نزع السياق… في سردية الغرب تجاه فلسطين والحرب على غزة
تاريخ النشر: 15th, October 2023 GMT
رغم مأساوية المشهد، وكل التكاليف المرعبة التي تكتنفها لحظاته المحمّلة بكَم لا يُوصف من التوحش، نحن أمام لحظة ليس ما قبلها كما بعدها.
لا نتحدث عن الحرب والفاعلين فيها، وإنما عن رعاة الديمقراطية وحقوق الإنسان الدوليين، وعالم ما بعد الغرب. قد لا تحمل الجغرافيا اتجاها رئيسيا خامسا غير الجهات الأربع، لكن السياسة تفعل، بل ولا تتوقف عن توليد الخيارات كلما ضلّ اتجاه.
جديد المشهد في غزة يكمن في نقطتين، الأولى حجم التوحش غير المسبوق. والثاني في الدفاع عنه ومنحه الغطاء.
موقف الدول الغربية السياسي اليوم يمكن وصفه بالتعايش الإجباري مع كونك وحشا. يفقد الغرب القدرة على تغليف الازدواجية، وهي وظيفة كانت واحدة من إبداعاته السياسية في زمن ما بعد الحرب العالمية الثانية.
ففي الوقت الذي أجاد الغرب إنتاج نظام دولي يرتكز على القانون الدولي والتعاون البيني وإنهاء الاستعمار وترسيخ قيم حقوق الإنسان، تمكن من توظيف كل ذلك كأداة تفوق وهيمنة.
شن الغرب، مجتمعين ومنفردين، حروبا من أجل الدمقرطة والقضاء على الإرهاب، وهي أسماء غلّفت هدف الهيمنة الجوهري بغطاء تعليم "البرابرة" طريقة الأكل بالسكين والشوكة. الفكرة هي الهيمنة بغطاء إنساني وفكرة عالمية.
وهي فكرة لم يكن بها بأس كمشروع حضاري إنساني عند كثيرين في حال ارتكزت على المساواة والعدل، على مبدأ الجميع رابح، المُهيمِن والمُهيمَن عليه. بمعنى أن مشروع الغرب استند على ثنائية الهيمنة والفكرة الإنسانية معا.
بينما كانت أزمته في مشهد الإبادة الذي تتعرض له غزة، في عجزه عن ترويج هذه الثنائية، فاستند لأحادية الهيمنة فقط. وبخلاف معظم وربما كل الاستحقاقات العالمية لحشد موقف ضد أو مع قضية ما، يفقد الغرب سرديته لأول مرة، وتبدو مواقفه مقطوعة كأنها نصف جملة.
طبيعة النظام الدوليعند حدود الجيب الفلسطيني المُسمى غزة، كما يحلو لبعض أدبيات الغرب الإعلامي والأكاديمي وصفه (Gaza enclave)، تتشكل لحظة إستراتيجية ما على مستوى أكبر بكثير من جغرافيا الـ360 كيلومترا مربعا، هي الأكثر كشفا عن حجم أزمة الذات التي يعيشها الاجتماع الدولي الغربي في صورة انكفاءات تدريجية لم تتوقف سياسيا وأخلاقيا واقتصاديا منذ سنوات.
ليس هذا من قبيل تضخيم الأثر أو التنبؤ بخلاف ما هو قائم، وإنما هو تعزيز لما بات من المسلمات في دوائر التفكير عند الحديث عن طبيعة النظام الدولي الحالي ومكانة الغرب فيه. عدا الولايات المتحدة الأميركية التي تمتلك مخزونا هائلا من القوة العسكرية والاقتصادية ومركبا فريدا من الاستثناء الجغرافي والتاريخي والنفسي، فإن حكومات غربية أخرى لم تعد تمتلك هيبة التفوق حين تلتقي مسؤولاً في أي دولة عادية أو ربما هامشية في العالم.
تنامت ندّية دولية لافتة في العقدين الأخيرين تجاه حكومات الغرب، والمواقف في ذلك أكثر من أن تُحصى. خذ مثالاً إيران التي أجبرت بريطانيا على دفع ما يمكن اعتباره فدية لإطلاق سراح مواطنة بريطانية-إيرانية بعد سنوات من الإذلال، والشيء نفسه قبل شهرين مع الولايات المتحدة.
خذ قطر التي عقدت أكبر ملتقى دولي في كأس العالم التي واجهت واحدة من كبرى حملات الشيطنة المنظمة الغربية ولم ترضخ لأبسط المطالبات. خذ السعودية التي تتحرك دوليا وإقليميا في مساحات كانت حتى وقت قريب من المحرمات في الممارسة التقليدية لحلفاء الغرب.
