حين تُصنع القرارات بهدوء.. وتنجح قبل أن تُعلن
تاريخ النشر: 11th, June 2025 GMT
خالد بن حمد الرواحي
لم يكن الحديث طويلًا، لكنه غيّر كثيرًا من نظرتي للإدارة؛ ففي مهمة عملٍ رسمية إلى سنغافورة قبل عدة سنوات، التقيت وكيل وزارة العمل السنغافوري، ولم يكن اللقاء بروتوكوليًّا عابرًا؛ بل حوارًا قصيرًا فتح أمامي نافذةً عميقة على طريقةٍ مختلفةٍ تمامًا في التفكير الإداري.
سألته بدافع التأمل والفضول: "ما الفرق بين إدارتكم الحكومية وإدارتنا في العالم العربي؟ كيف تنجحون في تمرير قراراتكم دون أن تواجهوا ما نواجهه من اعتراضات وارتدادات؟".
كانت إجابته صادمة ببساطتها، لكن خلف تلك البساطة، وجدتُ عمقًا هائلًا في المفهوم: القرار الناجح لا يكمن في توقيعه، بل في توقيته وظروفه. ومنذ تلك اللحظة، بدأت أطرح على نفسي سؤالًا أوسع: هل نحن نصنع القرار لنحلّ المشكلة، أم لنُدير ردّات الفعل بعدها؟
في بيئاتنا الإدارية، كثيرًا ما نُباغَت بالمشكلات، فنصدر قراراتٍ حماسيةً تحت ضغط الرأي العام أو الظروف المفاجئة. وقد تأتي النوايا صادقة، لكن الخطأ لا يكون في الهدف، بل في الاستعجال. وهكذا تبدأ دورةُ إنهاكٍ طويلة: تفسير، وتبرير، وتعديلات، ومحاولات لامتصاص الغضب.
أما في التجربة السنغافورية، فالقرار لا يُرمى على الطاولة كحجرٍ ثقيل، بل يُغرس أولًا في وعي المجتمع؛ يُناقَش ضمنيًّا، يُلمَّح له في السياسات والخطط، حتى إذا صدر لاحقًا، بدا وكأنه استمرارٌ طبيعيٌّ، لا مفاجأة مزعجة.
وهنا بيت القصيد: إن أفضل القرارات ليست تلك التي تُعلَن بقوة، بل تلك التي تسبقها قراءة دقيقة للمشهد، واستعداد ذكي لاحتمالاته. إنها قرارات تُبنى في العقول والقلوب، قبل أن تُسجَّل في الوثائق.
التفكير بهذه الطريقة لا يتطلب ميزانياتٍ ضخمة، بل يتطلب عقلًا إداريًّا يُقدّر أثر القرار قبل وقعه. يسأل: من سيتأثر؟ كيف نُهيّئه؟ هل نُشركه في الحل؟ هل الوقت مناسب؟
كلها أسئلة لا تتعلق بالتقنية، بل بالحكمة السياسية والإدارية.
وقد أدركت من ذلك اللقاء أن الفرق بين ردود الفعل الإيجابية والسلبية لا يكمن في القرار نفسه، بل في الطريق الذي سلكناه قبله. فالتهيئة لا تقلّ أهمية عن التنفيذ، بل ربما تتفوّق عليه.
وربما هذا ما نحتاجه في بعض مؤسساتنا اليوم؛ أن نُبطئ لحظة إصدار القرار، لنُسرّع نجاحه بعد التنفيذ. فالمجتمع حين يُشرك في القرار، يتحول من متلقٍّ إلى شريك، ومن معترضٍ إلى داعم.
اليوم، في ظل "رؤية عُمان 2040" التي تراهن على بناء جهازٍ إداريٍّ مرن، ونزيه، وفعّال، نحتاج إلى هذا النمط من التفكير العميق. فليست الغاية أن نملأ الأدراج بالقرارات، بل أن نُخرج منها ما يُحدث أثرًا، ويبني ثقة، ويُشعِر المواطن بأنه شريكٌ لا متلقٍّ.
لقد قال لي وكيل العمل السنغافوري عبارته ومضى، لكنني غادرتُ اللقاء وأنا أُدرك أن إدارة القرار فنٌّ لا يقلّ عن مضمون القرار نفسه. هناك من يُصدر القرار ليُظهر سلطته، وهناك من يُصدره بعد أن استنفد الحوار والبدائل والتقييم، فكان قراره أشبه بخطوةٍ طبيعيةٍ في طريقٍ مشترك.
