ما بين بيكاسو ودوشامب.. هل خربت الحداثة الفنية وما بعدها الفن؟
تاريخ النشر: 30th, August 2023 GMT
حين توفي الفنان الفرنسي مارسيل دوشامب عام 1968 قال بابلو بيكاسو «كان على خطأ». كانت تلك المقولة مناسبة للجمع بين الفنانين الأكثر شهرة في القرن العشرين في معرض مشترك أقيم في متحف الفن الحديث بستوكهولم عام 2017. فبالرغم من أنهما كانا مختلفين في سبل التفكير في الفن والرؤية والأساليب والمواد والتقنيات غير أن كل واحد منهما كما يُقال قبض على قرن من قرني الثور الهائج الذي هو الفن الحديث وسعى كل واحد منهما بطريقته الخاصة إلى ترويض ذلك الثور.
لقد عمل كل واحد منهما في منطقته، غير أنهما في حقيقة ما فعلاه احتلا بتأثيرهما الحيز الأكبر من تاريخ الفن في القرن العشرين. كان قرنهما بالرغم من ظهور فنانين كبار إلى جانبهما بدءا من هنري ماتيس وانتهاء بانسلم كيفر مرورا بكاندنسكي وموندريان وخوان ميرو وهنري مور وجياكومتي ومئات آخرين حول العالم.
بين التكعيبية وفن المفاهيم
من الصعب الحديث عن بيكاسو ودوشامب كما لو أنهما رفيقا مهنة واحدة. يوم قرر دوشامب ترك الرسم كان بيكاسو في طريقه إلى أن يترك الأسلوب التكعيبي. التكعيبية التي بدأت عم 1912 كانت استلهاما متقدما لنظريات بول سيزان الهندسية. مات سيزان عام 1906 بعد أن تأكد أن أعماله ستذهب إلى اللوفر وأن كل ما قاله عنه صديق طفولته الروائي أميل زولا كان خطأ. أنهى سيزان سلطة المنظور في الرسم وقرر أن المنظر الطبيعي إنما يتألف من تشكيلات هندسية وهو ما وهبه مكانة خارج المدرسة الانطباعية التي لم يتعامل رساموها مع فنه بشيء من التقدير. دوشامب وبيكاسو كانا شابين حررتهما الهبة السيزانية من الماضي وصارا يعملان، كل بطريقته على تمرير اختراعاتهما تحت عنوان القطيعة. عام 1907 رسم بيكاسو لوحته «نساء أفنيون» التي تأخر عرضها لسنوات وفي عام 1917 وقع دوشامب عمله «النافورة» الذي هو عبارة عن مبولة رجالية، قام بشرائها من مخزن لأدوات البناء. بدا دوشامب بـ«النافورة» مسيرة الفن المفاهيمي الذي سيتعرف عليه تاريخ الفن بشكل موسع في ستينيات القرن العشرين مع حركة «فلوكسس» الألمانية وبالأخص مع يوزيف بويز (1921ـ 1986) الذي أعاد صياغة نظريات دوشامب بطريقة ثورية. كان بيكاسو وهو يحطم الشكل البشري من خلال اللعب بالخطوط الخارجية يتوقع ألا تحظى لعبة رفيقه دوشامب بأي نوع من الاهتمام العالمي. غير أن توقعاته باءت بالفشل. ربما كان سعيد الحظ لأنه مات عام 1973. في ثمانينيات القرن العشرين بدا واضحا أن استعادة فن دوشامب صارت عنوانا لما سميت بـ«حركة الفنون المعاصرة» وهي حركة اجتاحت العالم بأسره، من الصين حتى الولايات المتحدة. لقد تبنى فكر ما بعد الحداثة الطريقة التي فكر فيها دوشامب في الفن، بل أنه اعتبر تلك الطريقة حلا لخروج الفن من مأزق جماليته التي باتت نوعا من الخديعة والزيف.
