الشرق الأوسط الجديد.. واقع يقاوم الخيال
تاريخ النشر: 13th, November 2025 GMT
يتغير النظام الإقليمي في الشرق الأوسط بوتيرة سريعة، لكن ليس بالاتجاه الذي يتصوره كثير من المسؤولين في إسرائيل والولايات المتحدة. فقد أسفر ضغط الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لإنهاء الحرب في غزة عن إطلاق سراح جميع الرهائن الإسرائيليين، وإتاحة هدنة من القتل والدمار اللذين أنهكا المنطقة. أطلق هذا التطور توقعات بتحولات أوسع على الصعيد الإقليمي، رغم أن ما سيعقب وقف إطلاق النار الأولي لا يزال غامضًا إلى حد كبير.
يتحدث ترامب عن سلام جديد في الشرق الأوسط. وإذا نجحت مبادرته في منع تهجير الفلسطينيين من غزة ومنع ضم الضفة الغربية، قد تعود حكومات عربية عدة إلى بحث مسار تطبيع العلاقات مع إسرائيل. ورأى الإسرائيليون أن الضغوط التي مارسها القادة العرب على حركة حماس للقبول بصفقة ترامب تشكل مؤشرًا إلى أن التطبيع يمكن أن يعود مجددًا إلى الطاولة. لكن حتى لو صمد اتفاق غزة، فلن تدوم لحظة التقارب الراهنة بين الولايات المتحدة وإسرائيل. فإصرار إسرائيل على اعتقادها الخاطئ بأنها حققت تفوقًا استراتيجيًا دائمًا على خصومها سيدفعها، على الأرجح، إلى خطوات استفزازية متزايدة تتعارض مباشرة مع أولويات البيت الأبيض. أما دول الخليج، التي تعول إسرائيل على ضمها إلى محور التطبيع، فترى أن تل أبيب لا تملك الإرادة أو القدرة على حماية مصالحها الأساسية. باتت هذه الدول أقل اهتمامًا بمواجهة إيران، وأقل اقتناعًا بأن الطريق إلى واشنطن يمر عبر تل أبيب، ويبدو أن إسرائيل لا تستوعب حقيقة التقارب القوي بين ترامب والقيادات الخليجية.
ساد التفاؤل تفكير الحكومة الإسرائيلية ومؤسسة الأمن القومي، اللتين استغلّتا ما اعتبرتاه فرصة تاريخية لاستخدام القوة. فبعد هجمات 7 أكتوبر 2023، أطلقت إسرائيل سلسلة متواصلة من الضربات الجوية والعمليات الإقليمية استهدفت ليس فقط حركة حماس، بل المحور المدعوم من إيران بأكمله. وتكررت تجاوزاتها للخطوط الحمراء التي حكمت طويلاً «حرب الظل» في المنطقة: فقتل الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله بقنبلة ضخمة في وسط بيروت، والقيادي السياسي في حماس إسماعيل هنية داخل منزل آمن إيراني، وعدد من كبار القادة العسكريين الإيرانيين في سوريا، ورئيس وزراء الحوثيين في اليمن. وجاء قصف المواقع النووية والعسكرية داخل إيران ليشكل تتويجًا لرغبة إسرائيل القديمة في ضرب قلب خصمها الأكبر.
لكن الهجوم في الخليج شكل نقطة تحول غير متوقعة. فقد مثلت محاولة إسرائيل اغتيال قادة حماس المجتمعين في مفاوضات تجري بوساطة أمريكية في الدوحة في سبتمبر تصعيدًا دراميًا في مساعيها لإعادة تشكيل الشرق الأوسط بالقوة الجوية. مثل هذا التصعيد لا يقدم عليه إلا قادة مقتنعون تمامًا بأنهم بمنأى عن تبعات أفعالهم. غير أن ترامب اعتبر أن إسرائيل تجاوزت الحدود هذه المرة. وصورة ترامب العابس وهو يشاهد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يقرأ اعتذارًا مكتوبًا على مضض في مكالمة مع أمير قطر، أصبحت رمزًا للحظة جيوسياسية متغيرة قادت إلى وقف إطلاق النار الأولي في غزة.
ليس واضحًا ما إذا كان غضب ترامب من إسرائيل سيقود إلى تغييرات جوهرية تتجاوز وقف إطلاق النار. فقد استأنف الجيش الإسرائيلي قصف أجزاء من القطاع، مبررًا ذلك بهجمات مزعومة لحماس في جنوب غزة.
كشف الصراع الطويل عن جوانب خلل بنيوي في منظومة القوة الإسرائيلية: فالدفاعات الصاروخية ليست ضمانًا للأمن الكامل، والاقتصاد لا يستطيع تحمل حرب مفتوحة إلى ما لا نهاية، والمشهد السياسي الداخلي يرزح تحت توتر متزايد بعد سنوات من العمليات في غزة، كما أن الجيش لا يزال يعتمد على الدعم الأمريكي. أما الدمار الواسع في غزة فقد قوض مكانة إسرائيل الدولية، وتركها أكثر عزلة من أي وقت مضى.
