الحوثي في الرياض… دلالات وأبعاد
تاريخ النشر: 21st, September 2023 GMT
في البدء كان الاتفاق السعودي الإيراني برعاية صينية، الرياض أرادت التخلص من الحرب للتركيز على عوامل قوتها الناعمة التي بموجبها تريد أن تتحول إلى مركز ثقل الإقليم، مع طموحات اقتصادية وجيوسياسية كبيرة كشفت عنها تحركات ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في قمة دول العشرين الأخيرة في الهند وفي مناسبات أخرى قبلها.
الرياض تريد تنويع شراكاتها شرقاً وغرباً، توجهها شرقاً نحو روسيا والصين والهند لا يقل أهمية عن توجهها غرباً نحو أوروبا، العلاقات القائمة على التعددية تراها الرياض أنسب بعد عقود من أرباح أمريكية راكمتها واشنطن من العلاقات الثنائية بين البلدين.
ترى الرياض أن واشنطن أخلت بمقتضيات التحالف القديم بين البلدين، وعلى الإثر اتجهت شرقاً جهة روسيا والصين، وغرباً جهة بعض دول أوروبا التي يلحظ محاولاتها الاستقلال في قرارها عن واشنطن. واشنطن شعرت بأنها إزاء سياسة خارجية سعودية جديدة، لا تقطع خطوط التواصل مع البيت الأبيض، ولا تستجيب لمطالبه كما كان الحال في العقود التي سبقت العقد الأخير.
الواقع أن واشنطن لم تكن راضية عن المصالحة السعودية الإيرانية، ولا عن طي صفحة الحرب في اليمن بخرائط حل لم تضعها هي، حتى وإن أعلنت عن تأييدها الذي فهم على أساس أنه مجرد كليشيهات دبلوماسية لا تغير من حقيقة أن واشنطن فوجئت بالتقارب السعودي الإيراني الذي ترى الولايات المتحدة أنه يسحب من يدها أوراقاً كثيرة كانت تمارس بها ابتزازاً مكشوفاً ضد الرياض التي أدركت أنه لا بد لها من أن تتخلص من سياسات ابتزاز الشريك الأمريكي.
الشراكة مع واشنطن تكون أحياناً مكلفة، أمريكا لا تؤمن كثيراً بالشراكات الطبيعية، هي تريد شريكاً وظيفياً، تستفيد من شراكته دون أن ترتقي استفادته من الشراكة إلى مستوى استفادتها هي. هذه الحال لا تخص السعودية وحدها، ولكن حتى الأوروبيون يشكون من ابتزاز الشريك الأمريكي، وكأننا إزاء ظاهرة لا تشذ عنها إلا إسرائيل التي تستفيد من شراكتها مع واشنطن أكثر من شراكة الأخيرة معها.
تدرك واشنطن أن الرياض بدأت تسلك مسلكاً آخر، وأن الأخيرة بدأت تنتهج مع واشنطن وغيرها سياسات «شيء مقابل شيء» وأن الطلبات من جانب واحد لم تعد قائمة، وأن الشراكة تعني الأخذ والعطاء، وأنه يجب تصويب المفهوم الأمريكي لمصطلحات التحالف والشراكة والتعاون، وفق محددات طبيعية لا يكون من بينها «الشيك المفتوح».
وبالعودة إلى الملف اليمني، يمكن ملاحظة أن واشنطن تنظر له ضمن نظرتها لمشاكل الشرق الأوسط التي تراها بعيون إسرائيلية، وهذه مشكلة.
واشنطن ترى أن الحل في اليمن يأتي ضمن خطوات يتم بها التمهيد لعلاقات عربية إسرائيلية ضمن مفهوم الشرق الأوسط الكبير و«التحالف الإبراهيمي» تريد واشنطن علاقات بين الرياض وتل أبيب، وترى أن الحل في اليمن سيعمل على تهيئة أجواء ملائمة لشرق أوسط يدمج إسرائيل ضمن ملامحه الجيوسياسية، فيما الرياض مهتمة بمراكمة عناصر قوتها الناعمة، وعلى المدى المنظور مراكمة عناصر القوة الخشنة، ما أمكن لها ذلك.
وفي الشأن اليمني، وبمجرد أن زار السفير السعودي محمد آل جابر صنعاء في رمضان الفائت حدث حراك دبلوماسي مكثف، حضر المبعوثان الأمريكي والأممي إلى المنطقة، شهدت الرياض ومسقط وعدن والمكلا ومأرب تحركات لسفراء ومسؤولين غربيين لا تبتعد زياراتهم عن جوهر المشكل والحل في اليمن.
