الولايات المتحدة – ما هي العواصف المغناطيسية، وما أسبابها ومصدرها، وكيف تنشأ، وما هو تأثيرها في جسم الإنسان والأجهزة الإلكترونية وكيف يمكن الوقاية منها؟.

العواصف المغناطيسية هي مشكلة الأشخاص الذين تتفاعل أجسامهم مع التغيرات المفاجئة في الطقس. وفي هذا الموضوع سنحاول باختصار توضيح ما هي العواصف المغناطيسية وكيف تؤثر في جسم الإنسان وما هي التدابير التي يجب اتخاذها لتخفيف تأثيرها.

يصعب على الأشخاص الذين يشكون من الصداع وألم في القلب وسوء حالتهم الصحية في فترة هطول الأمطار أو التغير المفاجئ بالطقس تحمل العواصف المغناطيسة التي تحدث ما لايقل عن ستة مرات في السنة ويمكن أن تستمر أكثر من أسبوع في كل مرة. ويمكن أن تسبب العواصف المغناطيسية خللا في عمل الأجهزة الكهربائية والإنترنت والاتصالات الهاتفية . وبالطبع تصور عواقب العواصف المغناطيسية أمر مخيف فعلا. ولكن هل فعلا العواصف المغناطيسية خطرة إلى هذه الدرجة!.

 

ماهية العواصف المغناطيسية- الرياح الشمسية هي جسيمات مشحونة تطلقها الشمس بسرعة تصل إلى 400 كلم في الثانية ويمكنها اختراق المجال المغناطيسي للأرض، وعندما تلتقي الرياح الشمسية المجال المغناطيسي للأرض يحصل ما يسمى بـ “الغلاف المغناطيسي” الذي يحمينا من الجسيمات المشحونة. ولكن عندما تكون الرياح الشمسية شديدة جدا أو تتحرك باتجاه معين يمكن أن تخترق الجسيمات المشحونة الغلاف المغناطيسي، ما يؤدي إلى حصول تغيرات في المجال المغناطيسي للأرض، وهذا يطلق عليه “عاصفة مغناطيسية”.

الأسباب- أكثر أسباب العواصف المغناطيسية انتشارا، هي التوهجات الحاصلة على سطح الشمس، التي بسببها تنطلق كمية هائلة من الطاقة والجسيمات المشحونة. والسبب الثاني – القذف الإكليلي، وهي انبعاثات من الهالة الشمسية، أو بشكل أدق، من مناطق ذات درجات حرارة منخفضة قد تحتوي على جسيمات مشحونة ومجال مغناطيسي، وهذه تؤثر في المجال المغناطيسي للأرض.

مستوى وحجم العواصف الشمسية– تحدد خطورة العواصف الشمسية استنادا إلى مستوى شدتها (Dst)، الذي يحتسب بواسطة أجهزة قياس المغناطيسية الموجودة في محطات على خط الاستواء المغناطيسي للأرض. تقدر العواصف المعتدلة بـ -50 إلى -100 نانو تسلا، والعواصف الشديدة -100 إلى -200 نانو تسلا، والعواصف الشديدة جدا- أعلى من -200 نانو تسلا. وتتراوح شدتها في حالة الهدوء، من -10 إلى 20 نانو تسلا.

ويستخدم العلماء المؤشر G لتحديد مستوى خطورة العاصفة المغناطيسية الأرضية ومدى تأثيرها في الأجهزة الكهربائية والكائنات الحية والاتصالات. ووفقا لذلك تقسم العواصف المغناطيسية إلى خمسة مستويات:

G1 – العواصف المغناطيسية الخفيفة، تحدث 1700 مرة في الدورة الواحدة. ليس لها أي تأثير خاص على الشبكات الكهربائية وتشغيل الأجهزة الإلكترونية. وقد لا يشعر بها الناس أيضا.

G2 – معتدل، 660 مرة في الدورة. تسبب أحيانا ارتفاعا في الجهد وتلحق الضرر بالمحولات في خطوط العرض الشمالية. كما أنها تؤثر على حركة المركبات الفضائية والشفق القطبي، وتنشأ بعيدا عن القطبين.

