هذه شهادتي على تجويع أطفال غزة عمدا، لماذا يسمح العالم بهذا؟
تاريخ النشر: 23rd, July 2025 GMT
أكتب هذه السطور من مستشفى ناصر جنوبي غزة، حيث انتهيت حالا من إجراء عملية لمراهق صغير آخر يعاني من سوء تغذية حاد. وثمة طفلة عمرها سبعة أشهر ترقد في رعاية الأطفال المركزة، وهي شديدة الضآلة وتعاني من سوء التغذية لدرجة أنني تصورت في البداية أنها حديثة الولادة، فحتى عبارة «الجلد على العظم» ليست منصفة للحالة التي تدهور إليها جسمها.
هذه ثالث مرة لي في غزة منذ ديسمبر من عام 2023 للعمل جراحا متطوعا في جمعية العون الطبي للفلسطينيين. شهدت أحداث الإصابات الجماعية وأنذرت من سوء التغذية في يناير من عام 2024. لكن ذلك كله لم يؤهلني للرعب المحض الذي أشهده الآن: أعني استعمال التجويع سلاحا مشهرا ضد شعب بأكمله.
لقد بلغت أزمة سوء التغذية حدا كارثيا منذ زيارتي الأخيرة. ففي كل يوم أرى مرضى تتدهور حالاتهم ويموتون، لا من إصاباتهم، ولكن لأنهم يعانون قدرا من سوء التغذية تستحيل في ظله النجاة إذا أجريت لهم جراحة. فإذا بالإصلاحات الجراحية التي نجريها تتهاوى حطاما، ويصاب المرضى بالتهابات خطيرة، ثم يموتون. ويتكرر حدوث هذا، وينفطر القلب من مشاهدته. لقد مات أربعة رضع في الأسابيع القليلة في هذا المستشفى، لا من جراء قنابل أو رصاصات، وإنما بسبب الجوع.
وتبذل الأسر والعاملون قصارى الجهد في محاولة جلب ما يمكنهم جلبه، ولكن الأمر ببساطة هو أنه لا يوجد ما يكفي من الطعام المتاح في غزة. ففي حالة الرضع، لا نملك تقريبا أي حليب مناسب. والأطفال يحصلون على سكر العنب (أي الماء السكري) بتركيز 10%، وهو عديم القيمة الغذائية، وغالبا ما تكون أمهاتهم على قدر من سوء التغذية يمنعهن من الإرضاع. وحينما حاول أحد الزملاء الدوليين جلب حليب للأطفال إلى غزة، صادرته السلطة الإسرائيلية.
يتبع بنيامين نتنياهو نهجا مؤلفا من شقين: منع دخول الطعام إلى غزة مع حرمان المدنيين الأبرياء من أي خيار عدا الذهاب إلى نقاط التوزيع العسكرية للحصول على شيء من الإمدادات المحدودة. وحتى شهر مايو، كان في غزة ما يزيد على أربعمائة موقع لتوزيع المساعدات يستطيع الناس الوصول إليها آمنين. والآن لا يوجد غير أربع من هذه المناطق العسكرية في الجنوب حيث العائلات الجائعة معرضة لخطر الهجوم طوال الوقت.
وترد إليَّ أخبار عن عشرات من المصابين يتوافدون على أقسام الطوارئ كل يوم، وكثير منهم مصاب بجروح من أثر رصاصات أصيبوا بها في نقاط التوزيع العسكرية هذه. وقد أجريت بنفسي جراحات لصبْية تتراوح أعمارهم بين اثني عشر عاما وخمسة عشر عاما، وقال أقاربهم إنهم تعرضوا للرصاص وهم يحاولون الحصول على الطعام لأسرهم. وفي الأسبوع الماضي مات صبي في الثانية عشرة من العمر على طاولة الجراحة، وقد أصيب بطنه برصاصة في ما لا يمكن وصفه إلا بشرك الموت لمن يطلبون قوتهم الأساسي.
