدم  اعترافه بالتفاضل بين الشعوب إلا بالتقوى (الحجرات 13) واعتبارهم أخوة (النساء 1) تحريرا للبشرية من العرقيات والطائفيات والطبقات وحتى الجنسيات لأنها من الآيات وليست من السلبيان.

2 ـ وأما المنزلة الإيجابية فيمكن استنتاجها من حقيقة تاريخية مناظرة للحقيقة التاريخية الأولى. فكل محاولات التحرر العالمية من الطغيان العالمي القادم من الغرب بدأت باستئناف العرب دورهم في تكوين قاعدة الصحوة الإسلامية المادية والروحية ( بدءا بالقضاء على بقايا الاستعمار البيزنطي المسيحي في ملتقى القارات الثلاث منطلقا لتكوين دار الإسلام الحالية وختما بالحرب مع أمريكا وتوسطا بكل ما  حصل بين الحروب الصليبية وحروب التحرر من الاستعمار ). ذلك أن تحقيق رسالة الإسلام التحريرية يشترط أمرين يتألف منهما معنى الشهادة على العالمين بالجهاد من أجل:

1 ـ التصدي لإفساد الطبيعة (استغلال الطبيعة استغلالا فاحشا) وإفساد الثقافة (استغلال الثقافية استغلالا فاحشا).

 2 ـ والتصدي للظلم والعدوان (حماية المستضعفين اقتصاديا) وللعنصرية والمفاضلة بين الشعوب في الأرض (حماية التعدد السلالي والثقافي).

وبذلك فإن بحثنا سيتألف من ثلاثة فصول متعددة الفقرات:

1 ـ أولها يمهد لمسألتي البحث فيعالج مقدمات التأسيس النظري لدراسة آليات تكون النخب عامة والنجومية خاصة تخصيصا بالنخب العربية في اللحظة الراهنة مع التركيز على دواعيها وأزوفها.

2 ـ والثاني يعالج آليات النجومية في أولى النخبتين المقصودتين بالذات في المحاولة أعني النخبة الوجودية (معاني الحياة وقيمتها) مع التركيز على توضيح نظرية مجالات القيم الخمس: مجال القيم الذوقية (الفنون الجميلة) ومجال القيم الرزقية (الاقتصاد) ومجال القيم النظرية (العلوم وتطبيقاتها) ومجال القيم العملية (السياسة والقانون وتطبيقاهما) ومجال القيم الوجودية (الفلسفة والدين).

3 ـ والثالث يعالج آليات النجومية في ثانية النخبتين المقصودتين بالذات في المحاولة أعني النخبة الذوقية مع التركيز على استخراج بذرات نظرية الفن الإسلامية من حيث إن الفن هو البعد الرمزي من الفعل التاريخي الشامل بأبعاده القيمية الخمسة التي سنشير إليها  في الفصل الثاني من هذا البحث.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير العربية النخبة عرب رأي أفكار نخبة أفكار أفكار أفكار سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الثقافة الإسلامیة العربیة الحالیة النخب العربیة الوطن العربی العربیة فی فضلا عن التی هی من حیث ذلک أن

إقرأ أيضاً:

لماذا يغيب الصوت العربي في مناطق سيطرة قسد؟

في الوقت الذي تخوض فيه "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) مفاوضات متقدمة مع حكومة الرئيس أحمد الشرع في دمشق، يغيب الصوت العربي بوضوح عن طاولة النقاش، رغم أن العرب يشكّلون الغالبية السكانية في مناطق سيطرة "قسد"، وأكثر من 70% من عناصرها العسكرية، وفق تقديرات محلية ودولية.

هذا الغياب لم يكن طارئا، بل هو امتداد لحالة تهميش سياسي وإداري ممنهج طغت على علاقة "قسد" بالمكون العربي منذ تأسيسها بدعم الولايات المتحدة عام 2013، حسب شخصيات عربية.

ولم يترجم الوجود العددي الكبير للعرب إلى شراكة حقيقية في مراكز القرار أو في صياغة السياسات، لا داخل الهياكل القيادية لـ"قسد"، ولا ضمن المؤسسات المدنية التابعة لها.