مسقط ظلت تحتفظ بخطوط تواصل مع المكونات اليمنية المختلفة، ناطق الحوثيين مستقر منذ سنوات فيها، وفيها قياديون من حزبي: المؤتمر الشعبي العام والتجمع اليمني للإصلاح وآخرون، كما ظلت الخطوط العمانية ساخنة بين مسقط والرياض وواشنطن وطهران وصنعاء.
ومؤخراً، اشتدت حركة الاحتجاج في مناطق سيطرة الحوثيين ضد عدم صرف المرتبات المنقطعة منذ حوالي ثمان سنوات، الحوثي، ولمواجهة الضغوط الداخلية، استنجد بالعمانيين، لإحياء اتفاق تطبيع الأوضاع الإنسانية، تنازل عن بعض شروطه المعلنة التي اشترطها لإتمام اتفاق التطبيع الإنساني في البلاد، وهي الشروط التعجيزية التي أراد من خلالها أن تسلم مرتبات الموظفين في مناطق سيطرته إلى يده بالدولار، وحسب موازنة 2014، لا كشوفات 2014، وهي الخطوة التي أراد من خلالها أن يدخل عناصر ميليشياته ضمن كشوفات الموظفين، وهي الشروط التي أفشلت الاتفاق، قبل أن يعود الحوثي تحت ضغط الجمهور ليطلب من العمانيين الحضور لصنعاء، لمناقشة إحياء الاتفاق.
بعد تشدد الحوثي وشروطه التعجيزية التي عرضها على الوساطة العمانية آثرت الرياض أن تترك الحوثي لينضج خياراته مع اشتداد حركة الاحتجاج داخل مناطق سيطرته، الأمر الذي جعله يستنجد بمسقط، للعودة للاتفاق، الذي سيعرف الحوثي فيما بعد كيف يتملص من التزاماته فيه.
لم يدم الأمر طويلاً، حضر العمانيون إلى صنعاء مرة أخرى، وتحركت العجلة، ومع الحراك زار المنطقة برت ماكجيرك (مستشار الأمن القومي للرئيس بايدن الخاص بالشرق الأوسط) وباربارا ليف (مساعدة وزير الخارجية الأمريكي للشرق الأوسط) لنلمح ربطاً أمريكياً بين تطبيع الأوضاع الإنسانية في اليمن وتطبيع الأوضاع الجيوسياسية في الشرق الأوسط، مع لقاءات لم يبتعد عنها المبعوثان الأمريكي والأممي إلى اليمن.
أما الحدث الأبرز في هذا السياق فهو زيارة ولي العهد السعودي إلى مسقط، ولقاؤه سلطان عمان هيثم بن طارق، ولا بد أن اليمن كان في صلب محادثات الأمير والسلطان، إذ أعقبت الزيارة زيارة وفد الحوثيين إلى الرياض، مع وفد الوساطة العمانية.
يمكن وضع عنوان مناسب للتحركات الأخيرة من وجهة نظر سعودية، هذا العنوان هو: الحل في اليمن إقليمي أكثر منه أممي، وعربي أكثر منه دولي، والسعودية وسيط لا طرف في الحرب، يدعم ذلك واقع أن المجتمع الدولي لا يفهم بشكل جلي تعقيدات الوضع الإقليمي من ناحية، وأنه وإن فهم تلك التعقيدات فإنه يوظفها لصالحه التي لا تكون بالضرورة متسقة مع المصالح الإقليمية.
كان الحوثيون يرفضون فكرة تحول السعودية إلى وسيط، على اعتبار أنهم خلال السنوات الماضية كانوا يتحدثون عن «العدوان السعودي» ويرفضون فكرة «وساطة» سعودية بين اليمنيين، وهي الفكرة التي تعني أن الحرب في اليمن بين اليمنيين أنفسهم، وليست على اليمن بين اليمنيين والسعوديين، كما دأب الحوثيون على ترويجه.
ولكن، ومع الوقت يبدو أن الحوثي بدأ يقتنع بوساطة سعودية في ملف الحرب إلى جانب الوسيط العماني، وهو الأمر الذي يمنح الرياض حركة أوسع، ويكسبها بعضاً من مسؤوليات الوسيطين الأمريكي والأممي، الأمر الذي لا تحبذه واشنطن، رغم أنها لا تستطيع منعه، في الوقت نفسه.
بالنسبة لأغلب اليمنيين، أصبح الخروج من الحرب وتطبيع الأوضاع الإنسانية مطلباً ملحاً، ولكن الكثير ممن هم في مناطق سيطرة الحوثي يتساءلون عن جدوى حروبه، التي أفضت إلى مجموعة من المطالب الإنسانية، مثل صرف المرتبات وفتح كلي للموانئ والمطارات.