G3 – قوي، حوالي 200 مرة في الدورة. وتؤثر بشكل مباشر على أنظمة الطاقة وتسبب مشكلات في الملاحة عبر الأقمار الصناعية والاتصالات اللاسلكية. وفي هذه الحالة، يحدث الشفق القطبي بالقرب من خط الاستواء.

G4 – شديد، حوالي 100مرة لكل دورة. في هذا المستوى، تحصل مشكلات التحكم في الجهد واشتغال أجهزة الحماية. وتنشأ تيارات كهربائية في خطوط الأنابيب، وتتدهور الملاحة عبر الأقمار الصناعية والاتصالات اللاسلكية.

G5 – قوي جدا، يصل إلى أربعة في كل دورة. يسبب مشكلات واسعة النطاق في شبكات الكهرباء، ما يؤدي إلى إغلاق كامل وأعطال خطيرة في تشغيل الأقمار الصناعية والاتصالات اللاسلكية. ويمكن أن يحدث الشفق القطبي في المناطق شبه الاستوائية.

ويستخدم مؤشر K ومؤشر Kp بشكل منفصل في الحسابات. يشير الأول إلى انحراف المجال المغناطيسي للأرض عن القاعدة خلال فترة ثلاث ساعات، والثاني هو مؤشر الكواكب. يساعد كل واحد منهم في تحديد شدة العاصفة المغناطيسية ومستوى خطورتها.

ما هي المخاطر على الصحة وجسم الإنسان؟– لا توجد إجابة واضحة على السؤال “هل تؤثر العواصف المغناطيسية على حالة الإنسان وصحته وهل هي خطيرة”؟ ومع أن الدراسات الرسمية، تفيد بأنه عند حدوث عاصفة مغناطيسية أرضية، يرتفع معدل الوفيات الناجمة عن النوبات القلبية والجلطات الدماغية بشكل طفيف، ويشعر ثلاثة أرباع سكان الأرض بالتوعك. وبصورة خاصة الأشخاص الذين يعانون من حساسية الطقس والذين يعانون من أمراض القلب والأوعية الدموية. ولكن هذا لا يضمن السلامة حتى للشخص السليم الذي لا يعاني من أي مرض مزمن.

الأعراض– الأعراض الأكثر انتشارا أثناء العاصفة المغناطيسية هي: الصداع، الأرق، الضعف، عدم انتظام ضربات القلب، ارتفاع مستوى ضغط الدم. وبالإضافة إلى ذلك تسبب الصداع النصفي ويبطأ تدفق الدم في الأوعية الدموية الشعرية ويسوء المزاج. ويمكن أن تثير الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات نفسية وعاطفية مختلفة، وفي بعض الحالات قد يحدث التهاب في المفاصل وآلام في الظهر وثقل في الساقين.

والعلامة الأكثر وضوحا لتأثير العواصف المغناطيسية في جسم الإنسان هي الصداع الشديد، الذي يؤدي في النهاية إلى الصداع النصفي والأرق والمزاج السيئ والغثيان وما إلى ذلك. وللتخلص منه ينصح الأطباء بتناول المسكنات والمهدئات ومحاولة خذ قسطا من النوم. إذا كان الشخص يعاني من الصداع دائما أثناء العواصف المغناطيسية عليه ضبط الروتين اليومي، والتقليل من النشاط البدني، وتناول المهدئات والبحث عن المشاعر الإيجابية فقط في كل شئ.

توصيات لمن يعانون من أمراض القلب والأوعية الدموية- يتعرض الأشخاص الذين يعانون من أمراض القلب والأوعية الدموية للخطر بشكل خاص، لأن التعرض للعواصف المغناطيسية الأرضية يؤثر بشكل مباشر في الدورة الدموية. وقد تم إثبات هذه الحقيقة علميا من قبل العلماء الروس، الذين وجدوا أن عدد المرضى في المستشفيات خلال العواصف المغناطيسية يزيد بمقدار 1.5 مرة. وغالبا ما ينتهي بهم الأمر في المستشفى بسبب احتشاء عضلة القلب وتلف الأوعية الدموية في الدماغ وألم شديد في القلب وعدم انتظام دقات القلب.

وللحماية من تأثير العواصف المغناطيسية يجب الالتزام بالنصائح التالية: يجب التحكم بضغط الدم، واستشارة الطبيب عن الجرعة وتكرار تناول الأدوية، والاحتفاظ بجميع الأدوية والمياه اللازمة في مكان قريب، وتجنب التوتر والمشاعر السلبية، والحد من الكحول والسجائر والوجبات السريعة.

