لجريدة عمان:
2025-05-14@17:42:47 GMT

الحضارة لا تأتي بالاستعارة

تاريخ النشر: 18th, October 2023 GMT

هذا العنوان هو عبارة شهيرة وحكمة عامة متداولة على مر الزمان، والأهم من منطوق العبارة أن نفهم معناها ونتأمل مغزاها. أول ما يتبادر إلى أذهاننا حينما نتأمل معنى هذه العبارة هو أن الحضارة لا تُستورَد من الخارج؛ لأنها تظل صناعة داخلية تشكلت عبر تاريخ طويل لشعب ما، ومن ثم فإنها تظل مرتبطة بهوية هذا الشعب، أي بما أبدعه في سائر المجالات.

وربما يُقال إن الحضارات على مر التاريخ تستعير تقدمها من خلال استيراد سبل التقدم في حضارات أخرى: فالحضارة اليونانية- على سبيل المثال- قد أخذت عن الحضارة المصرية القديمة في العلم والفكر والفلسفة، إذ درس في الجامعات المصرية وعلى رأسها جامعة «أون» (أو عين شمس) كبار فلاسفة اليونان، واطلعوا على التعاليم السرية التي كانت مقصورة على الكهنة، خاصة بعد غزو الإسكندر الأكبر الذي سمح لأرسطو بنقل أمهات الكتب المصرية من مكتبة الإسكندرية، حتى قيل إن الحضارة اليونانية هي حضارة مصرية مسروقة، وهو ما نوهنا إليه في مقال سابق. وعلى الرغم من أن هذه الوقائع وأشباهها هي حقائق لا يمكن إنكارها، وهناك كتابات غربية تدعمها؛ فإننا لا يمكن أن نختزل الحضارة اليونانية في كونها مسروقة من مصر: فسرقة الأفكار أو استيرادها لا يمكن أن ينشئ بذاته حضارة جديدة. حقًّا إن الحضارات والثقافات تتلاقح، ولكنننا لا ينبغي أن نتناسى أبدًا أن التلاقح يكون بين حضارات قائمة بالفعل أو- على الأقل- ناشئة.

كل حضارة لها سماتها المخصوصة التي تشكل هويتها، ومن هنا نستطيع أن نتحدث عن هوية الحضارات في جنوب شرق آسيا: كالحضارة الهندية والصينية، وكلتاهما حضارة ضاربة في عمق التاريخ ولا تزال حية إلى يومنا هذا، بل إنها الآن حضارة في أوج صحوتها. فالحقيقية أن الحضارات الكبرى قد تمر بحالة خمود أو سكون، ولكنها في لحظة تاريخية ما قد تصحو من جديد: ولقد حدث هذا مع الحضارة الأوروبية نفسها التي مرت في العصر الوسيط بحالة خمود، ولكنها ظلت في حالة كمون إلى أن جاء عصر النهضة الذي بعث فيها الحياة مجددًا من خلال إعادة إحياء بذورها أو أصولها اليونانية والرومانية؛ فلا تزال هذه الحضارة الأوروبية الحديثة والمعاصرة وريثة هذه الأصول القديمة. ولا شك في أن الحضارة الإسلامية قد مرت أيضًا بحالة من الخمود، ولكنها حالة قد طالت قرونًا عديدة زادت على سبعة قرون. ومن الصحيح القول بأن هذه الحضارة مرت بلحظات من اليقظة، وهو ما نجده على سبيل المثال في عصر محمد علي الذي سعى إلى تأسيس نهضة قوية تنطلق من مصر. ولا ينبغي أن ننسى في هذا الصدد أن الحكومة اليابانية كانت منبهرة بهذه الإنجازات، حتى إنها كانت ترسل الوفود للتعرف على سبل المشروع النهضوي الذي انبثق في مصر. ولكننا لا ينبغي أن ننسى أيضًا أن هذا المشروع النهضوي لم يتواصل سوى قرن ونصف من الزمان، وسرعان ما توارى وتم إجهاضه مرات عديدة، وهو ما ينبغي أن يكون موضع تأملنا الدائم في أسباب نهوض وانكسار الحضارات، وأن نتأمل هذه الأسباب في كل حالة تحديدًا. ولكن المؤكد أن الحضارة الإسلامية لم تمت، وإن كانت في حالة كمون نسبي يتطلب صحوة شاملة تتجمع فيها النقاط المضيئة هنا وهناك.

