مشكلة الشرّ... جرح الفلسفة المفتوح
تاريخ النشر: 18th, October 2025 GMT
في عالمٍ تتناسل فيه ألسنة النار من رحم الحروب، وتعلو أصوات المدافع على أنين الإنسان، يبدو الشرّ وكأنه اللغة الوحيدة التي يفهمها البشر. من الشرق المصلوب بين فلسطين التي تنزف تحت وطأة الاحتلال، لولا مساعي مصر في قمة شرم الشيخ لإحياء ما تبقّى من أنفاس السلام، إلى الغرب الممزق بين روسيا وأوكرانيا، تتشابه الوجوه وتختلف الرايات، ويبقى السؤال واحدًا: كيف تحوّل العقل، وهو أرقى ما منح الله الإنسان، إلى أداةٍ للفناء بدل أن يكون وسيلةً للنجاة؟
في خضمّ هذا الجنون البشري، ينهض سؤالٌ قديم قِدم الخليقة: ما أصل الشرّ؟ أهو طارئ على الإنسان أم كامِن فيه منذ النشأة الأولى؟ في القرآن الكريم، لا يُقدَّم الشرّ كقوةٍ عمياء تعبث بالوجود، بل كوجهٍ آخر للابتلاء الإلهي، يُمحِّص به اللهُ القلوب ويكشف به جوهر الإنسان حين يُجرَّد من النعم والأمان.
منذ أن رفع الإنسان رأسه نحو السماء، وهو يطرح السؤال ذاته: أين الله من الشرّ؟ ليس كاتهامٍ بل كنداءٍ خفيّ من قلبٍ مثقلٍ بالألم. فلو كان الله عادلًا، فلماذا تُترك المآسي لتتكرر بهذا السخاء؟ وإن كان الإنسان حرًّا، فلماذا دُفعت حريته إلى هذا الحدّ من الكلفة؟ يرى بعض اللاهوتيين أن الشرّ هو الثمن الذي ندفعه لقاء حرية الإرادة؛ فالله أراد كائناتٍ قادرة على الحبّ والاختيار، لا آلاتٍ خاضعةً بلا وعي. لكنّ هذا التبرير ينهار أمام صورة طفلٍ يُسحق تحت الأنقاض أو أمٍّ تفقد أبناءها في لحظةٍ واحدة. ما ذنب الأبرياء في مأساةٍ لم يختاروها؟
أما الفلاسفة الذين يرون في الألم وسيلةً للتهذيب، فيقولون إن المعاناة تصنع الضمير وتوقظ الإنسانية. لكنّ السؤال يبقى: هل يحتاج الإله إلى دموع الأبرياء ليُعلّم البشر الرحمة؟ أليس من الممكن أن يتعلّم العالم من النور لا من النار؟ كذلك من يزعم أن الشرّ جزءٌ من نظام الطبيعة الذي أوجده الله، ينسى أن الإله القادر على الخلق، قادرٌ أيضًا على جعل قوانينه أكثر رحمةً وعدلًا.
وفي المقابل، يقف من يُسمّون أنفسهم "اللاهوتيين المتواضعين"، قائلين إن عقول البشر أضيق من أن تدرك حكمة الله في السماح بالشرّ. لكنّ هذا القول، وإن بدت فيه خشية، يفتح بابًا خطيرًا؛ إذ يمكن أن يُستخدم لتبرير كل ظلمٍ وكل مأساة. فأيّ إيمانٍ هذا الذي يطلب من الإنسان أن يصمت أمام الألم؟
الحقيقة أن المشكلة ليست في وجود الشرّ، بل في المعنى الذي نمنحه له. فحين نُبرّر الألم بأنه طريقٌ إلى الخير، نحيل المأساة إلى فكرةٍ باردة وننزع عن الضمير دفء إنسانيته. ربما يكون الجواب فينا نحن، لا في السماء. فالإله لا يصمت عن الشرّ، بل يترك لنا مسؤوليّة مقاومته. إن وجود الشرّ لا ينفي وجود الله، بل يختبر حضورنا نحن في وجه القسوة، وقدرتنا على أن نكون رحماء في عالمٍ يتعطّش إلى الرحمة.
فالإنسان، في النهاية، هو الكائن الذي يسأل عن العدل وهو يعجز عن تحقيقه، من يبكي وهو يخلق الفنّ، ويحارب وهو يحلم بالسلام. وربما في هذا التناقض تكمن عظمته: أنه، رغم كل الشرّ الذي يسكن العالم، ما زال يؤمن بالنور.