لا يمكن لإسرائيل أن تفرض نظامًا إقليميًا مستقرًا عبر القوة العسكرية وحدها. فالقيادة الإقليمية لا تقوم فقط على التفوق العسكري، بل تتطلب قدرًا من القبول والتعاون من القوى الأخرى في المنطقة. واليوم لا توجد دولة في الشرق الأوسط تريد لإسرائيل أن تتصدر قيادة الإقليم، فيما تتزايد المخاوف من اندفاعها العسكري غير المنضبط. صحيح أن البعض في واشنطن يرحب باحتمال إلحاق إسرائيل أذى كبيرًا بخصوم الولايات المتحدة، إلا أن هذا الرهان محاط بمخاطر. فمصالح إسرائيل ليست مطابقة لمصالح واشنطن، وإسرائيل تصدر التزامات سياسية وعسكرية قد لا تكون الولايات المتحدة راغبة أو قادرة على تحملها.
ذهبت محاولات إسرائيل لإعادة تشكيل الشرق الأوسط إلى حدود غير مسبوقة، لكنها تتحرك عكس اتجاه التاريخ. فالنظام الإقليمي في المنطقة حافظ، على مدى العقود الخمسة والثلاثين الماضية، على قدر لافت من الاستقرار البنيوي. فرغم موجات الاضطراب والعنف المتكرر، لم يشهد هذا النظام سوى لحظات محدودة من التغيير المحتمل، ولم يدم أي منها طويلاً. يقوم هذا النظام على هيمنة أمريكية متوترة، غير محبذة دوليًا، وعلى انقسام عميق للمنطقة إلى كتلتين متنافستين، وإن كان هذا الانقسام لا يصرح به دائمًا.
لكن بعد عام 1991، باتت واشنطن محور كل المسارات. وأصبح السؤال الحاسم أمام الدول هو ما إذا كانت داخل المنظومة التي تقودها الولايات المتحدة أم خارجها. فالدول داخل المنظومة - إسرائيل ومعظم الدول العربية - تمتعت بضمانات أمنية، ونفاذ إلى المؤسسات الدولية والتمويل، وحماية دبلوماسية. أما الدول خارجها - إيران والعراق وليبيا وسوريا - فواجهت عقوبات خانقة، وضربات عسكرية متكررة، وتدخلات سرية، وحملات تشويه مستمرة.
لكن التفوق الأمريكي، الذي تضرر بفعل غزو العراق عام 2003 والأزمة المالية عام 2008، لم يعد بالصلابة ذاتها. ورغم ذلك، لاتزال التعددية القطبية بعيدة عن التحقق. فروسيا لم يكن لها سوى حليف واحد في المنطقة، وهو نظام الرئيس بشار الأسد في سوريا، وبعد سقوط النظام عام 2024 فقدت موسكو آخر موطئ قدم لها. أما الصين، فصعودها الاقتصادي واتفاقياتها الاستراتيجية الواسعة في المنطقة لم يشكلا تهديدًا حقيقيًا للنظام الإقليمي القائم. فقد بقيت بعيدة عن مسرح غزة، واكتفت بإدانة الضربات الأمريكية والإسرائيلية داخل إيران. وتحتفظ بقاعدة بحرية وحيدة صغيرة في جيبوتي لأغراض مكافحة القرصنة، ولم تحرك ساكنًا عندما عطل الحوثيون الملاحة في البحر الأحمر ردًا على الحرب في غزة. وفي الوقت الراهن، تبدو بكين مكتفية بالاستفادة من مظلة الأمن الأمريكية في الخليج، على الرغم من اعتمادها الكبير على موارد الطاقة الشرق أوسطية.
ورغم أن دول المنطقة توسّع شراكاتها العسكرية والاقتصادية وتحاول انتزاع شروط أفضل من واشنطن، فإن بديلًا فعليًا للهيمنة الأمريكية لم يتبلور حتى الآن.
ومع الاضطرابات العميقة التي شهدتها المنطقة في مرحلة ما بعد انتفاضات 2011، تحول الانقسام الإقليمي من ثنائية قطبية واضحة إلى شكل أقرب إلى التعددية المحدودة. أدت التحديات التي فرضتها التحولات السياسية الكبرى إلى بروز منافسة حادة داخل معسكر الدول المحسوبة على الولايات المتحدة، فانقسم هذا المعسكر فعليًا إلى محورين، فيما حاولت واشنطن جاهدة الحفاظ على تماسك أهدافه العامة..