ولنا في تأمل التجربة اليابانية موعظة وعبرة: دولة فقيرة بلا موارد، أجهضتها الحرب العالمية الثانية، ولكنها كانت تمتلك إرادة النهضة، فانغلقت على نفسها، وراحت تدرس إمكانياتها ومواردها الشحيحة، ومواطن القوة فيها؛ فقامت بمسح ترسانة الغرب التي يقوم عليها تطوره، وقامت بصنع ترسانة مشابهة، سرعان ما تفوقت على ترسانة الغرب نفسه، وكانت ترسانتها هي العلم والصناعة والابتكار على الأصعدة كافة. وهكذا أصبحت اليابان قوة عظمى، ونموذجًا ينبغي أن تتعلم منه الدول الفاشلة التي تعلق فشلها تارةً على ضعف مواردها، وتارة أخرى على زيادة عدد السكان فيها.

كيف نطبق ذلك على وضعنا الراهن اليوم في عالمنا العربي؟ إننا نجد على سبيل المثال منذ عقود عديدة بوادر نهضة فكرية في المغرب العربي، وهي نهضة ناتجة عن الانفتاح على الثقافة الأوروبية (والفرنسية بوجه خاص). لكن ما يعيب هذه النهضة أنها لا تزال أسيرة استيراد أو استعارة الثقافة الأوروبية والترويج لها، باستثناءات قليلة نجدها لدى بعض المفكرين من أمثال عبد الفتاح كليطو وعبد السلام بن عبد العالي من المغرب، وقلائل غيرهم في دول المغرب العربي من المفكرين والباحثين الثقات.

وهناك مثال آخر في عالمنا العربي، وهو حالة المملكة العربية السعودية التي تسعى الآن إلى التحرر من الفكر السلفي المتشدد والانفتاح على الثقافات والفنون لدى الشعوب الأخرى، وهي حالة لا يمكن أن تؤتي ثمارها إلا من خلال هضم واستيعاب ثقافة وفنون الآخر في الداخل، وبالتالي القدرة على الإنتاج الذاتي للثقافة والفن. ومن حسن الطالع أن السعودية تسير على الطريق الصحيح الذي يمكن أن يفضي إلى ذلك: فقد لاحظنا في الآونة الأخيرة ظهور فنانين وفنانات سعوديات في احتفاليات الرياض التي تنظمها «هيئة الترفيه»؛ كما لاحظنا أن هناك هيئة تابعة لوزارة الثقافة في طور التأسيس تسمى «هيئة الموسيقى»، وهي هيئة تُعنى بتعليم الموسيقى في المدارس وفي الحياة الثقافية والتعليم الأكاديمي الخاص والحر. وفضلًا عن ذلك، فقد بدأنا نرى مؤتمرات تنعقد حول قضايا فلسفية، ودور نشر (مثل: مؤسسة معنى) تهتم بنشر وترجمة الكتابات الفلسفية. ذلك أمر مدهش بلا شك؛ لأنه أتى بعد أن كانت كلمة «الفلسفة» محظورة في الجامعات السعودية.

كل ما تقدم يعني شيئًا واحدًا هو أن الحضارة لا تأتي بالاستعارة من الخارج، وإنما تأتي بإيقاظ الكامن في الداخل في الوقت نفسه الذي ينفتح فيه الداخل على الخارج.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: ا ینبغی أن لا یمکن یمکن أن

إقرأ أيضاً:

غزل وانبهار.. ترامب يعترف: ماذا لو كانت أمريكا مثل الخليج!

في واحدة من أبرز المحطات الرمزية والجيوسياسية في فترته الرئاسية الثانية، أبدى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إعجابًا بالغًا بالنموذج التنموي والسياسي الذي تمثله دول الخليج، مؤكداً في خطابه بالرياض أن ما تشهده المنطقة هو "عصر ذهبي" يمكن أن يسير بالتوازي مع "عصر النهضة الأمريكية الجديدة"، في إشارة واضحة إلى الدور الصاعد والمتنامي لدول الخليج في إعادة تشكيل ملامح الاقتصاد والسياسة الإقليمية والدولية.

من قلب الرياض، حيث استُقبل ترامب بحفاوة واحتفاء يعكسان متانة العلاقة بين السعودية والولايات المتحدة، أشاد الرئيس الأمريكي بما وصفه بـ"التحولات المذهلة" التي تشهدها مدن مثل دبي، وأبو ظبي، والدوحة، ومسقط، مشيراً إلى أن قادة الخليج الجدد باتوا يكتبون فصلًا جديدًا في تاريخ المنطقة، يتجاوز الصراعات القديمة نحو عالم تُهيمن عليه التجارة والتكنولوجيا بدلًا من الفوضى والتطرف.