قوة الفكر في مواجهة قوة الجمال
كان بيكاسو وهو رسام أكاديمي خارق يعتبر نفسه وارثا لرسامين كبار مثل روفائيل وفيلاسكز وديلا كروا الذي أعاد رسم لوحته «نساء الجزائر» ثلاث مرات في محاولة منه لاكتشاف مواقع رؤية ليست موجودة في اللوحة الأصلية. أما دوشامب فقد كان أشبه بمَن يسخر ويضحك ويلعب. ولكنه لعب سيصنع تاريخا للشغب الذي لا يكف عن أن يحدث ضجيجا من حوله. ما صار يُسمى بـ«فكر ما بعد الحداثة» يدين بالشيء الكثير لما فعله دوشامب في مجال الفن. كل الفنون المعاصرة (الفن الجاهز وفن الحدث والفيديو آرت وفن التركيب والتجهيز والأداء الجسدي وفن المفاهيم) خرجت من عباءة دوشامب. كان دوشامب مثلما هو حال بيكاسو حين هدم الشكل البشري يتصرف بثقة كما لو أنه يرى اختراعاته وقد صارت نموذجا للفن بعد مائة سنة من وقوعها. لقد استفز الاثنان العين الخبيرة. فإذا كان بيكاسو قد راهن على الأبعاد غير المرئية من الجسد البشري فصارت رسومه هي النقيض تماما لما تتمكن من القبض عليه عدسة التصوير الفوتوغرافي فإن دوشامب استدعى قوة الفكر في مواجهة قوة الجمال. هدم بيكاسو قوانين الجمال التي كانت سائدة من أجل أن يخترع قوانين جديدة لجمال مختلف، أما دوشامب فإنه استبعد الجمال نهائيا وأخضع الفن للفكر.
المتاحف وقد دخلت إلى السباقربما كان القرن العشرون هو أسوأ عصور الفن في التاريخ. ذلك ما يقوله نقاد فن كثيرون. هناك مَن صمت خائفا من جبروت المال. فرسام مثل بيكاسو تُباع أعماله المتاحة في المزادات بمئات الملايين من الدولارات، أما دوشامب فإن مؤسسات فنية ومتاحف وجامعات قد تبنت نهجه في الفن وهناك مئات الكتب التي تحتوي على نظريات سعى واضعوها إلى وضع الفن في خدمة المتغيرات الاجتماعية والسياسية بما يلبي الحاجة الشعبية إلى ظهور فن يقع تحت السيطرة. ولست من المتحمسين لفكرة أن دوشامب كان يخطط للوصول إلى ذلك المأزق. في ظل ذلك الوضع صنعت المؤسسات الفنية نقادها الذين يروجون للفن الذي تبنته. وذلك ما يبدو جليا في نشاط مؤسسة «ساجي أند ساجي» بلندن التي صارت ومنذ بدء الألفية الثالثة تطلق فنانين لا يمتلكون الحدود الدنيا من الموهبة مثل تريسي أمين وداميان هيرست لتصنع منهم نجوما على مستوى ثقافي واجتماعي. والمشكلة تكمن في أن مؤسسات في عدد من الدول حديثة العلاقة بالفن صدقت تلك الأكاذيب وصارت تشتري أعمال أولئك الفنانين بملايين الدولارات كما حدث في قطر التي اشترت من داميان هيرست منحوتة لتضعها في بوابة مستشفى حمد ومن ثم اضطرت لإزالتها بعد أيام. وفي الجانب الأكثر خطورة تعزف جامعات فنية عالمية عن تدريس الحرفة الفنية وهي تضخ كل سنة أجيالا من الشباب يشكل الالتحاق بنجوم الفنون المعاصرة همها الأساس بعد أن غادرت المنطقة التي تؤهلها لإنتاج أعمال فنية ذات سمات جمالية واضحة. لقد رُبيت هذه الأجيال على فكرة عدم الاكتراث بالجمال الذي لم يعد هدفا.
الفن في سياق الهدم
كما لو أن الخطأ الذي أشار إليه بيكاسو قد التهم الجزء الأكبر من المشهد الفني العالمي صار علينا أن نبحث عن الفن الحقيقي بصعوبة وسط ركام من الأشياء التي لا قيمة لها والتي تحظى باهتمام الصحافة ومقتني الأعمال الفنية ومروجي الشائعات. في الوقت الذي انسحبت فيه الأعمال الفنية الجميلة المكرسة تاريخيا إلى صالات المزادات لتنضم إلى العاديات أو «الانتيك». خلال العشرين سنة الماضية تدهورت أحوال الفن التشكيلي وتراجع أمام تقدم الفنون البصرية، لكن ذلك لم يكن سوى نتيجة لما جرى في القرن العشرين. فإذا كان بيكاسو قد اعتبر دوشامب مخربا وهداما فإن هناك مَن يساوي بين الاثنين في الهدم والتخريب وإشاعة الفوضى وهناك مَن يعتقد أن بيكاسو الذي اعتبر مخترعا لأساليب جديدة في الرسم قد ألهم الكثير من الرسامين الجرأة على العبث بقوانين الحرفة وصولا إلى انقطاع الصلة بها. وهنا تبرز أسماء لفنانين نالوا شهرة استثنائية في القرن العشرين مثل الأمريكي جاكسون بولوك والفرنسي ايف كلاين والإيطاليين بيير ما نزوني ولوسيو فونتانا.