والفرق بين الاثنين... هو الفارق بين من يصنع الضجيج، ومن يصنع التاريخ.
ونحن في عُمان، نملك كل مقومات القرار الحكيم... فقط إن سبقناه بالحوار، وأحطناه بالثقة.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
الإسلام يتصدر النمو العالمي.. ربع سكان العالم مسلمون والمسيحية تتراجع بهدوء
كشف تقرير شامل أصدره مركز “بيو” للأبحاث، أن الإسلام بات أسرع الديانات نموًا في العالم خلال العقد الأخير، مع بلوغ عدد المسلمين اليوم 25.6% من سكان الأرض، مقابل 28.8% للمسيحيين الذين لا يزالون يحتلون المرتبة الأولى من حيث العدد، لكن بنمو متباطئ ومعدل تراجع طفيف في حصتهم العالمية.
واستند التقرير إلى تحليل دقيق لأكثر من 2700 إحصاء ومسح سكاني أُجري في 201 دولة ومنطقة بين عامي 2010 و2020، حيث أرجع الباحثون النمو السريع للإسلام إلى التركيبة السكانية الشابة وارتفاع معدلات الإنجاب بين المسلمين، وليس نتيجة التحول الديني كما هو شائع. وسجلت المجتمعات المسلمة معدل نمو سنوي يقارب 2%، وهو الأعلى بين جميع الديانات.
في المقابل، بدأت المسيحية تشهد تحوّلًا ديموغرافيًا واضحًا؛ فقد انخفضت حصتها العالمية من 30.6% في 2010 إلى 28.8%، نتيجة تراجع معدلات الخصوبة وشيخوخة السكان، لا سيما في أوروبا، إضافة إلى ظاهرة “ترك الدين”، حيث ينتقل ملايين الأشخاص نحو اللادينية أو اللاأدرية، بحسب المركز.
ويبرز من نتائج الدراسة أن عدد المسيحيين في إفريقيا جنوب الصحراء تجاوز نظيره في أوروبا، في تحول مهم على خارطة الانتشار الجغرافي للمسيحية، بينما يواصل المسلمون تركزهم في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وجنوب آسيا، مع حضور متنامٍ في أوروبا وأميركا الشمالية.
كما سجل التقرير صعودًا لافتًا لفئة “اللادينيين”، التي تضم الملحدين واللاأدريين ومن لا ينتمون لأي دين، لتشكل اليوم 24.2% من سكان العالم، مقارنةً بـ16% فقط قبل عشر سنوات، مما يجعلها ثالث أكبر فئة دينية عالميًا.
وبحسب التقرير، بقيت نسبة الهندوس مستقرة عند 14.9%، معظمهم يتركزون في الهند، في حين تراجعت نسبة البوذيين إلى 4.1% بسبب انخفاض الولادات وتزايد اللادينيين في شرق آسيا، أما اليهود، الذين يشكلون 0.2% فقط من سكان العالم، فيسجلون أبطأ نمو بسبب ارتفاع متوسط الأعمار، مع تركزهم في إسرائيل وأميركا الشمالية.
هذا وتشكل دراسة الأديان العالمية محورًا مهمًا لفهم التحولات السكانية والاجتماعية والثقافية التي يشهدها العالم. ومنذ عقود، يتابع مركز “بيو” للأبحاث (Pew Research Center) التغيرات في نسب الانتماء الديني بناءً على بيانات دقيقة تجمع بين الإحصاءات الرسمية والمسوح السكانية في مختلف الدول، مع الأخذ بعين الاعتبار العوامل الديموغرافية مثل معدلات الولادة، الأعمار، معدلات التحول الديني، والهجرة.
وفي العقد الأخير، تسارعت وتيرة التغييرات الديموغرافية عالميًا، متأثرة بعوامل مثل انخفاض الولادات في الدول المتقدمة، وزيادة متوسط الأعمار، واتساع ظاهرة “اللادينية” خاصة في الغرب، مقابل تزايد السكان في الدول ذات الأغلبية المسلمة التي تتمتع بمعدلات إنجاب مرتفعة وهرم سكاني شاب.
ويكتسب هذا النوع من التقارير أهمية متزايدة، ليس فقط لقياس انتشار الأديان، بل لفهم التحديات المستقبلية المرتبطة بالهوية، والتعليم، والتعايش، والاقتصاد، إذ إن الدين لا يزال يلعب دورًا جوهريًا في تشكيل المواقف والسياسات في كثير من مناطق العالم.