ومع ارتفاع نبرة الصوت الكردي بعد سقوط النظام ومطالبته بحكم فدرالي أو لا مركزي موسع من جهة، ودخول قسد -بمظلتها العسكرية والسياسية- مرحلة جديدة من التفاوض مع الدولة السورية من جهة ثانية، يبرز تساؤل ملح: ما سبب غياب العرب في المفاوضات والترتيبات المقبلة؟ وهل تفتح التطورات الباب أمام تغيير في واقع التهميش المستمر منذ سنوات؟

العرب في مناطق سيطرة قسد رأوا في اتفاق 10 مارس/آذار بارقة أمل لاستعادة صوتهم المهمش (الجزيرة) أين وصلت المفاوضات بين دمشق وقسد؟

بعد مرور نحو 3 أشهر على توقيع اتفاق العاشر من مارس/آذار بين الرئيس السوري أحمد الشرع وقائد "قسد" مظلوم عبدي، دخلت المفاوضات بين الطرفين مرحلة جديدة تتسم بالهدوء السياسي ومحاولات محدودة على الأرض لتنفيذ مضامين الاتفاق.

إعلان

وفي اجتماع رسمي عقد بدمشق مطلع يونيو/حزيران الجاري، أكد رئيس اللجنة المختصة بتنفيذ الاتفاق العميد زياد العايش -في تصريحات صحفية- التوصل إلى تفاهمات أولية حول ملفات التعليم، وعودة المهجرين، وتفعيل اتفاقات محلية في حيي الشيخ مقصود والأشرفية بمدينة حلب، مشيرا إلى التزام الطرفين بالحوار البنّاء.

لكن هذه الأجواء التفاؤلية لا تعكس -حسب الباحث الكردي علي تمي المطلع على المفاوضات بين الطرفين- حقيقة ما يجري خلف الكواليس، ويرى أن "قسد تمارس سياسة شد وجذب، وتستثمر الوقت في إعادة ترتيب أوراقها ميدانيا"، مشيرا إلى وصول المئات من كوادر قنديل (حزب العمال الكردستاني) إلى الحسكة، إضافة إلى عناصر أمنية من النظام السابق، وهو ما اعتبره "تحضيرا محتملا لصدام مستقبلي".

ويشكك الباحث تمي -في حديثه للجزيرة نت- في إمكانية تنفيذ البنود الجوهرية من الاتفاق، مثل تسليم سد تشرين أو إطلاق سراح الأسرى، ويعتبر أن "قسد تستخدم لغة التفاهم لكسب الوقت فقط، بانتظار انقضاء المرحلة الانتقالية، حيث ستسعى لإيجاد ثغرات للانقلاب على التفاهمات".

وبينما تصرّ دمشق على "وحدة المؤسسات" وتحذّر من أي صيغة فدرالية، يتمسك عبدي بـ"ضمانات دستورية" قبل تنفيذ الدمج الكامل، مما يجعل الاتفاق الحالي إطارا هشا لإدارة الخلاف، أكثر من كونه أساسا لحل دائم.

وكان عبدي شدد -في لقاء صحفي أواخر مايو/أيار- على أن التحول السياسي الكامل يحتاج إلى ضمانات دستورية تحفظ حقوق المكونات، وعلى رأسها الكرد، مشيرا إلى أن "قسد" مستعدة للانخراط في العملية السياسية متى ما تحقق الاستقرار وتم تثبيت الاتفاقات.

الصوت العربي بين الغياب والتغييب

في خضم التحولات السياسية والعسكرية في سوريا عامة، وفي مناطق شمال شرقي سوريا خاصة، تبدو الغالبية العربية في هذه المناطق وكأنها غائبة عن المشهد، رغم أنها تشكل الغالبية الديمغرافية والقتالية لقوات سوريا الديمقراطية.

إعلان

وبينما يتفاوض الأكراد باسم "قسد"، ويؤكدون تمسكهم بـ"الضمانات الدستورية"، و"الحكم اللامركزي"، لا يسمع صوت مماثل أو معارض لتوجه قسد في تلك المناطق، رغم اقتصار الوجود الكردي المركز على منطقة الحسكة وريفها، وخلو محافظة دير الزور منه، مع وجود محدود في الرقة، وهي المحافظات الثلاث الخاضعة لسيطرة "قسد".

وعن أسباب غياب هذا الدور، يقول الباحث المتخصص بشؤون منطقة الجزيرة السورية، مهند الكاطع، إن هناك سببا واحدا للصمت العربي داخل مناطق سيطرة قسد، وهو "الوحشية التي تتعامل بها قسد مع المدنيين في مناطق سيطرتها، خاصة مع من يعارض سياساتها".