عدوى انتشرت مثل لوثة
بالرغم من أن الفنانين الأربعة دخلوا إلى تاريخ الفن في القرن العشرين من أوسع أبوابه غير أن اللافت أن الأعمال الفنية التي نفذوها قبل أن ينالوا الشهرة كانت ضعيفة على مستوى الحرفة وما كانوا من خلالها قادرين على أن يتبوأوا المكانة التي حصلوا عليها. كان بولوك (1912 ــ 1956) يقلد بيكاسو قبل أن يخترع أسلوبه في الرسم الحركي وهو الأسلوب الذي أصابت عدواه مئات الرسامين حول العالم مثل لوثة. أما كلاين (1928 ــ 1962) فقد اشتهر بأزرقه الحبري الذي كان يغطي به سطوح لوحاته إضافة إلى حفلاته التي كان يغطي فيها نساءه العاريات بذلك اللون، ومن ثم يقوم بسحلهن على قماشة اللوحة وسط أجواء موسيقية. تأثر مانزوني (1933 ــ 1963) بـ«كلاين» واشتهر بلوحاته البيضاء التي كرس من خلالها السطح باعتباره بديلا للمناظر المستعارة من الطبيعة إضافة إلى أنه عبأ فضلاته في علب صغيرة اعتبرت تمهيدا لفن المفاهيم. وأخيرا فإن شهرة لوسيو فونتانا (1899 ــ 1968) تعود إلى قيامه بإحداث شقوق على سطح لوحة، لا شيء فيها. كانت تلك الشقوق بمثابة التوقيع الذي جعل من فونتانا رساما مشهورا. يمكنني أن أضيف إلى تلك السلسلة العشرات من الفنانين الذين اكتسبوا شهرة لا لشيء إلا لأنهم كسروا القواعد الفنية واخترعوا طرقا جديدة في الرسم. ربما يجب ذكر الشاعر البجيكي الفرنسي هنري ميشو (1889 ــ 1984) الذي دخل تاريخ الفن باعتباره رائد الأسلوب التبقيعي في الفن. لم يكن ميشو رساما قبل أن تخطر له فكرة إلقاء الحبر الصيني على الورق وانتظار ما تسفر عنه تلك العملية من بقع وخطوط.
اللعب في منظوره السياسي والاجتماعييوما ما سيُقال إن الحداثة وما بعدها قد عبثتا بالفن ومهدتا لظهور أجيال فنية لا تعبأ بتاريخه. لقد امتزج الفن باللعب منذ أن ظهرت المدرسة الدادائية (1912) التي دعت إلى إحراق المتاحف والانتهاء من مسألة الجمال. وإذا كانت تلك المدرسة قد انتهت سريعا بظهور السريالية التي كان سلفادور دالي (1904 ــ 1989) الذي حافظ على المهارات الأكاديمية أهم رموزها في الرسم فإن المبادئ الدادائية لم تفقد حيويتها في ظل التنافس المحموم بين بيكاسو ودوشامب على قيادة الفن في القرن العشرين. من وجهة نظري لم يكن هناك فنان ينافسهما في ذلك السباق بالرغم من أنهما أحيطا بالكبار. كان تأثيرهما هو الأكبر دائما. المتأثرون ببيكاسو لم يكن يجرؤون على تقليده، ذلك لأن تقليده هو بمثابة فضيحة لا يمكن إخفاؤها. ما تعلموه منه كان هو الأسوأ. تعلموا الجرأة من غير أن يدركوا أن بيكاسو كان طفلا عبقريا. أما على الجانب الآخر فقد كان المتأثرون بفن دوشامب يظهرون ويختفون عبر سني القرن العشرين وكان أبرزهم الألماني يوزيف بويز (1921 ــ 1986) وهو الوارث الحقيقي الذي عرف كيف يطور محاولات دوشامب ليصل بها إلى مستوى اللعب الذي صار فنا سياسيا واجتماعيا.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی القرن العشرین تاریخ الفن فی الرسم فی الفن الفن فی لم یکن غیر أن ما بعد