والأمثلة تمتد أكثر من ذلك في سلسلة الانقلابات العسكرية في أفريقيا، وفي مساحات الأدوار المثيرة للجدل لبعض الدول، إلا أنها تتحرك في نطاق سيلان هيبة التفوق الغربي وانكفاء مظلته الدولية.
هذه اللحظة الإستراتيجية تتجلى اليوم في انكشاف الموقف السياسي للغرب وممارسته بطريقة التوحش الاستعماري التقليدي ما قبل الحرب العالمية الثانية المؤطر بالقوة والقدرة على الفعل فقط.
لا مجملات ولا مساحيق قيمية يمكن إضافتها. تحريك أساطيل حربية. تكثيف دبلوماسي على مستوى الاتصالات والزيارات لاستعراض التعاطف مع الاحتلال. تعميمات على الناطقين الرسميين بدعم إسرائيل بانحياز مطلق، وبعدم استخدامات عبارات معينة تمثل جوهر القيم العالمية للنظام الدولي المعاصر من قبيل الالتزام بالقانون الدولي أو المطالبة بخفض التصعيد مثلاً.
ورسم مشهد بصري في عواصم الغرب الذي لا تعكس منصاته الدعائية الازدواجية وحسب، فنحن اليوم بمرحلة ما بعد ذلك، بل تعكس أيضا النزعة المطلقة، فهذا نحن وهذا اصطفافنا والباقي غير مهم. كل هذا من أجل ماذا؟ حماية نظام فصل عنصري بشهادة المنظمات الدولية والأمم المتحدة.
حماية الاحتلال الاستيطاني الوحيد المتبقي في العالم، حماية المستوطنة الدولية الغربية في الشرق الأوسط. كل هذا لا يعني أن الغرب عاجز من حيث القوة، وإنما عاجز في تغليف هذه القوة أخلاقيا، فيُضطر لاستعراضها عارية!!
نزع السياقفي ظل هذا الجنون، وكسر التوازن النسبي المعهود (لم يكن عادلاً بأي حال)، يقوم موقف الغرب تجاه ما يجري في غزة اليوم على فكرة "نزع السياق".
وهذه الفكرة جوهرية في الخطاب والتصريح السياسي والإعلامي منذ بدء الحرب. وذلك من أجل تسهيل محاكمة المشهد كحالة معزولة عن التاريخ الطويل والمفضوح للاحتلال والدعم الغربي له. إن نزع السياق هو تكتيك يجعل النقاش بالضرورة ساقطا ذاتيا (Self-defeated)، ويضع النتائج قبل المقدمات، ويطالبك بالتسليم سلفا بوجهة نظره قبل مناقشتها.
لقد لاحظنا إستراتيجية معظم وسائل الإعلام الغربية، والتي بدا كأن بينها اتفاقا، عند حوار أي طرف فلسطيني أو متضامن مع القضية الفلسطينية كيف تبحث عن إدانته قبل التحاور معه. فتبدأ بسؤال الإقرار لا الكيف، هل تؤيد أم لا تؤيد ما حصل يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول؟!
وفيما يرغب الإعلام عادةً في بناء الفهم من أجل أن يصل المشاهد نفسه لتطوير حكم منطقي، كانت السردية الغربية الرسمية وتيارها الإعلامي السائد في معركة لمنع بناء عملية منهجية للحكم من خلال نزع السياق.
باتت مقارنة أوكرانيا بفلسطين وازدواجية المعايير مستفزة لوسائل الإعلام الغربية، لدرجة أن الإعلامي أو السياسي يمكنه منع ذلك بوضوح كجزء من الإطار التحريري. وفي بعض الحوارات الأكاديمية كان الامتناع عن المقارنات شرطا مسبقا للنقاش.
المقارنة التي هي منهج علمي بالمناسبة قبل أن تكون وسيلة معرفية في مستويات إعلامية أو سياسية. بل إن المقارنة حقل دراسي قائم بذاته، وهو أفضل المناهج وأيسرها من أجل تحصيل معرفة منطقية وبناء أحكام راشدة.
لا يرى المتابع للنقاش المحتدم في الغرب إلا بوادر انقسام كبير في نسيج بلادٍ امتازت طوال عقودها الماضية في قدرتها على إدارة التنوع واستثماره. اللاجئون نوعان، واحد يشبهنا والآخر لا، بحسب القدرة على تشغيل الغسالة الآلية.