أفاد أيضا زملائي في قسم الجراحة بوجود نمط مثير للإزعاج: إذ حدث في أيام مختلفة أن تركزت الإصابات في أعضاء معينة من الجسم ـ كالرؤوس والسيقان والأعضاء التناسلية ـ بما يشير إلى استهداف متعمد لتلك الأعضاء.
في الأيام الأخيرة، أجريت جراحتين لامرأتين تعرضتا لرصاص من طائرات مروحية عند احتمائهما بالخيام قرب أحد المواقع، وفقا لما قاله الذين أحضروهما. كانت إحداهما ترضع ابنها حينما أصيبت، والثانية كانت حبلى. ومن حسن الحظ أن كليهما نجت من إصابتها حتى الآن. ولم تكن هاتان المرأتان تسعيان أصلا إلى الحصول على مساعدات، ولكنهما ببساطة كانتا تؤويان إلى مناطق يفترض أنها «آمنة» فتعرضتا لإطلاق نار عشوائي من جهاز سلاح التجويع التابع للجيش الإسرائيلي.
وليس المرضى فقط هم المعرضون هنا لسوء التغذية، ولكن عمال الرعاية الصحية أيضا. ففور وصولي لم أستطع إلا بصعوبة التعرف على زملاء سبق أن عملت معهم في العالم الماضي، وقد فقد بعضهم ثلاثين كجم من وزنه. وفي وقت الغداء، يقترب الأطباء والممرضات من مواقع التوزيع، وهم يعلمون أنهم معرضون لخطر الموت، ولكن لا خيار لهم إن أرادوا إطعام أسرهم.
مستشفى ناصر هو المستشفى الكبير الوحيد المتبقي إلى الآن في جنوبي غزة، لكننا نعمل ونحن على شفا الانهيار، إذ نعاني من هجمات سابقة ونكافح سيولا من الإصابات، وفي ثنايا ذلك كله نواجه نقصا في كل شيء. فقد أدى تدمير نتنياهو الممنهج لنظام الرعاية الصحية في غزة إلى حصر الاحتياجات الطبية الملحة في هذه المنشأة الوحيدة، مع الاستهداف المباشر للعاملين في مجال الرعاية الصحية والمرضى. وفي هذا الأسبوع فقط، لقي أحد أعزائنا في قسم التمريض الجراحي مصرعه وهو في خيمته مع أطفاله الثلاثة الصغار.
أريد أن أقول بوضوح: إن ما يرتكب في حق الفلسطينيين بغزة وحشي ويمكن منعه بالتأكيد. ولا يمكنني أن أصدق أن نكون قد وصلنا إلى مرحلة يشاهد فيها العالم أهل غزة وهم مرغمون على احتمال الجوع وإطلاق النار، بينما الطعام والمساعدات الطبية تقبع على بعد أميال قليلة منهم خارج الحدود.
سوف يؤدي سوء التغذية القسري والهجمات على المدنيين إلى مصرع آلاف آخرين إن لم تتوقف فورا. وكل يوم من التقاعس يعني موت المزيد من الأطفال، لا بأثر من الرصاص أو القنابل وحسب، وإنما بأثر من الجوع أيضا. ومن المؤكد أن وقف إطلاق النار الدائم، وتدفق المساعدات بحرية وأمان من خلال منظومة الأمم المتحدة، ورفع الحصار، أمور ضرورية الآن جميعا، وكلها قابلة للتحقيق بالإرادة السياسية.
وليس استمرار حكومة المملكة المتحدة في التواطؤ مع فظائع إسرائيل بالأمر المقبول، فلا أريد أن أقضي يوما آخر في إجراء عمليات جراحية لأطفال تعرضوا لإطلاق الرصاص والتجويع على يد جيش تدعمه حكومتنا. فسوف يحكم التاريخ لا على مرتكبي هذه الجرائم فقط، وإنما على من وقفوا مكتفين بالفرجة أيضا.