إقرأ أيضاً:
سرقوا ربع مليار دولار من العملات المشفّرة.. تفاصيل مثيرة عن “سرقة القرن”
#سواليف
في مساء يوم 25 أغسطس/آب 2024، وبين #أجواء_صيفية دافئة في مدينة دانبري بولاية كونيتيكت الأميركية، كان الزوجان سوشيل وراديكا شيتال يقودان سيارتهما اللامبورغيني أوروس الفاخرة في أحد الأحياء الراقية، حيث كانا يبحثان عن منزل جديد. لم يكن في حسبانهما أن هذه الجولة الهادئة ستتحول إلى كابوس حقيقي، حيث تعرضا لمحاولة اختطاف مسلحة وغامضة، لم تكن سوى جزء من قصة أكبر وأغرب تتعلق بسرقة ضخمة للعملات المشفرة، ووصفتها صحيفة “نيويورك تايمز” بـ” #سرقة القرن “.
فجأة، اصطدمت بهما سيارة هوندا سيفيك من الخلف، ثم حاصرت شاحنة بيضاء الطريق عليهما، نزل منها 6 رجال ملثمين، يرتدون ملابس داكنة، واندفعوا نحو السيارة الفارهة. قاموا بسحب الزوجين بالقوة، واعتدوا عليهما، وقيدوهما بشريط لاصق، مهددين سوشيل بمضرب بيسبول. توسلت راديكا إليهم، موضحة أنها تعاني من الربو، لكن المعتدين لم يبدوا أي رحمة، وأجبروهما على دخول الشاحنة البيضاء.
هذا المشهد العنيف لم يمر دون أن يلاحظه الجيران، فقد كان هناك من شاهد الحادث، ومن بينهم عميل فدرالي متقاعد لم يتردد في تتبع الشاحنة بسيارته، وأبلغ الشرطة بالحادث. بدأت مطاردة مثيرة بين الشرطة والشاحنة، انتهت بانحراف الشاحنة إلى الغابة، حيث فرّ 4 من المهاجمين.
مقالات ذات صلةلكن رجال الشرطة لم يستسلموا، فطاردوا الفارين، وتمكنوا من القبض على أحدهم تحت جسر قريب، بينما عُثر على الثلاثة الآخرين في غابة مجاورة بعد ساعات من البحث. أما الزوجان، فقد وجدتهما الشرطة في مؤخرة الشاحنة، مقيّدين ومذعورين، في مشهد درامي لم تعتده المدينة الهادئة.
كانت الشرطة في حيرة من أمرها، إذ لم يكن هناك أي دافع واضح لهذه الجريمة العنيفة في مدينة هادئة مثل دانبري. كما أن المعتدين -الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و26 عاما- جاؤوا من ميامي بولاية فلوريدا، مما أثار تساؤلات عن سبب اختيارهم لهذه المدينة بعينها. ولماذا تركوا سيارة لامبورغيني فارهة في الشارع دون أن يسرقوها؟ لم يكن هناك أي دليل على وجود صلة سابقة بين الجناة والضحايا، مما جعل القضية أكثر غموضا.
قضية أكبر
مرت أيام قليلة قبل أن تتلقى الشرطة معلومة من مكتب التحقيقات الفدرالي (FBI) تشير إلى وجود صلة بين محاولة الاختطاف هذه وسرقة ضخمة للعملات المشفرة وقعت قبل أسبوع. بدأت خيوط القضية تتكشف، لتكشف عن واحدة من أكبر عمليات الاحتيال الإلكتروني في تاريخ العملات الرقمية.
كان يُشتبه بأن مجموعة من الشباب -بعضهم تعرّف إلى الآخرين من خلال لعبة “ماينكرافت” (Minecraft)- قد سرقوا ما يقارب ربع مليار دولار من ضحية لم تكن تعلم ما يحدث، في سلسلة من الأحداث المذهلة التي شارك فيها مجرمون إلكترونيون مراهقون، ومحققون رقميون مستقلون يتتبعون أنشطة الهاكرز، وعدة وكالات إنفاذ قانون، وبدا الآن أن القضية بلغت ذروتها في اختطاف عائلة شيتال.