وعقب حرب غزة، استعادت الأنظمة العربية اهتمامًا واضحاً بالقضية الفلسطينية. فالقادة العرب، يدركون تمامًا حجم الغضب إزاء عمليات التهجير الواسعة وتدمير غزة. ويعكس تجديد السعودية تمسكها بالمبادرة العربية - التي تربط السلام مع إسرائيل بإقامة دولة فلسطينية - قوة هذا التحول. وقد ظهر تأثيره في شروط وقف إطلاق النار في غزة، التي استبعدت تهجير الفلسطينيين ومنعَت ضم المنطقة، وهي شروط تقترب أكثر من تفضيلات دول الخليج لا من تفضيلات إسرائيل.
تبالغ إسرائيل في تقدير قدراتها العسكرية. فبرغم الضربات المفاجئة والجريئة التي تنفذها وتفوقها الجوي الواضح، لا تمتلك جيشًا قادرًا على احتلال أراضٍ تتجاوز المناطق الفلسطينية والسورية التي سيطرت عليها قبل أكثر من خمسة عقود. وقد أثبتت قدرتها على تحقيق أهداف تكتيكية عبر الاغتيالات والقصف عن بُعد، لكنها لم تثبت قدرتها على تحقيق أهداف استراتيجية: لا تزال حماس القوة المهيمنة في غزة، ويرفض حزب الله التخلي عن سلاحه رغم خسائره الكبيرة، كما فشلت حملة الإثني عشر يومًا ضد إيران في إنهاء برنامجها النووي أو دفع الإيرانيين إلى الثورة وتقويض النظام.
فالهيمنة العسكرية الإسرائيلية حقيقية، لكنها مشروطة. لم تتمكن إسرائيل من مواصلة حربها على غزة لولا تدفق الذخائر من الولايات المتحدة. تراجعت قدرات القبة الحديدية بشدة في مواجهة الصواريخ الإيرانية بسبب نقص الصواريخ الاعتراضية قبل أن تفرض واشنطن وقف إطلاق النار في تلك الحرب القصيرة. وتكشف طلبات الطوارئ الإسرائيلية المتكررة لواشنطن خلال العامين الماضيين حجم اعتمادها البنيوي على الولايات المتحدة، وهو ما لم يغب عن القوى الإقليمية التي تدرك الآن مدى هشاشة القدرات الإسرائيلية في حرب طويلة الأمد.
يتقن نتنياهو لعبة السياسة الأمريكية، ولديه أسباب تجعله يفترض أن النفوذ الإسرائيلي في واشنطن سيستمر رغم التوترات الراهنة. لكن المؤشرات الحالية ينبغي أن تدق ناقوس الخطر: فالتماهي الحزبي بين نتنياهو والجمهوريين، وسلوك إسرائيل في غزة، أحدثا صدعًا كبيرًا في ما كان سابقًا توافقًا واسعًا بين الحزبين للدفاع عن إسرائيل.
باتت غالبية الديمقراطيين تتعاطف مع الفلسطينيين أكثر من الإسرائيليين، وتصاعدت تساؤلات الديمقراطيين في الكونجرس حول استمرار تدفق المساعدات العسكرية. أما الجمهوريون، فرغم استمرار دعمهم، إلا أن القوميين من تيار «أمريكا أولاً» أقل استعدادًا لاعتبار المصالح الإسرائيلية أولوية تتقدم على المصالح الأمريكية. وترامب نفسه متقدم في العمر، متقلب المزاج، وغير قابل للتنبؤ، ويملك علاقات شخصية ومالية وثيقة مع أنظمة الخليج؛ أما خلفاؤه المحتملون، مثل نائب الرئيس جيه دي فانس، فلا يحملون التزامًا تقليديًا تجاه إسرائيل. وبدون «شيك على بياض» من واشنطن، قد تتلاشى هيبة إسرائيل الإقليمية بوتيرة أسرع مما يتوقعه أي مراقب.
ورغم أن إسرائيل تنظر إلى نفسها بوصفها القوة الإقليمية الصاعدة، إلا أنها في الواقع جعلت نفسها أقل ضرورة للبيئة الإقليمية وأقل فائدة لها. فبعد الهجوم على الدوحة، من غير المرجح أن تواصل دول الخليج توجيه دفاعاتها الجوية بشكل كامل نحو إيران واليمن. ربما تقبل بعض القادة محو غزة من الوجود، لكن إسرائيل أصبحت الآن تشكل تهديدا مباشرا لأمنهم.
وإفلات إسرائيل من دفع ثمن حقيقي لحملاتها العسكرية وتدميرها لغزة عزز شعورًا داخليًا بأنها قادرة على التوسع بلا تبعات. لكن هذا الافتراض لا يقل خداعًا عن اعتقادها قبيل حرب 1973 بأن العرب لن يجرؤوا على مهاجمتها مجددًا، أو عن قناعتها قبل 7 أكتوبر 2023 بأن حماس ستظل محاصرة ومقيدة داخل غزة إلى الأبد.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الولایات المتحدة وقف إطلاق النار الشرق الأوسط فی المنطقة فی غزة
إقرأ أيضاً: