أنماط التغير الاجتماعي في مجتمعات الخليج العربي
تاريخ النشر: 9th, September 2023 GMT
لعقود كانت النقطة المرجعية لقياس حالة التغير الاجتماعي في مجتمعات الخليج العربي هي ظهور النفط، وما أفرزه من انتقال في التركيبة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لهذه المجتمعات. وظلت أدبيات التغير الاجتماعي تحاول قياس شكل وتركيب هذه المجتمعات بناء على ما قبل تلك اللحظة التاريخية وما بعدها. إلا أننا اليوم في حاجة إلى عدة نقاط مرجعية مجددة للقياس، وقد تحدثت في مقالة سابقة عبر هذه المساحة أن «الرؤى التنموية» التي تنخرط في تبنيها دول الخليج العربي قد تشكل نقطة مرجعية؛ تنتقل فيها هذه المجتمعات من مرحلة التنمية المستدامة ومستويات التنمية البشرية المرتفعة نسبيًا إلى حالة أكثر حداثة للمجتمع، قوامها المجتمع الذي تقوده القيادات الملهمة، والاقتصاد الذي يعظم الفرص لكافة الساكنين، والتنافسية التي تحرك عبر أدواتها ومحكاتها هذه المجتمعات بتركيبتها الثقافية والاجتماعية لانخراط أكبر في مشهد العولمة المتجدد في نسيجه وآفاقه.
في الواقع فإنه ليس من باب المبالغة القول: إن «الابتعاث الخارجي» - في مختلف مستوياته - أحد أهم مشاريع الدولة التي أسهمت في حالة التغير الاجتماعي في الخليج، ذلك أنه دفع بشرائح واسعة من الطبقة المتفاعلة ثقافيًا للاندماج في ثقافات أخرى، وأسهم في تقصير الآجال الزمنية للاستثمار في المورد البشري، وفي بعض الدول أسهم في إدماج العائلات (التي كانت ترافق المبتعثين) في أنماط وتفاعلات ثقافية مختلفة، كما أنه أعطى أدوارًا جديدة للمرأة المبتعثة في سوق العمل وفي مشهد التنمية الوطنية على وجه العموم. يمكن القول: إن الابتعاث بالنسبة لجموع الفئات المستهدفة به والمستفيدة منه على مستوى مجتمعات الخليج أعطى لهذه المجتمعات صورة كاشفة عن حالتها الثقافية، وعن عناصرها المعرفية، وعن منطلقات القوة الكامنة فيها. وعن آفاق التطوير والتلاقح الثقافي الممكنة مع الدول التي تستهدفها برامج الابتعاث. لا شك اليوم في بعض دول الخليج أن من يقود مشاريع التحول الاقتصادي والتنموي في الغالب هي الفئة التي استفادت من برامج الابتعاث في نهاية التسعينيات وبداية الألفية الجديدة. وهذا مكتسب مهم لمجتمعات الخليج في استثمارها في موردها البشري. إلى جانب ذلك تعضد الرؤى التنموية التي تتبناها الدول الخليجية على حد سواء حالة التغير الاجتماعي في الخليج؛ ذلك أنها تنطوي على إحداث تغييرات سلوكية ومفاهيمية في المقام الأول؛ سواء فيما يتصل بعلاقة المواطنين بالدولة، والقيم المهنية، والمفاهيم المتصلة بالوظيفة العامة، وعلاقة الأفراد عمومًا بسياقهم الإيكولوجي وحالة تجويد وترشيد الاستهلاك والاهتمام بجودة الحياة العامة، ونشوء مفاهيم العمل الحر والمستقل، والتركيز على «القيادة بالنماذج»؛ من خلال إيجاد نماذج قاطرة سواء من الأفراد (القادة) محركي التغيير، أو من المشاريع القومية التي تدفع بالوجدان الاجتماعي للالتفات حولها وتشكل رمزية طموح التغيير في هذه المجتمعات. تدفع هذه الرؤى كذلك باتجاه حشد الشعور الجمعي أن هذه المنطقة قادرة على التأثير العالمي، وأنها تجاوزت كونها مجرد مجتمعات متمحورة حول سلعة «الطاقة» إلى قدرتها على التأثير في سياق صنع القرار العالمي وشبكاته، وهذا يعطي بعدًا جديدا للشخصية الخليجية، قد يدفعها إلى تغيير مفاهيمها إزاء طبيعة الانخراط في الشبكات العالمية، وحدود طموحاتها في التعليم والعمل والإنتاجية الاقتصادية، وفي إقبالها على قيادة الرأي العالمي المتحول.