الجنس البشري ثلاثة، وممكن أكثر حسب الرغبة. أما القتل ففكرتان، واحدة دفاع عن النفس، والأخرى بربرية، حسب القاتل والمقتول. وهي سرديات لا يمكن الدفاع عنها إلا من خلال نزع السياق، وعزل الوقائع عن المقارنات!
ولأجل ذلك تُبث روح من التخويف بالعقاب والتجريد من الحقوق الأساسية وخسارة الفرص، إن لم يكن بواسطة القانون، فمن خلال وسائل تشويه السمعة والشيطنة التي تقود للنتيجة ذاتها. تجري تعديلات قانونية تناقض جوهر الديمقراطية، القيمة الذهبية التي يقوم عليها نظام التفوق الغربي.
كما تجري تقسيمات نمطية سياسيا واجتماعيا وأخلاقيا داخل المجتمعات المحلية، تتولد عنها ظواهر لا يمكن أن تمر دون أن تعكس التراجع، وهذا التراجع بحد ذاته قد يصلح سياقا موضوعيا لفهم موقف الغرب من المجزرة التي ترتكبها مستعمرته في غزة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssالمصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً:
أمريكا والحركات الإسلامية: الإرهاب والترهيب
أحداث سبتمبر 2001 و"الحرب الصليبية"عشية 11 أيلول/ سبتمبر 2001، تكلم الرئيس الأمريكي بوش الابن عن "حرب صليبية"، قبل أن يقال إنها زلة لسان، وقال أيضا، عن المسلمين: "سنجعلهم يقتلون بعضهم".
ودون التدقيق في حقيقة الجهة المخططة لأحداث 11 سبتمبر، أو حقيقة الأهداف المرسومة من تلك الاحداث، فإن وقائع كبرى ترتبت عن تلك التفجيرات وكان مجالها وضحاياها العالم الإسلامي، فكانت الحرب على أفغانستان في 2001 ثم الحرب على العراق في 2003.
ثم بدأ الاشتغال على الحركات الإسلامية، عن طريق "خبراء" وباحثين في مراكز دراسات خاصة في أمريكا. ويُعد مركز أيباك أبرز المهتمين بالحركات الإسلامية، وهو لجنة الشؤون العامة الإسرائيلية الأمريكية، التي تأسست منذ 1953، وهدفها دعم العلاقات بين الولايات المتحدة و"إسرائيل". هذا المركز يتعامل مع شخصيات ومنتديات تجري دراسات حول سياسات الحركات الإسلامية وعلاقاتها بالغرب و"إسرائيل"، ويبدو من خلال السلوك الأمريكي تجاه الحركات الإسلامية أن وجهة نظر غالبة انتهت إلى وجود ثلاثة صنوف من هذه الحركات، يعرّف كل صنف منها ويُحدَّد أسلوبُ التعامل معه.
أولا: الحركة الدعوية
وهي جماعة تقوم بواجب دعوة الناس إلى قيم الإسلام وفرائضه وسنن النبي صلى الله عليه وسلم، دعوة لا يريد أصحابُها من ورائها سلطة ولا ينقدون فيها حاكما ولا يحثون الناس على عصيان أو خروج عن "وليّ الأمر"، بل ربما يرون من الواجب الشرعي مساعدة الحاكم على مجابهة الخارجين عليه سواء بوعظهم أو بالإشارة إليهم.
التعامل مع هذه الجماعة، يكون بمرافقتها والترفق معها وعدم التضييق عليها. ويُعرَفُ أتباع جماعة الدعوة بكونهم ذوي أسلوب اتصالي جاذب، ولهم جرأة على الاتصال بالناس أينما كانوا وفي أي وضعية يكونون، وهم أساسا يشتغلون على من يصنفهم المجتمع "منحرفين" و"غير أسوياء"، يتصلون بهم ويركزون في مخاطبتهم على عواطفهم وعلى نوازع الخير الكامنة فيهم، ويَذكرون لهم قصصا مؤثرة من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن مآثر الصحابة رضي الله عنهم ومن مناقب الصالحين رحمهم الله.
ثانيا: الحركة الجهادية
وتشمل مختلف التنظيمات بتسمياتها المتنوعة والتي تلتقي في تبني فكرة "الفريضة الغائبة"، وهي الجهاد في سبيل الله، وهو جهاد يتجاوز جهاد النفس وجهاد الكلمة، إلى جهاد الدفع، دفع الظلم سواء كان خارجيا أو داخليا، والهدف الأسمى هو تحقيق "حاكمية الله" في كل مجالات الحياة، وتحقيق عزة الإسلام والمسلمين بمجاهدة الأعداء المعتدين.