وقد بدأت سلسلة الأحداث قبل ذلك بأسابيع قليلة، عندما بدأ أحد سكان واشنطن -وهو مستثمر مبكر في العملات المشفرة- يتلقى إشعارات متكررة بمحاولات دخول مشبوهة إلى حسابه على “غوغل”.
لم يعر الأمر اهتماما كبيرا في البداية، لكنه فوجئ باتصال هاتفي من شخص ادعى أنه من فريق الأمن السيبراني في غوغل، أخبره بأن حساباته تعرضت لمحاولة اختراق. لم يقتصر الأمر على ذلك، بل تلقى اتصالا آخر من شخص ادعى أنه من منصة “جيميناي” (Gemini) لتداول العملات الرقمية، أبلغه بأن حسابه على المنصة -والذي يحتوي على ما يقارب 4.5 ملايين دولار من العملات الرقمية- قد تعرّض للاختراق، وأن عليه إعادة تعيين خاصية التحقق الثنائي ونقل البتكوين إلى محفظة جديدة لحمايته.
أقنعه المحتالون بتحميل برنامج لتعزيز الأمان على جهازه، كان في الحقيقة أداة للتحكم من بعد، مما منحهم وصولا كاملا إلى جهازه وحساباته الرقمية. في دقائق معدودة، اختفت أكثر من 4100 وحدة بتكوين من محفظته الرقمية، كانت قيمتها في ذلك اليوم تتجاوز 243 مليون دولار. أدرك الضحية متأخرا أنه وقع ضحية لعملية احتيال معقدة.
رغم أن مالكي العملات المشفرة مجهولو الهوية غالبا، فإن جميع المعاملات مسجلة على ما يُسمى بـ”سلسلة الكتل” (Blockchain)، وهو سجل رقمي غير قابل للتغيير يُستخدم لتخزين البيانات بطريقة آمنة وشفافة، ويُعد أساسا لمعظم العملات المشفرة مثل البتكوين والإيثيريوم، مما أتاح لمحققين رقميين مستقلين تتبع حركة الأموال فور وقوع السرقة.
من أبرز هؤلاء المحققين شخصية تُدعى “ZachXBT”، وسنكتفي بالإشارة إليها باسم “زد”، وهو محقق مستقل يتابعه مئات الآلاف على منصات التواصل، ويشتهر بكشفه عن قضايا الاحتيال الرقمي.
كان “زد” في المطار عندما تلقى تنبيهات عن معاملات ضخمة ومشبوهة، فبدأ على الفور تتبع حركة البتكوين المسروق عبر محافظ ومنصات مختلفة. لاحظ أن الأموال تُغسل عبر أكثر من 15 منصة وخدمة، في محاولات لإخفاء مصدرها.
وبدأ “زد” يتتبع المعاملات حتى وصل إلى محفظة تحتوي على ما يقرب من 240 مليون دولار من العملات المشفرة، تعود بعض وحدات البتكوين فيها إلى عام 2012. قال: “عند هذه النقطة، لم يكن الأمر منطقيا.. لماذا شخص احتفظ بعملاته كل هذه المدة يستخدم منصة مشبوهة معروفة بتدفق الأموال غير المشروعة من خلالها؟”.
تواصل مع منصات التبادل لتنبيهها وتجميد الأموال، كما نشر تحذيرا عاما على منصة “إكس” (تويتر سابقا) حول عملية السرقة الجارية.
يقول “زد”: “عندما رأيت حجم المبلغ الذي تمت سرقته، أدركت أن الأمر أكبر من مجرد عملية احتيال عادية. كان المجرمين يحاولون نقل الأموال بسرعة عبر منصات متعددة، لكننا تمكنا من تتبع معظم التحويلات وتنبيه المنصات لتجميدها قبل أن تختفي للأبد”.
لم تمض ساعات حتى تمكّن “زد” من التواصل مع الضحية، الذي كان في حالة صدمة شديدة. استعان الضحية بكل من “زد” وشركة تحقيقات متخصصة لمساعدته في تتبع أمواله، كما أبلغ مكتب التحقيقات الفدرالي بالواقعة.