والشيء الأكثر أهمية هو عدم الخوف. كثير من الناس، بعد أن يعلموا عن قرب العواصف المغناطيسية، يبدأون في التفكير بالأسوأ، الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى تدهور حالتهم بسبب الإجهاد العاطفي.

تأثير العواصف المغناطيسية في المعدات والأجهزة– الخطر الكبير للعواصف المغناطيسية هو أنها يمكن أن تلحق الضرر بالناس بشكل غير مباشر، ما يؤثر على المعدات والنظم الكهربائية. وقدرتها على توليد تيار كهربائي في الأجسام المحتوية على المعادن، يمكن أن تسبب بسهولة حرائق وانفجارات. ويعرض الشخص نفسه للخطر عند العمل مع المعدات الكهربائية المعقدة، وعند استخدام مصدر المياه: لأن العواصف المغناطيسية تولد تيارا كهربائيا في الأنابيب، ما يؤدي إلى شحن المياه.

وتؤثر العاصفة المغناطيسية الأرضية في الاتصالات اللاسلكية ونظام تحديد المواقع العالمي (GPS) وأنظمة الملاحة الأخرى، حيث إنها تتداخل مع انتشار الإشارات في طبقة الأيونوسفير. ما يؤدي إلى تحديد غير صحيح للموقع والاتجاه. بالإضافة إلى ذلك، توسع العواصف المغناطيسية الغلاف الجوي، مسببة تباطؤ حركة الأقمار الصناعية والمركبات الفضائية القريبة من الأرض، ما قد يؤدي إلى كارثة.

والتنبؤ بالعواصف المغناطيسية عملية معقدة تتضمن مراقبة النشاط الشمسي ومراقبة التغيرات في المجال المغناطيسي للأرض. ومن أجل ذلك يستخدم خبراء العواصف المغناطيسية مجموعة متنوعة من الأدوات والأجهزة للتنبؤ بموعد حدوثها ونوعها. يمكن للأقمار الصناعية مراقبة هذه الأحداث والتحذير من العواقب المحتملة للعواصف المغناطيسية.

ويراقب العلماء المجال المغناطيسي للأرض للتنبؤ بالعواصف المغناطيسية. لأن المجال المغناطيسي للأرض يمكن أن يتغير عندما تخترقه الجسيمات المشحونة. وأخيرا، يستخدم علماء العواصف المغناطيسية نماذج رياضية للتنبؤ بكيفية تفاعل الجسيمات المشحونة القادمة من الشمس مع المجال المغناطيسي للأرض. تستخدم هذه النماذج بيانات عن النشاط الشمسي والمجال المغناطيسي للأرض للتنبؤ بالعواصف المغناطيسية التي قد تحدث والتأثيرات التي قد تحدثها.

لمنع العواقب السلبية الناجمة عن العواصف المغناطيسية، تتم حماية خطوط الكهرباء باستخدام أنظمة التحكم التلقائي في الجهد وأجهزة الحماية التي يمكنها إغلاق أجزاء من الشبكة بسرعة. وتزود الأقمار الصناعية بدروع خاصة وأنظمة إدارة الطاقة التي يمكن أن تساعد في تقليل الضرر. يوصى باستخدام نفس الطرق لحماية الأجهزة الإلكترونية. وتعمل الشركات والمنظمات على تطوير تقنيات جديدة قد تكون أكثر مقاومة للعواصف المغناطيسية. فمثلا، تعمل بعض شركات الطيران على تطوير أنظمة ملاحية جديدة يمكنها استخدام طرق أكثر موثوقية لتجنب المشكلات المرتبطة بالعواصف المغناطيسية.

عواقب أقوى العواصف المغناطيسية

حدثت أقوى وأفظع عاصفة مغناطيسية في مايو 1921 في الولايات المتحدة، تسببت في انقطاع الاتصالات الهاتفية تماما، والكهرباء واندلعت الحرائق. كما أثرت في أوروبا ونصف الكرة الجنوبي: في بعض المدن، تعطلت كابلات التلغراف تحت سطح البحر بالكامل. وفي الوقت نفسه، ولأول مرة في التاريخ، وصلت الأضواء الشمالية إلى أدنى خطوط العرض.