وإذا كانت الدولة في اليمن قبل مجيء الحوثيين تصرف المرتبات وتقوم بالخدمات، وإذا كانت الموانئ والمطارات تعمل، فلماذا إذن كانت تلك الحرب التي تنتهي إلى مجموعة من المطالب التي كانت متحققة لليمنيين قبل الحرب، والتي كانت ضمن مبررات الحرب في الخطاب الحوثي؟
واليوم تدور نقاشات حول أنه كان لدى اليمنيين دولة ومطارات ومرتبات وخدمات، ثم جاء الحوثي وفجر الحرب، ليبني «دولة أعلام الهدى» لينتهي المطاف باليمنيين بعد 8 سنين من الحرب وهم يبحثون عن مرتبات وموانئ ومطارات ودولة كانت موجودة، وليطرح سؤال حول دواعي تلك الحرب التي انتهت إلى مجموعة من المطالب التي كانت متوفرة قبلها، وهو السؤال الذي بدأ يطرح بشكل علني من قيادات ومراقبين وناشطين كثر في مناطق سيطرة الحوثيين الذين تعودوا على أن يتخذوا الحرب وسيلة للتهرب من مسؤوليات السلطة، وسبيلاً للتكسب المادي والسياسي، وبتوقف الحرب يكون الحوثي قد وضع وجهاً لوجه أمام استحقاقات جديدة، لم يهيئ نفسه لها، وهذا ما يجعله يصر على أن تكون كافة المسؤوليات على الحكومة، فيما يتفرغ هو – حسب دعايته – لخيارات المقاومة التي يحاول أن تظل شعاراً له يحميه من متطلبات تحوله لكيان سياسي ضمن دولة، لا سلطة فوق سلطة الدولة، كما هو الحال مع حزب الله في لبنان.
*نشر أولاً في صحيفة “الشرق الأوسط”
لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *
التعليق *
الاسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني
احفظ اسمي، بريدي الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح لاستخدامها المرة المقبلة في تعليقي.
شاهد أيضاً إغلاق آراء ومواقف
مشاء الله تبارك الله دائمآ مبدع الكاتب والمؤلف يوسف الضباعي...
الله لا فتح على الحرب ومن كان السبب ...... وا نشكر الكتب وا...
مقال ممتاز موقع ديفا اكسبرت الطبي...
مش مقتنع بالخبر احسه دعاية على المسلمين هناك خصوصا ان الخبر...
تحليل رائع موقع ديفا اكسبرت الطبي...
المصدر: يمن مونيتور
كلمات دلالية: مناطق سیطرة الحوثیین مناطق سیطرة الحوثی ولی العهد السعودی الشرق الأوسط أن واشنطن الحوثی فی فی مناطق فی الیمن أکثر من
إقرأ أيضاً:
اعتقال حاخامات يهود خلال احتجاجات في واشنطن ونيويورك للمطالبة بإنهاء حصار غزة
احتجزت السلطات الأميركية عشرات الحاخامات اليهود أثناء احتجاجات نظموها في واشنطن ونيويورك للمطالبة بإنهاء الحصار على قطاع غزة وتقديم المساعدات الإنسانية. اعلان
اعتقلت السلطات الأميركية عشرات الحاخامات اليهود المنتمين إلى التيار اليساري في كل من واشنطن ونيويورك، خلال مشاركتهم في احتجاجات نظّموها للمطالبة بتقديم مساعدات إنسانية إلى قطاع غزة وإنهاء الحصار المفروض عليه.
اعتصام داخل مكتب زعيم الأغلبية بمجلس الشيوخفي العاصمة واشنطن، نظّم الحاخامات اعتصامًا داخل مكتب السيناتور الجمهوري جون ثيون، زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ، حيث اقتحمت مجموعة مؤلفة من 27 حاخامًا، تابعين لمنظمة "اليهود من أجل المساعدات الغذائية لشعب غزة"، المكتب في الساعة 11:10 صباحًا، رافعين لافتات كُتب عليها: "الحاخامات يقولون: احموا الحياة!" و"الحاخامات يقولون: أوقفوا الحصار".