ويرى الكاطع -في حديثه للجزيرة نت- أن "مليشيات قسد ترتكب جرائم وانتهاكات في السجون لا تقل فظاعة عما كان يرتكبه النظام في سجون صيدنايا، فهناك عمليات اغتيال وقتل وتعذيب بدون رقيب أو حسيب، ويضاف إلى ذلك وجود شبكة الجواسيس والمخبرين الذين جندتهم قسد، مما جعل من الصعب القيام بأي عمل منظم داخل تلك المناطق".

وكانت قسد واجهت بعنف انتفاضة عشائرية في ريف دير الزور الشرقي عام 2023، طالبت بإنهاء التهميش ورفع القبضة الأمنية، مما خلّف قتلى وجرحى، إضافة إلى اعتقال المئات من أبناء المنطقة.

ووثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان -في بيان لها صادر يوم 27 مايو/أيار الماضي- احتجاز قوات سوريا الديمقراطية ما لا يقل عن 47 شخصا في محافظتي دير الزور والرقة خلال الفترة الممتدة من 15 إلى 25 من الشهر نفسه.

وفي أحدث التجاوزات التي رصدها ناشطون محليون، ذكرت شبكة "نهر ميديا" أن 4 أشخاص قتلوا خلال مايو/أيار الماضي في محافظة دير الزور شرقي البلاد برصاص "قسد" ومسلحين مجهولين، حيث تعيش المنطقة حالة من الفوضى الأمنية، وسط تسجيل حالات اغتيال شبه يوميا.

سجناء محررون في صفقة تبادل الأسرى بين الحكومة السورية وقسد (الجزيرة) قسد وتفتيت الأغلبية العربية

رغم حديثها المتكرر عن تمثيل كل المكونات، فإن قوات "قسد" اتبعت منذ بدء سيطرتها على مناطق شرق الفرات نهجا للهيمنة على المكون العربي وتفكيك بنيته الاجتماعية والسياسية، في عملية مدروسة، حسب شخصيات عشائرية وتقارير حقوقية، لتهميش الأغلبية السكانية عبر مزيج من القمع العسكري، والسيطرة على الموارد، واختراق البنى القبلية، وهو ما أدّى إلى تغييب أي تمثيل حقيقي للعرب.

إعلان

في هذا السياق، يقول الشيخ مضر حماد الأسعد، رئيس المجلس الأعلى للقبائل والعشائر السورية، إن "قسد فرضت نفسها بالقوة العسكرية عن طريق الترهيب والترغيب، فاستغلّت المال لإغراء بعض شيوخ القبائل، وقدّمت لهم الدعم السياسي والاجتماعي، بينما عمدت إلى تحييد الآخرين، مما تسبب بشرخ اجتماعي كبير داخل المجتمع العربي".

ويتابع الأسعد -في حديثه للجزيرة نت- أن الدعم الخارجي (من الولايات المتحدة وإسرائيل وإيران) وفر لـ"قسد" غطاء سياسيا وعسكريا مكّنها من الاستيلاء على النفط والغاز والثروات الزراعية والحيوانية، وتنفيذ حملات تجنيد قسري، شملت خطف القاصرات وتجنيد الأطفال.

وتتقاطع شهادة الأسعد مع ما ورد في تقرير صادر عن منظمة هيومن رايتس ووتش في يناير/كانون الثاني 2025، وثّق استمرار "قسد" في اعتقال النشطاء السياسيين وتجنيد الأطفال لأغراض عسكرية، رغم تعهداتها بوقف هذه الممارسات.

كما أشار التقرير إلى تصاعد التوترات في شرق محافظة دير الزور، حيث نفذت "قسد" مداهمات أمنية أسفرت عن سقوط ضحايا مدنيين.

من ناحيته، يؤكد الباحث في شؤون الشرق السوري، سامر الأحمد، أن "قسد تمارس تضييقا أمنيا ممنهجا ضد شخصيات عربية مؤثرة، من وجهاء العشائر إلى النشطاء المستقلين، إذ تعرض كثير من هؤلاء للاعتقال أو التهديد بسبب موقف مغاير لخطاب قسد الرسمي".

وقد أدّى هذا -حسب حديث الأحمد للجزيرة نت- إلى فرض هيمنة أمنية خانقة وإقصاء المكونات المحلية عن إدارة مناطقهم، مما خلق بيئة من الخوف والانكفاء، دفعت بكثيرين إلى الصمت أو الهجرة أو الانسحاب من الحياة العامة.