دفعت دول الخليج كذلك خلال السنوات الماضية باتجاه تعميم وتشجيع تحول مواطنيها وخاصة فئة الشباب نحو «ريادة الأعمال»، و«الأعمال الحرة» وسخرت الموارد المؤسسية والتنظيمات اللازمة لتعميم هذه الثقافة، وقد أصبح اليوم هذا العامل أحد محركات التفكير في الاستقلالية الاقتصادية عن الدولة بالنسبة لشرائح معينة من الأفراد في مجتمعات الخليج العربي. إن الدفع في هذا الاتجاه هو أيضًا محرك للتغير الاجتماعي، ذلك أنه ينبئ عن نشوء قيم جديدة ترتبط بفكرة الدخل الحر، ومساحة العمل الحر، والانتقال من حالة الموظف إلى رب العمل، والانعتاق من القيود الاجتماعية التقليدية للوظيفة، مما يشكل أدوارًا جديدة للرجل أو المرأة على حد سواء في سياق النسيج الاجتماعي. تتداخل فكرة العمل الحر مع تصورات جديدة للأدوار في الأسر والأوقات مع الأسر، وللعطل والإجازات والمناسبات الاجتماعية، كما أنها من شأنها تكوين معايير جديدة للمقارنة الاجتماعية والطبقة الاجتماعية في الخليج. هناك فئات شابة اختصرت مسارات تكوين الثروة وهو معطى اقتصادي – اجتماعي مهم للنظر في القيم التي يولدها. كما أن هذا الاتجاه ساعد كثير من الأفراد في التنقل عبر الحدود بمشاريعهم وتأثيرهم الاقتصادي والفكري والابتكاري. وفي العموم فإن حالة التغير الاجتماعي في الخليج في تقديرنا تسمها ثلاث سمات رئيسية: أولها أنه تغير تقوده الدولة؛ سواء كان عبر رؤاها وخططها طويلة الأمد، أو عبر أشكال التنظيم التشريعي المستحدثة في هذه الدولة والتي تشيء بالتحول إلى عقد اجتماعي جديد بين الدولة والمجتمع. أما ثاني السمات؛ ففي كونه تغير يصعب توقع مستوى سرعته ووتيرته، هناك مجتمعات خليجية كانت سرعة التغير الجزئي فيها غير متوقعة ومحسوبة، وهناك مجتمعات تأخذ دورة التغير فيها سياقًا أبطأ بكثير من غيرها. أما ثالث سمات التغير الاجتماعي في مجتمعات الخليج فهي الدور التظافري للعوامل التي تؤدي إليه، لم يُحدث الإعلام (بشكله التقليدي) ذلك الأثر في تغيير المجتمعات الخليجية، ولم تكن وسائل التواصل الاجتماعي وحدها أداة التغيير، وإنما تظافرت عوامل سياسية / ثقافية / اقتصادية دفعت نحو ذلك التغيير في مرجعيته وحدوده وسرعته. وعلى أية حال ما زالت دراسات التغير والتغيير الاجتماعي في الخليج (محدودة جدًا). وكمختصين في العلوم الاجتماعية ما زلنا نعول على أدبيات كتبت قبل الألفية لفهم هذه الحالة. نعتقد اليوم بضرورة تبني مرصدًا للتغير الاجتماعي في الخليج، يمكن أن يكون موقعه الأمثل في الأمانة العامة لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، ويجمع باحثين جديرين، قادرين على تطوير أدوات منهجية محكمة لرصد حالات التغير الاجتماعي في الخليج، والأهم تقديم رؤى مستنيرة للسياسات والبرامج القاطرة لاحتواء هذا التغير. وتوظيفه لخدمة أغراض الاستقرار الاجتماعي والازدهار المجتمعي.
مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عمان
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: هذه المجتمعات دول الخلیج
إقرأ أيضاً:
سقطرى على حافة الخطر.. التغير المناخي والسياحة العشوائية يهددان “جنة اليمن”
يمن مونيتور/ سي إن بي سي عربية
قبالة سواحل القرن الأفريقي، ظلت جزيرة سقطرى اليمنية بعيدة عن الأنظار لقرون، لا يزورها إلا القليل من التجار الباحثين عن اللبان العطري، ونبتة الصبّار العلاجية، والعصارة القرمزية لشجرة دم الأخوين، التي تُستخدم في صناعة الأصباغ.
وتُقارب مساحة سقطرى مساحة جزيرة «لونغ آيلاند» في نيويورك، وتقع على بُعد نحو 140 ميلاً من السواحل الصومالية. وقد ساهم موقعها النائي في نشوء نظام بيئي فريد، يزخر بأنواع نادرة من الطيور والحيوانات، فضلاً عن الشعاب المرجانية الغنية بالحياة البحرية الملوّنة. وتشير منظمة اليونسكو إلى أنّ ثلث النباتات البالغ عددها 825 نوعاً في الجزيرة لا توجد في أي مكان آخر على وجه الأرض.