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: محمد جادالله أنين الإنسان
إقرأ أيضاً:
الإفتاء: الإنسان مأمور بتوقير وإجلال من هو أكبر منه والأولى الوالدين
الوالدين.. قالت دار الإفتاء المصرية إن الإنسان مأمورًا بتوقير وإجلال من هو أكبر منه، موضحة أن أولى الناس بهذا الإجلال والتوقير الوالدين، فقد جمعا بين الكبَر والتفضل على الابن، بالإضافة إلى أن الشريعة قد أمرت بإكرامهما وإجلالهما، ولا خلاف أنَّ عقوق الوالدين أو أحدهما من كبائر الذنوب.
توقير واحترام الوالدين:وورد عن أنسٍ رضي الله عنه، قال: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم عن الكبائر، قال: «الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ» متفقٌ عليه، كما أن طاعتهما وبرهما والإحسان إليهما وحسن معاملتهما أمورٌ واجبة مؤكدة جاءت مقرونة بتوحيد الله عزَّ وجلَّ؛ قال تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾ [الإسراء: 23].
هجر الوالدين:
وقالت الإفتاء إن هجر الوالدين في كبرهما وتركهما دون رعاية حتى يصابا بأذى عقوق وكبيرة من كبائر المحرمات.
حكم هجر الوالدين في كبرهما:
كما أن الشريعة الإسلامية قد أولت الوالدين في مرحلة الكِبَر عناية خاصة، لما يكونان فيه من ضعف وحاجة إلى الرعاية المادية والمعنوية؛ فبعد أن أمر الحق سبحانه ببر الوالدين في جميع الأحوال، خص كبرهما بوصية مستقلة، فقال سبحانه: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء: 23]؛ آمرًا بالإحسان، ولين القول، والصبر على ما قد يظهر منهما من ضعف أو عجز، وجعل ذلك من أعظم القُرُبات.
بر الوالدين
وجعل الله سبحانه أجر بر الوالدين والإحسان إليهما أو أحدهما -سيما في الكبر- كأجر الحج والعمرة والجهاد في سبيله، فقد أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: إِنِّي أَشْتَهِي الْجِهَادَ، وَإِنِّي لَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: «هَلْ بَقِيَ أَحَدٌ مِنْ وَالِدَيْكَ؟» قَالَ: أُمِّي، قَالَ: «فَاتَّقِ اللهَ فِيهَا، فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ فَأَنْتَ حَاجٌّ وَمُعْتَمِرٌ، وَمُجَاهِدٌ، فَإِذَا دَعَتْكَ أُمُّكَ فَاتَّقِ اللهَ وَبِرَّهَا». [أخرجه البيهقي في شُعب الإيمان]
وجعل سيدنا رسول الله ﷺ السعي على حاجاتهما وطلب رضاهما جهاد في سبيل الله؛ فقد جاء رجل إلى النبي ﷺ يستأذنه في الجهاد فقال ﷺ: «أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟»، قال: نعم، قال: «فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ». [أخرجه مسلم]
حكم هجر الوالدين في كبرهما بالشرع
قال سيدنا رسول الله ﷺ: « أَلا أُخْبِرُكُمْ بأَكْبَرِ الكَبائِرِ؟» قالوا: بَلَى يا رَسولَ اللَّهِ، قالَ: «الإشْراكُ باللَّهِ، وعُقُوقُ الوالِدَيْنِ». [متفق عليه]
كما أنه لا يرفع إثم العقوق اكتفاء الأولاد بالإنفاق على الوالدين دون سؤال ولا عناية ولا مؤانسة، حتى إنه لتمر الأعوام تلو الأعوام، دون أن يرى الوالدان أولادهم ولا أحفادهم، فللوالدين حق أسري نفسي إلى جوار حقهم المادي؛ ردًّا لإحسانهم بالإحسان، وبرًا بهم بعد أن بذلوا زهرة شبابهم وأموالهم وأقواتهم وأوقاتهم، وكما أن إدخال السرور على الوالدين إحسان مبرور، كذلك إحزانهما نفسيًّا من العقوق؛ يقول ابن عمر رضي الله عنهما: «بكاء الوالدين من العقوق». [الأدب المفرد]
والبر بهما لا يقف عند حدود النفقة فحسب، بل يشمل حسن السؤال عنهما، ومجالستهما، وتطييب خاطرهما، ومؤانستهما في وحدتهما، وإدخال السرور عليهما؛ فإن في ذلك قربة عظيمة لا يعدلها كثير من أعمال البر والطاعات.