تشير الإحصائيات إلى أن سرقات العملات المشفرة أصبحت ظاهرة متسارعة، إذ تلقى مركز شكاوى الجرائم الإلكترونية أكثر من 69 ألف بلاغ في عام 2023، بخسائر تجاوزت 5.6 مليارات دولار. كما أن طبيعة العملات الرقمية، التي تجعل المعاملات غير قابلة للاسترجاع وسهلة التحويل عبر العالم، تجعلها هدفا مثاليا للمجرمين، وتحديا كبيرا أمام المحققين.
تعتمد وكالات إنفاذ القانون الأميركية بشكل متزايد على خبراء ومحققين مستقلين مثل “زد”، الذين يملكون مهارات تقنية عالية وشبكات علاقات واسعة في عالم الجريمة الرقمية. هؤلاء المحققون يندمجون في منتديات مجرمي الإنترنت عبر حسابات وهمية، ويجمعون الأدلة من داخل مجموعات الدردشة السرية.
تعاني جميع أسواق العملات المشفرة من تراجع ملحوظ في الأسعار
مركز شكاوى الجرائم الإلكترونية في الولايات المتحدة تلقى أكثر من 69 ألف بلاغ في عام 2023 بخسائر تجاوزت 5.6 مليارات دولار (شترستوك)
أول الخيط
بعد نشر “زد” عن السرقة، تواصل معه مصدر مجهول، وقدم له تسجيلات شاشة وثقت عملية السرقة، بينها مكالمة المحتالين مع الضحية ورد فعلهم بعد نجاحهم في الاستيلاء على المبلغ الضخم.
في محادثاتهم الخاصة، استخدموا أسماء مستعارة، لكنهم ارتكبوا خطأ قاتلا. أحدهم عرض عن غير قصد شاشة الكمبيوتر الخاص به، مما كشف اسمه الحقيقي في نافذة البدء أسفل الشاشة: “فير تشيتال”، شاب في الـ18 من عمره من دانبري، وهو ابن الزوجين اللذين تعرضا للاختطاف.
كان فير تشيتال طالبا هادئا ومتفوقا في دراسته، لكنه بدأ فجأة في استعراض ثروة غير مبررة أمام أصدقائه، يقود سيارات فارهة ويرتدي ملابس باهظة الثمن، ويدعي أنه جنى أمواله من تداول العملات الرقمية. لاحظ أصدقاؤه هذا التحول، خاصة بعد أن أصبح يقود سيارات رياضية، وينفق ببذخ على الرحلات والحفلات، ويستأجر يخوتا ومنازل فاخرة.
تكشف التحقيقات أن فير كان عضوا في جماعة إلكترونية تُعرف باسم “ذا كوم” (The Com)، وهي شبكة من مجموعات الدردشة الإجرامية تعود جذورها إلى أوساط الهاكرز في الثمانينيات، وتضم شبابا من دول غربية يخططون لعمليات احتيال رقمية متنوعة، من بينها سرقة العملات الرقمية، وتبديل شرائح الهاتف (SIM)، وهجمات الفدية، واقتحام أنظمة الشركات.
تقول خبيرة الأمن السيبراني أليسون نيكسون إن معظم أعضاء هذه الجماعات شباب من الغرب، وغالبا ما يبدأ دخولهم لهذا العالم عبر ألعاب الفيديو مثل “ماينكرافت” (Minecraft) و”رون سكيب” (Rune Scape). مع تطور خوادم الألعاب، نشأت أسواق سوداء لبيع عناصر داخل اللعبة وأسماء مستخدمين نادرة، مما شكل بيئة خصبة للاحتيال الإلكتروني وتبادل الخبرات بين المراهقين الطامحين للثراء السريع.
في عالم “ماينكرافت”، ظهرت خوادم تنافسية تقدم ترقيات مدفوعة وأزياء افتراضية، وبدأت سوق سوداء لبيع عناصر اللعبة وأسماء المستخدمين النادرة، التي قد تصل قيمتها إلى آلاف الدولارات. انتشرت عمليات الاحتيال بين اللاعبين، وظهرت خدمات “الوسيط الموثوق” لتسهيل التبادل، لكن هذا العالم كان أيضا بوابة لارتكاب جرائم إلكترونية أكثر تعقيدا.