استعادة الدور العربي بعد سقوط النظام

شهدت مناطق الجزيرة السورية احتفالات واسعة عقب توقيع اتفاق العاشر من مارس/آذار بين الرئيس أحمد الشرع وقائد "قسد" مظلوم عبدي، الذي شكل بارقة أمل لانطلاق مرحلة جديدة تعزز من حضور الأغلبية العربية في شرق البلاد، وأن يكون للعرب صوت مسموع ودور فعال في إدارة مناطقهم بعد سنوات من الإقصاء والتهميش.

إعلان

ومع مرور الوقت، بدأ العرب يتلمسون تزايد فرص المشاركة السياسية والاجتماعية، رغم التحديات الداخلية واختلاف المواقف بين الشخصيات العشائرية المستفيدة من الوضع الراهن والقطاعات التي تطالب بتمثيل أوسع وأكثر شفافية، ليصبحوا فاعلين في رسم مستقبل مناطقهم ضمن سوريا الجديدة.

ولم يعد الحراك العربي المعارض لهيمنة "قسد" محصورا داخل مناطق شرق الفرات، بل امتد إلى خارجها، حيث بدأت تتشكل تجمعات وتيارات سياسية تمثل أبناء الجزيرة والفرات، تعبّر بوضوح عن رفضها سياسات "قسد" ومشروعها الانفصالي، وتعلن دعمها الصريح للدولة السورية الجديدة، وفق ما أفاد به الباحث مهند الكاطع للجزيرة نت.

ومن أبرز هذه التشكيلات تجمع أبناء الجزيرة (تاج)، وحركة دحر، وحركة الثامن من كانون الأول في دير الزور، وتجمع أبناء الرقة، وتجمع أبناء دير الزور (تآزر)، وتجمع الشرق، إضافة إلى عدد من اللقاءات والفعاليات التي تطالب بإنهاء مظاهر التفرد والتهميش، وبسط سلطة الدولة على كامل الجغرافيا السورية.

بدوره، يؤكد هاشم الطحري، الناطق باسم مجلس التعاون والتنسيق في الجزيرة السورية، أن مجمل الكتل والتيارات السياسية الممثلة للعرب في شرق الفرات، خاصة تلك الموجودة خارج مناطق سيطرة "قسد"، تنظر بإيجابية إلى المرحلة الجديدة التي تمر بها سوريا، حيث تسود قناعة بأن البلاد باتت تحت قيادة دولة تسعى لحل ملف شرق الفرات عبر الطرق السلمية، حفاظا على الدم السوري ووحدة البلاد.

ويشير الطحري -في حديثه للجزيرة نت- إلى أن القوى السياسية والعشائرية، سواء داخل المحافظات الشرقية أو خارجها، إلى جانب عدد من الفصائل العسكرية، في حالة استعداد دائم لكل السيناريوهات، بما فيها استخدام القوة إذا فرضت كخيار أخير بعد استنفاد الحلول السلمية.

وشهدت مناطق شمال شرقي سوريا منذ اليوم الأول لسقوط النظام مظاهرات مطالبة بدخول قوات الحكومة السورية إلى تلك المناطق، غير أن "قسد" واجهت الحراك الشعبي الرافض لوجودها بقمع أدى إلى مقتل 5 أشخاص في الرقة، و11 شخصا في دير الزور، حسب شبكات محلية، إلى جانب فرض حالة الطوارئ وشنّ حملات اعتقال واسعة، مما أدى إلى تصاعد حالة الغليان الشعبي في هذه المناطق.

إعلان

مقالات مشابهة

  • تداول 2000 طن بضائع عامة ومتنوعة و244 شاحنة بموانئ البحر الأحمر
  • تداول 29 سفينة حاويات وبضائع عامة بميناء دمياط
  • أسوان في 24 ساعة| إصلاح كسر مفاجئ بخطوط مياه.. وحملات نظافة عامة وإزالة للتعديات
  • الأوقاف تنظم أمسية ثقافية في مسجد العلي العظيم بحضور وزراء وشخصيات عامة
  • مطالبات لحكومة ولاية الخرطوم بحل مشكلة مياه الشرب لمنطقة شرق النيل بصورة عامة
  • الدويري: المقاومة بغزة تقود حرب استنزاف تختلف عن تلك التي قادتها الجيوش العربية
  • أمام قمّة «القيم الأولمبية 365».. هند بنت حمد: استضافة قطر للأولمبياد نقطة تحوّل تاريخية
  • تداول 23 سفينة حاويات وبضائع عامة بميناء دمياط
  • لماذا يغيب الصوت العربي في مناطق سيطرة قسد؟