يكشف التحليل الذي نشرته شبكة “سي إن إن” عن إدراك أمريكي متزايد بأن شركاء واشنطن الحقيقيين لم يعودوا محصورين في حلفاء أوروبا التقليديين، بل باتت العواصم الخليجية — من الرياض إلى الدوحة وأبو ظبي — تمثل مفاتيح أساسية في الأمن والاستقرار العالميين، ليس فقط عبر الاستثمار والتسليح، بل من خلال الدبلوماسية الفاعلة والقدرة على الوساطة في أصعب الملفات الدولية.

في محور التقرير، تحضر قطر كدولة صغيرة بحجمها الجغرافي، لكنها ذات وزن ثقيل في ميزان السياسة الدولية، حيث أصبحت بفضل دبلوماسيتها المتعددة القنوات — سواء في الملف الأفغاني أو الأزمة الأوكرانية أو حرب غزة — بمثابة "صندوق أدوات دبلوماسي" للإدارات الأمريكية المتعاقبة، وقناة خلفية فعالة بين الخصوم الدوليين.

في المقابل، تظهر السعودية والإمارات كقطبين راسخين يقودان مسيرة التحول الخليجي، عبر المشاريع الضخمة والاستثمارات العابرة للحدود، ودورهما في الوساطة الدولية، إضافة إلى التقدم في القطاعات الحيوية مثل الطاقة المتجددة، والرياضة، والسياحة، ما يجعل منهما شريكين استراتيجيين لا غنى عنهما لأي إدارة أميركية تسعى لتحقيق مصالحها في الشرق الأوسط.

ولم يخفِ ترامب إعجابه الواضح بزعماء الخليج، خصوصًا الأمير محمد بن سلمان، مؤكدًا في خطاب صريح: "أحب هذا الرجل كثيرًا، وربما لهذا السبب نعطي الكثير.. أحبك كثيرًا".

كلمات تعكس طبيعة العلاقة الشخصية والسياسية التي تربط إدارة ترامب بقادة الخليج، والمبنية على رؤية براغماتية تشجع على الاستثمار، وتقلل من التدخل في الشئون الداخلية.

خلافًا لما يروجه بعض المنتقدين في الغرب، ترى العواصم الخليجية أن علاقتها بواشنطن مبنية على الندية والاحترام المتبادل، فهي شريك فاعل في الأمن العالمي، ولاعب أساسي في ملفات إقليمية معقدة، من اليمن إلى فلسطين، ومن الطاقة إلى الأمن السيبراني.

وفي هذا السياق، فإن الترحيب الخليجي بزيارة ترامب لا يعكس فقط عمق العلاقة التاريخية، بل أيضاً مكانة الخليج الجديدة كصانع قرار دولي.

ما بين الإعجاب الأمريكي المتصاعد والنفوذ الخليجي الآخذ في التوسع، يبدو أن واشنطن باتت تنظر إلى الخليج ليس فقط كمصدر للطاقة والثروات، بل كمنظومة سياسية واقتصادية تمتلك من المرونة والرؤية ما يجعلها نموذجاً مغرياً لقيادات العالم. 

وربما كان ترامب أول من عبّر عن ذلك بوضوح، لكن المؤشرات تدل على أن من سيأتون بعده سيجدون في الخليج الحليف الأكثر قدرة على ترجمة الطموحات إلى نتائج.

طباعة شارك ترامب الخليج السعودية

مقالات مشابهة

  • دراسة جديدة تكشف: نهاية الكون قد تأتي أسرع مما كان يُعتقد
  • وزير الخارجية أسعد الشيباني: نشارك هذا الإنجاز شعبنا السوري الذي ضحّى لأجل إعادة سوريا إلى مكانتها التي تستحق، والآن بدأ العمل نحو سوريا العظيمة، والحمد لله رب العالمين. (تغريدة عبر X)
  • غزل وانبهار.. ترامب يعترف: ماذا لو كانت أمريكا مثل الخليج!
  • ولي العهد: هذه القمة تأتي امتدادا للعلاقة الاستراتيجية التي تربطنا بالولايات المتحدة.. فيديو
  • إصابات جراء قصف جرافة كانت تعمل على رفع الركام في ساحة المستشفى الأوروبي / شاهد
  • كانت المعركة، معركة الخوي، كسر عظم بحق، ولكنه عظم المليشيا
  • وزير الأوقاف: بناء الإنسان وصناعة الحضارة هما محور تعاوننا مع جامعة النيل
  • الآداب التي ينبغي أن يتحلى بها الحاج أثناء تأديته مناسك الحج
  • الفردوسي.. صاحب أطول ملحمة في التاريخ
  • ألمانيا: ينبغي استئناف إدخال المساعدات الإنسانية لقطاع غزة على الفور