وهذه الحركات، وِفق المنهج الأمريكي، لا تواجَه إلا بالقوة، تماما كما حصل مع تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة، وقد تابع العالم حجم العنف والدمار الذي أحدثته القوات الأمريكية في العراق وأفغانستان.
ثالثا: الحركات المعتدلة
وهي الحركات الإسلامية التي تطور خطابُها وأصبحت تمارس "البراغماتية"، ولا تعادي الغرب لكونه غربا ولا تجد حرجا في الاستفادة من تجاربه في التنظيمات وفي طرائق ممارسة العيش؛ بما يحقق الرفاه ويضمن استقرارا مدنيا من خلال الديمقراطية ومن خلال احترام الحريات وخاصة ما يتعلق بالمعتقدات وبالمسائل الشخصية.
هذه الحركات لا يمانع الأمريكان في التعامل معها ومحاورتها وحتى مساعدتها على المشاركة في دمقرطة الشعوب العربية والإسلامية، حيث تمثل الحركات الإسلامية المعتدلة بمختلف تسمياتها قاعدة بشرية مهمة يمكنها أن تعطي حيوية للممارسة الديمقراطية خاصة في مجال السياسة حتى إن أوصلتهم الانتخابات إلى السلطة.
والسؤال هو، هل كان الأمريكيون صادقين مع الحركات الإسلامية المعتدلة؟ هل كانوا فعلا راضين عن فوز الإسلاميين في انتخابات تونس ومصر والمغرب زمن "الربيع العربي"؟ لماذا لم يدافعوا عن مسار التدرب الديمقراطي حين تعرض إلى الإلغاء بقوة الدولة في كل من مصر وتونس؟
ولماذا يتمم اليوم تصنيف حركات الإخوان المسلمين في كل من مصر والأردن ولبنان "حركات إرهابية"؟ ما علاقة هذا "التصنيف" بطوفان الأقصى، وبتداعياته الأمنية والثقافية والأخلاقية والحضارية والإنسانية عالميا؟ ما الذي ينتظر الحركات الإسلامية سواء من الأنظمة العربية الحاكمة أو من أمريكا وحلفائها؟ وما الذي يمكن لتلك الحركات فعله؟
التصنيف أو القتل بالتقسيط
تصنيف الجماعات الإسلامية ليس تصنيفا معرفيا أو عَقدَيا أو حتى سياسيا، إنما هو عملية فصل لتسهيل عملية الشطب بالتقسيط، حيث تتفرغ آلة "الحرب" كل مرة لتدمير مجموعة بالطرائق المناسبة، فتظن مجموعات أخرى أنها في مأمن من الحرب، وتظل تتابع عملية تدمير غيرها دون حتى إدانة لما يحصل ودون وصف ذلك بكونه إجراما أو إرهابا.
لقد تعرضت جماعات القاعدة وطالبان "والدولة" إلى حرب مدمرة بأعنف الأسلحة، وتعرض عناصر تلك الجماعات إلى التنكيل والاهانة في سجن أبو غريب وغوانتنامو، في غفلة من كل العالم بما فيه من حركات إسلامية كانت تظن نفسها في مأمن لكونها دعوية أو معتدلة مسالمة.
لقد تبين لاحقا، بأن الحرب على "المعتدلين" كانت أعقد حرب لكونها لم تعتمد وسائل الحرب التقليدية، إنما اعتمدت وسائل ناعمة ولكنها مدمرة، فالحركات المعتدلة تعتمد على الأفكار ولها ثقة بقدرتها على الإقناع وعلى ربح معارك الأفكار والقيم، لذلك احتاج الأعداء معها أسلوبا ماكرا جدا. لقد تم فتح مسالك الوصول إلى السلطة لتلك الحركات المعتدلة، وصول شرعي عن طريق الانتخابات، في أعراس ديمقراطية مشهود لها، فتحوا لهم مسالك الوصول إلى الحكم وأغروهم بالمساعدات وأغرقوهم في التفاصيل حتى وصلوا بهم إلى حالة من الدوخان، فانفلتت الخيوط من بين أيديهم، ولم يعرفوا كيف يتصرفون ولا كيف يواجهون المشاكل الاجتماعية ولا كيف يضبطون منسوب الحرية حتى لا تكون فوضى.