مع الوقت، انتقل بعض هؤلاء الشباب من الاحتيال البسيط إلى سرقات رقمية ضخمة، مستخدمين مهاراتهم التقنية وشبكات علاقاتهم في تنفيذ عمليات معقدة مثل سرقة ربع مليار دولار من العملات المشفرة.
عالم متشابك
في حالة فير تشيتال، قادته مغامرته الرقمية إلى عالم الجريمة المنظمة، وانتهى به المطاف متورطا في واحدة من أكبر قضايا الاحتيال الرقمي في الولايات المتحدة.
بعد أن حصل “زد” على اسم فير تشيتال، لم يستغرق الأمر طويلا له ولمحققين آخرين لكشف هوية شركائه في عملية سرقة العملات.
في التسجيلات التي حصل عليها، كان اللصوص يخاطبون بعضهم بأسماء مستعارة من “ذا كوم”، وأحيانا بأسمائهم الحقيقية.
وكان أحد الأسماء المتكررة هو “مالون”، وهو مالون لام، شخصية معروفة في “ذا كوم”، وهو شاب يبلغ من العمر 20 عاما من سنغافورة، وكان يتميز بقَصة شعر تتدلى على عينيه.
بعد عملية السرقة في أغسطس/آب 2024، استطاع “زد” تعقّب مالون باستخدام ما يُعرف بـ”الاستخبارات مفتوحة المصدر”، مثل مواقع التواصل الاجتماعي.
انتشرت شائعات في مجموعات “ذا كوم” بأنه ينفق ببذخ في ملاهي لوس أنجلوس، دون أن يعرف أحد مصدر أمواله، لكنه كان يُشاهد ينفق أموالا طائلة.
بحث “زد” عن أشهر الملاهي في المدينة، ثم راجع قصص إنستغرام الخاصة بروّاد الملاهي والحسابات الرسمية. وفي أحد المنشورات، ظهر مالون نظارات شمسية مرصعة بالألماس، واقفا على الطاولة ويرمي أوراقا نقدية من فئة 100 دولار على الحاضرين. وحين كانت النقود تتساقط، دخل الطاقم يحمل زجاجات شمبانيا بقيمة 1500 دولار مزينة بشرارات نارية، ويرفعون لافتات كتب عليها: مالون. أنفق في ليلة واحدة فقط نحو 570 ألف دولار.
وحسب مستندات المحكمة، فقد استخدم المتواطئون المزعومون أساليب غسل أموال متطورة لإخفاء الأموال وتضليل هويتهم، مستخدمين منصات تبادل العملات المشفّرة التي لا تطلب معلومات شخصية من العملاء، واتصالات “في بي إن” (VPN) لإخفاء مواقعهم الجغرافية.
لكن أحدهم ارتكب خطأ فادحا عندما أنشأ حسابا على إحدى هذه المنصات دون استخدام “في بي إن”، مما أدى إلى تتبع عنوان شبكة الإنترنت المرتبط بمنزله، مما قاد السلطات لإلقاء القبض عليه.
في النهاية، أدى تتبع الأدلة الرقمية، وتعاون المحققين الرقميين مع الشرطة، إلى كشف الجناة بسرعة وإلقاء القبض عليهم تباعا، رغم تعقيد القضية وتشعبها بين العالمين الافتراضي والحقيقي.
بحلول ذلك الوقت، كانت السلطات قد حددت الدافع، اعتقدت الشرطة أن المجموعة استهدفت عائلة تشيتال لابتزاز المال الذي يملكه ابنهم.
قصة سرقة ربع مليار من العملات المشفرة لم تكن مجرد جريمة رقمية، بل كانت مرآة لعصر جديد من الجرائم العابرة للحدود، حيث قد يبدأ الخيط من لعبة فيديو وينتهي في قاعات المحاكم الفدرالية.
تعكس هذه القضية أيضا جانبا مهما من تطور الجريمة في العصر الرقمي، إذ لم يعد المجرمون بحاجة إلى السلاح التقليدي أو العصابات المنظمة، بل يكفيهم جهاز كمبيوتر واتصال بالإنترنت وبعض المهارات التقنية ليحققوا أرباحا خيالية في وقت قصير. في المقابل، يتطلب التصدي لهذه الجرائم تطوير أدوات التحقيق الرقمي، والتعاون بين القطاعين العام والخاص، وتوعية المستخدمين بمخاطر الاحتيال الإلكتروني.