ويصف بعض الخبراء —من بينهم عالم البيئة كاي فان دام، الذي عمل في سقطرى لأكثر من عشرين عاماً— الجزيرة بأنها غالاباغوس المحيط الهندي. لكنه، إلى جانب مختصين آخرين، يُحذّر من أن ملايين السنين من التطوّر البيولوجي في سقطرى باتت «مهددة بشكل خطير.
التغيّر المناخي
وقال فان دامه في تصريح لشبكة NBC خلال مكالمة الشهر الماضي: التغيّر المناخي هو بلا شك التهديد الأكبر لتنوّع سقطرى البيولوجي. إنها جزيرة صغيرة نسبياً، ذات مناخ جاف في معظمه، وأي تأثير إضافي —حتى لو كان طفيفاً— قد يُحدث أثراً كبيراً ويزيد من الضغط على أنظمتها البيئية الهشّة.
تفاقمت الأضرار البيئية التي لحقت بجزيرة سقطرى نتيجة الأعاصير المدمّرة التي ضربتها في عامي 2015 و2018، بسبب موجات الجفاف الطويلة الناجمة عن تغيّر المناخ، حيث أدّت هذه الظواهر المتطرفة إلى تدمير الشعاب المرجانية، وتآكل التربة، واقتلاع نباتات نادرة.
ويواجه أحد أبرز رموز الجزيرة —أشجار اللبان المتوطنة— تهديداً وجودياً. فقد صنّف «الاتحاد الدولي لحماية الطبيعة» في مارس آذار الماضي أربعاً من أصل 11 نوعاً معروفاً من أشجار اللبان في سقطرى على أنها «مهددة بالانقراض بدرجة حرجة».
السياحة والرعي الجائر يهدّدان مستقبل سقطرى
صُنّفت خمسة أنواع أخرى من أشجار اللبان السقطرية على أنها «مهددة بالانقراض»، في إشارة إلى التدهور البيئي المتسارع على اليابسة وفي النظم البيئية المرتبطة بها، بحسب ما أكّده الخبير البيئي كاي فان دامه. وأضاف أن «الرعي الجائر، خاصة من قِبل الماعز، يُعد من التحديات الرئيسية الأخرى، إذ يؤدي إلى تدهور المواطن الطبيعية ويفضي إلى بقاء الأشجار المعمّرة دون وجود أجيال جديدة لتحلّ محلها”.
السياحة.. بين الفائدة الاقتصادية والضغط البيئي
تجذب سقطرى السيّاح بجمال شواطئها البكر، ومياهها الفيروزية، ونباتاتها العجيبة، لكن هذا الإقبال المتزايد يفرض ضغطاً متنامياً على البيئة الهشّة في الجزيرة.
ورغم محدودية الفنادق —ومعظمها في العاصمة حديبو— فإن عدد الشركات السياحية التي تنظّم جولات فاخرة ومعسكرات بيئية باستخدام سيارات الدفع الرباعي في تزايد مستمر، بعضها يُروَّج له على أنه «سياحة بيئية».
وصرّح الناشط البيئي المحلي ومنظّم الجولات علي يحيى، في مقابلة الشهر الماضي، بأن السلطات وافقت على تحديد عدد الزوّار بما لا يتجاوز 4500 سائح سنوياً.
وأضاف: في المناطق الحساسة من حيث النظام البيئي والتنوّع الحيوي والتراث الثقافي، يُمنع تماماً بناء المباني الضخمة أو الفنادق الواسعة.
لكن على الرغم من إدراج سقطرى ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو- ما يُلزم بالحفاظ عليها بموجب اتفاقيات دولية— فإن المخالفات لا تزال تحدث، بحسب الدليل السياحي المحلي عبدالرؤوف الجمحي، الذي قال في رسائل صوتية ومكتوبة الشهر الماضي: «بعض السيّاح يشعلون النيران تحت أشجار دم الأخوين، وينقشون كتابات على الأشجار النادرة، ويتركون وراءهم النفايات، ويُزعجون الطيور باستخدام الطائرات المسيّرة.
مع ذلك، أشار الجمحي إلى أن السياحة تُعدّ «بالغة الأهمية» لسكان الجزيرة، إذ يستفيد منها منظمو الجولات السياحية، وسائقو السيارات، وأصحاب المطاعم، والفنادق، وبائعو الحِرف اليدوية.
بين الاستغلال والتهاون: سقطرى تواجه مصير غالاباغوس؟
وفيما يكرّر تحذيراته، قال كاي فان دامه إن بعض الأنواع المهدّدة بالانقراض «تُقتل فقط من أجل صورة سيلفي»، مشيراً إلى أن أنواعاً نادرة مثل الحرباء يتم اصطيادها أو أسرها ليلتقط معها السيّاح صوراً تذكارية.