وإنني أقول لكم من داخل مستشفى ناصر: هذا أمر عمدي. وهذا أمر يمكن منعه. وهذا أمر لا بد أن يتوقف الآن.
البروفيسور نيك مينارد جراح استشاري في مستشفى جامعة أكسفورد، وهو يسافر بانتظام إلى غزة منذ خمسة عشر عاما، وهو حاليا متطوع مع جمعية العون الطبي للفلسطينيين في مستشفى ناصر بغزة.
الترجمة عن ذي جارديان
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: من سوء التغذیة مستشفى ناصر فی غزة
إقرأ أيضاً:
طفولة تحت الحصار.. سوء التغذية يهدد أطفال غزة بـ8 مضاعفات صحية ونفسية خطيرة
في ظل العدوان المستمر على قطاع غزة والنقص الحاد في المؤن الغذائية الأساسية، دقّت منظمات دولية ناقوس الخطر بشأن الأثر الكارثي لسوء التغذية على الأطفال، حيث يعيش مئات الآلاف منهم في ظروف إنسانية غير صالحة للنمو أو البقاء السليم.
مضاعفات مدمّرة لسوء التغذية بين أطفال غزةوأكدت تقارير صادرة عن منظمة الصحة العالمية (WHO) واليونيسف (UNICEF) أن سوء التغذية أصبح خطرًا متفاقمًا في غزة، مع الحصار المستمر، وانهيار البنية التحتية الصحية، وصعوبة دخول المساعدات.
وهناك بعض المضاعفات المدمّرة لسوء التغذية التي يتعرض لها أطفال غزة، ومن أبرزها ما يلي:
ـ تأخر النمو الجسدي والعقلي:
نقص البروتينات والفيتامينات الحيوية يعطل تطوّر الدماغ والجسم، ويؤثر على مستقبل الطفل بالكامل.
ـ ضعف شديد في المناعة:
الأطفال في غزة باتوا أكثر عرضة للعدوى والأمراض مثل الإسهال والتهابات الجهاز التنفسي بسبب نقص العناصر الأساسية.
ـ الأنيميا الحادة:
تقارير تشير إلى تفشّي فقر الدم بين الأطفال بسبب ندرة الأغذية الغنية بالحديد مثل اللحوم والبقوليات.
ـ نقص الوزن والهزال الحاد:
صور مؤلمة لأطفال بأجساد نحيلة جدًا أصبحت شائعة، مع تسجيل حالات سوء تغذية حاد (Severe Acute Malnutrition) يصعب علاجها دون تدخل سريع.
ـ اضطرابات سلوكية ونفسية:
الأطفال المحرومون من الغذاء السليم يعانون من القلق، البكاء المتكرر، اضطرابات النوم، والعزلة الاجتماعية.
ـ تأخر البلوغ:
الخبراء يحذرون من أن نقص الدهون والفيتامينات يؤثر على الهرمونات ويؤخر تطوّر الجسم الطبيعي.
ـ صعوبة التركيز وتراجع القدرات العقلية:
غياب الغذاء الكافي يؤدي إلى تدهور في التحصيل الدراسي والانتباه، ويؤثر على مستقبل التعليم في القطاع.
ـ مضاعفات قد تؤدي إلى الوفاة:
في الحالات الشديدة، قد يؤدي سوء التغذية إلى فشل في الأعضاء الحيوية، خصوصًا القلب والكبد، ويهدد حياة الطفل.
وتحذر الأمم المتحدة، بأن "الوضع الغذائي في غزة كارثي. الأطفال ينامون جوعى ويستيقظون على قصف. تأخر وصول الغذاء يعني موتًا بطيئًا للصغار."
– تصريح رسمي لليونيسف، يوليو 2025
ـ تسهيل إدخال الأغذية الأساسية مثل الحليب، البروتينات، الفواكه المجففة والمكملات الغذائية.
ـ توفير دعم غذائي مركز للأطفال المصابين بسوء تغذية حاد.
ـ حملات دولية لوقف الحصار وضمان وصول المساعدات الطبية والغذائية.