لقد فشل المعتدلون في ضبط المشهد بما يوائم بين قيم الديمقراطية وبين هيبة الدولة، لقد أصبحوا في العراء تصيبهم الضربات من كل جانب وتتراكم عليهم التهم حتى فقدوا نقاوة صورتهم وصاروا في عيون الناس لا فاشلين فقط، بل "مجرمين" وحلفاء للفاسدين ثم تم شطبهم دون أن يجدوا شعبا ينتصر لهم.
لم يخسر المعتدلون السلطة فقط، فذاك أمر هيّن، إنما خسروا الكثير من نقاء صورتهم ومن تاريخ نضالهم ومن ثقة الجماهير بهم، سواء بسبب ما لحق بهم من تشويه أو بدا منهم من عجز أمام المشاكل الاجتماعية وأمام شراسة الخصوم في تحديهم والنيل منهم، فالناس لا يحبون السلطة العاجزة ولا يبحثون عن مبررات لفشل من انتخبوهم وعلقوا عليهم آمالا، فليس كافيا أن يكون من في السلطة طيبين ما لم يكونوا قادرين.
هذا الغرب (نقصد دائما الإدارة الأمريكية وقادة الكيان وحلفاءهما من قادة أوروبيين وغيرهم) لا يهمهم أن تنجح الديمقراطية في المجتمعات التابعة، ولا تعنيهم حرية شعوب وحقوق إنسان، إنما تعنيهم مصالحهم، ولا ينظرون إلى الشعوب المتخلفة وإلى حكامها إلا على كونهم عملاء لا شركاء ولا أصدقاء. لقد كان مطلوبا من المعتدلين ألا يكتفوا بتأكيد انفتاحهم على الغرب ثقافة وحضارة وتشريعات ونمط عيش، إنما كان المطلوب أساسا هو إعلانهم صراحة وبنسق سريع عن "التطبيع" مع الكيان.
لقد تأكد الغرب بأن المعتدلين غير قادرين على أو غير راغبين في اتخاذ خطوات واضحة باتجاه "التطبيع"، فليس كافيا اعتماد وزير يهودي ولا استقبال فريق في رياضة التايكوندو من الكيان، ولا استعمال صيغة "عزيزي بيريز"، ولا عدم عرض قانون تجريم التطبيع على التصويت في البرلمان؛ كلها إجراءات شكلية لا يسمح إيقاع التحولات الدولية بتقبلها والصبر على أصحابها، ولم يعد هؤلاء المعتدلون في قائمة "الأصدقاء"، وليس من منهج هذا الغرب "إعادة تدوير" من اختُبِر ولم "ينجح" في الاستجابة إلى الإملاءات.
ستستمر الحرب الناعمة على هؤلاء المعتدلين، والسؤال: لماذا يحارب الغرب المعتدلين؟
إنه يعتبرهم أخطر من المتشددين، فالمتشددون يسهل تجميع أدلة إدانتهم واتهامهم بالعنف والإرهاب، أما المعتدلون فليس من السهل وصمهم بذلك، بل إنهم في الغالب يربحون معارك الأفكار والقيم، ولذلك لن يسمح هذا الغرب باستمرار المعتدلين في إنتاج الأفكار وفي التدرب على ممارسة الحياة المدنية بفلسفتهم العقدية وبروحهم الإيمانية وبمنظومتهم القيمية، خاصة في زمن انكشف فيه زيف ادعاءات هذا الغرب، إذ لم يستطع تأكيد حداثته ومدنيته وإنسانيته، لقد كشف "طوفان الأقصى" بشاعة النظام الرأسمالي المتوحش، فلم يعد هذا النظام قادرا حتى على إقناع شباب الغرب بما يدعيه من شعارات حول كونية حقوق الإنسان وحول قيم السلام والمحبة. لقد كان طوفان الأقصى صدمة هزّت المعايير القيمية التقليدية وطرحت أسئلة وجودية جوهرية لا يمتلك هذا الغرب إجابات لها يقدمها لشبابه الذين صاروا يهتفون لفلسطين.
ولكونه عاجزا عن فهم تلك الصدمة وعن تقديم إجابات مقنعة لشبابه، فإن هذا الغرب المتعجرف يسارع إلى "وصم" المعتدلين بالإرهاب، متوهّما أنه يمتلك سلطة المعايير القيمية فيصنف من شاء وكما شاء وكأن الناس لا يحملون عقولا بل أوعية للتفريغ والملء.
فما هو البديل عن الحركات الإسلامية المعتدلة الذي سيعتمد عليه هذا الغرب في حروبه القادمة داخل جغرافية العالم العربي والإسلامي؟
x.com/bahriarfaoui1