بدوره، توقّع الدليل المحلي عبدالرؤوف الجمحي أن يشهد عدد السيّاح ارتفاعاً في السنوات المقبلة مع ازدياد شهرة الجزيرة، محذّراً من أن ذلك «سيمثّل ضغطاً كبيراً على بيئتنا»، وأضاف: «سيكون تحدّياً بالغ الصعوبة».
ورغم أن المقارنة مع جزر غالاباغوس تُستخدم غالباً للإشادة بتنوّع سقطرى الحيوي، إلا أنها —وفقاً لفان دامه، الذي شارك في إعداد دراسة عام 2011 حول تأثيرات النشاط البشري على الجزيرة، تحمل أيضاً رسالة تحذيرية.
فمنذ القرن التاسع عشر، فقدت جزر غالاباغوس —الواقعة على بُعد نحو 600 ميل من سواحل الإكوادور، والتي اشتهرت بتنوّعها البيولوجي الفريد— عدداً كبيراً من أنواعها المتوطّنة بسبب التعدّي على المواطن الطبيعية، والضغوط السياحية المفرطة، وانتشار الأنواع الدخيلة.
وكتب فان دامه في حينه: «ربما يمكن اعتبار الأنظمة البيئية في سقطرى الآن في حالة صحية مشابهة على الأقل لتلك التي كانت عليها غالاباغوس عندما أُدرجت في قائمة التراث العالمي قبل 30 عاماً، مضيفاً أن سقطرى قد تواجه المصير نفسه إذا لم تُتّخذ إجراءات حاسمة لحمايتها في الوقت المناسب.
هل تتحوّل سقطرى إلى “غالاباغوس” جديدة؟
وجاء في الورقة البحثية: إذا نظرنا إلى الحالة الراهنة في جزر غالاباغوس، فقد نلمح ملامح مستقبل سقطرى —أو بالأحرى، ما قد تؤول إليه الأمور إذا استمرّت التهديدات والاتجاهات الحالية على النحو ذاته.
ووصف كاي فان دامه هذا التقييم بأنه «كان دقيقاً إلى حد بعيد»، لا سيّما من حيث توقّعاته المرتبطة بتغيّر المناخ، وذلك في تصريح لقناة NBC.
وتستقبل جزر غالاباغوس اليوم أكثر من 250 ألف زائر سنوياً، ضمن ضوابط صارمة تشمل تحديد أعداد الزوّار، وفرض وجود مرافقين مرخّصين، واعتماد مسارات محدّدة، وفرض رسوم سياحية مرتفعة تُخصّص لتمويل جهود الحماية البيئية.
وشدّد فان دامه على ضرورة أن تعتمد سقطرى آليات حماية مماثلة قبل أن تصبح الأضرار غير قابلة للإصلاح.
الثقافة والتقاليد… على المحك أيضاً
ولا تقتصر التهديدات على البيئة فحسب، إذ يرى علي يحيى، الناشط البيئي المحلي، أن السياحة بدأت تؤثر كذلك على النسيج الاجتماعي والثقافي للجزيرة، التي يبلغ عدد سكانها نحو 60 ألف نسمة، لا يزال كثير منهم يتمسّكون بتقاليدهم العريقة ويتحدّثون باللغة السقطرية القديمة، وهي لغة شفوية غير مكتوبة تعود جذورها إلى ما قبل الإسلام.
وقال يحيى: السلوكيات الأجنبية بدأت تؤثر في السكان المحليين، ونخشى أن يؤدي ذلك إلى تآكل تقاليدنا». وأضاف أن السياح مرحّب بهم عموماً، لكن على بعضهم احترام الخصوصية الثقافية أكثر.
وأشار إلى صورة نُشرت على إنستغرام تظهر امرأة ترتدي لباس السباحة تحت شجرة دم الأخوين، قائلاً إنّها أثارت غضب سكان قرية جبلية اعتبروا ذلك تصرّفاً منافياً لقيمهم المحافظة.
أمل بالمستقبل… شرط الاستمرار
ورغم الضغوط المتزايدة، يرى فان دامه أن هناك مؤشرات إيجابية، إذ أبدت السلطات في سقطرى انفتاحاً على التعاون، وبدأت مشاريع حماية بيئية يقودها المجتمع المحلي تحقّق تقدّماً ملموساً.
وقال: المبادرات التي يقودها المجتمع المحلي، إلى جانب الجهود القائمة الأخرى، تُعدّ جوهرية. وطالما استمرّت هذه المبادرات، فهناك أمل حقيقي لمستقبل الجزيرة.