وخلال الاعتصام، صرّحت إحدى المشاركات بأنهم يطالبون المسؤولين المنتخبين باتخاذ إجراءات فورية لإنهاء المجاعة التي تطال المدنيين في غزة، بمن فيهم الفلسطينيون والرهائن الإسرائيليون. كما قرأ اثنان من الحاخامات مقطعًا من "مراثي إرميا" المرتبط بحصار أورشليم القديمة، وترجما العبارة: "الأطفال الصغار يستجدون الخبز، ولا أحد يعطيهم كسرة". واختتموا الإنشاد بترتيل المزمور الثالث والعشرين، الذي يُستخدم عادة في الجنازات اليهودية، قبل أن تتدخل شرطة الكابيتول وتقوم باعتقالهم.
الحاخامة أليسا وايز، المديرة المؤسسة لمنظمة "الحاخامات من أجل وقف إطلاق النار"، أكدت في بيان أن ما يحدث "يتعلق بالحياة والموت"، مضيفة أن مسؤوليتهم الروحية كيهود وحاخامات تفرض عليهم حماية كل الأرواح. وقالت: "كل حياة مقدسة، لكن الأرواح الفلسطينية لا يُنظر إليها كذلك، وهذه وصمة عار على ضميرنا الإنساني الجماعي".
اعتقالات في نيويوركوفي اليوم السابق، كانت السلطات قد اعتقلت ثمانية حاخامات في نيويورك خلال احتجاج نُظم أمام القنصلية الإسرائيلية بمشاركة منظمتي "T’ruah" و"New York Jewish Agenda"، حيث دعا المتظاهرون إلى زيادة المساعدات إلى غزة، ووقف الحرب، وإعادة جميع الرهائن. وقد احتُجز الحاخامات في سجن بمنطقة مانهاتن لأكثر من ساعتين قبل الإفراج عنهم.
الحاخام إيفان تريلور، الذي شارك في احتجاج نيويورك، كتب عبر حسابه على إنستغرام: "أنا بخير، وسأواصل التحدث والعمل من أجل إنهاء المجاعة في غزة، وإعادة الرهائن، وإنهاء الحرب، وتحقيق العدالة والسلام الحقيقي لكل الناس في إسرائيل وفلسطين".
Related "ميلانيا تأثرت".. ترامب عن نقل سكان غزة ومراكز توزيع الطعام وعن المهلة المعطاة لبوتينالديمقراطيون يضغطون على إدارة ترامب لبذل جهود "واسعة النطاق" لمعالجة أزمة الجوع في غزة"غزة جزء لا يتجزأ من إسرائيل".. دعوة صريحة من سموتريتش لإعادة احتلال القطاع امتداد للاحتجاجات اليهودية خلال الحرب على غزةوتعيد هذه التحركات إلى الأذهان الاحتجاجات التي نظمها حاخامات ويهود أميركيون خلال العام الأول من الحرب بين إسرائيل وحركة حماس، والتي طالبت حينها بوقف إطلاق النار. وكان عدد من الحاخامات المعتقلين من بين المشاركين في تلك الفعاليات.
وتأتي هذه الموجة من الاحتجاجات في ظل تصاعد الدعوات داخل الأوساط اليهودية الأميركية لإنهاء الحرب وإغاثة المدنيين في غزة، حيث وقّع خلال الشهرين الماضيين أكثر من 23,500 يهودي أميركي – بينهم أكثر من 750 حاخامًا وأكثر من 100 كنيس ومنظمة دينية – على بيان بعنوان "اليهود من أجل المساعدات الغذائية لشعب غزة".
كما وقّع أكثر من ألف حاخام حول العالم خلال هذا الأسبوع على رسالة مفتوحة تطالب الحكومة الإسرائيلية بالتوقف عن استخدام "المجاعة كسلاح في الحرب" – وهو اتهام ترفضه إسرائيل بشكل قاطع.
تدهور الوضع الانساني في غزةفي سياق متصل، تتسارع المؤشرات الإنسانية في قطاع غزة نحو التدهور الحاد، مع تسجيل حالات وفاة نتيجة سوء التغذية، وقد حذّر المكتب الإعلامي الحكومي في غزة من "خطر وشيك" يتهدد نحو 40 ألف رضيع فلسطيني نتيجة استمرار منع إدخال حليب الأطفال. واعتبر أن المأساة لم تعد مرتبطة فقط بمحدودية المساعدات، بل بسياسة ممنهجة تعتمدها إسرائيل لتجويع المدنيين، وسط صمت دولي مطبق.
من جهتها، أكدت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) أن جميع سكان قطاع غزة يعانون من الجوع، معتبرة أن الأطفال هم الفئة "الأكثر تضررًا" بسبب الحصار الإسرائيلي المشدد. وقالت المنظمة إن الوضع الغذائي المتدهور يشكّل تهديدًا وجوديًا للأطفال في القطاع.
انتقل إلى اختصارات الوصول شارك هذا المقال محادثة