ووقعت العاصفة الكارثية الثانية في 13 مارس 1989. تسببت في انقطاع التيار الكهربائي لمدة تسع ساعات في مقاطعة كيبيك الكندية وتعطلت البنية التحتية بأكملها خلال دقيقتين تقريبا. وفقدت بعض الأقمار الصناعية الاتصال بالأرض لعدة ساعات. وفقدت أحدث بيانات (GPS) والصور والطقس وانقطعت الاتصالات اللاسلكية. وقد شوهد الشفق القطبي أثناء العاصفة في المكسيك وشبه جزيرة القرم.

وكانت العاصفة المغناطيسية التالية، والتي تسببت في مشكلات كثيرة في عام 2003. حيث انقطع التيار الكهربائي في السويد لمدة ساعة. والأسوأ من هذا فقد الاتصال بالأقمار الصناعية لعدة ساعات.

الوقاية أثناء العواصف المغناطيسية– لا تشكل العواصف المغناطيسية تهديدا مباشرا لصحة الإنسان، ولكن مع ذلك يجب أن يكون الإنسان على استعداد لعواقبها المختلفة. خاصة وأنه في بعض اللحظات، تأخذ إرادة الصدفة الدور الرئيسي. وفيما يلي بعض النصائح للاستعداد لتأثير التغيرات الكونية:

1- متابعة أخبار العواصف المغناطيسية والتعرف على العواقب المحتملة. يمكن أن تكون بعض العواصف المغناطيسية أقوى من غيرها، لذلك من المهم معرفة ما يمكن توقعه؛

2 – يجب شحن الهواتف المحمولة وأجهزة الكمبيوتر المحمولة وغيرها من الأجهزة الإلكترونية. أنه قد يساعد على تقليل مخاطر تلف المعدات في حالة توصيلها أثناء العاصفة المغناطيسية؛

3. فصل الأجهزة الإلكترونية غير الضرورية لتقليل مخاطر التلف. إذا لم يكن الجهاز قيد الاستخدام، فمن الأفضل فصله.

4. توفير المنتجات والمواد الضرورية، مثل الشموع والبطاريات والمواد الغذائية والمياه، لأنها تساعد على تجاوز المشكلات التي قد تسببها العاصفة المغناطيسية.

5. تجنب استخدام الأجهزة الإلكترونية في الهواء الطلق أثناء العاصفة المغناطيسية. قد يساعد هذا على تقليل خطر التعرض لصعقة كهربائية؛

6. عدم الخوف من العواصف المغناطيسية. لأن الخوف والأفكار المهووسة بأن شيئا ما سيحدث يمكن أن يتسبب في تدهور الحالة الصحية. ثم قد لا يكون السبب هو التغيرات الكونية نفسها، بل الانفعالات المفرطة. لذلك ينصح في مثل هذه الحالات بتناول المهدئات، وأخذ قسط وافر من النوم، وتجنب المشاعر السلبية؛

7. على الشخص مراقبة صحته. فإذا كان حساسا للعواصف المغناطيسية الأرضية، فعليه الاحتفاظ بالأدوية الضرورية بالقرب من مكان وجوده.

وأخيرا يجب في حالة حدوث عاصفة مغناطيسية، اتباع تعليمات السلطات المحلية وخبراء العواصف المغناطيسية. الذين يمكنهم تقديم نصائح تتعلق بالسلامة وتساعد على تقليل مخاطرها.

المصدر: نوفوستي

المصدر: صحيفة المرصد الليبية

كلمات دلالية: المجال المغناطیسی للأرض الأجهزة الإلکترونیة العاصفة المغناطیسیة العواصف المغناطیسیة الأقمار الصناعیة عاصفة مغناطیسیة الذین یعانون من أثناء العاصفة الأشخاص الذین ما یؤدی إلى فی الدورة ویمکن أن یمکن أن مرة فی

إقرأ أيضاً:

البرهان يتحدث بلسانين وسط العاصفة

 

البرهان يتحدث بلسانين وسط العاصفة

أحمد عثمان جبريل

في لحظات الصدق مع النفس، تزدحم الأسئلة لتأتي أكثر مما يحتمل صدر إنسان، حيث يقف السودان اليوم أمام مشهد لا يشبه سوى نفسه:” بلد تتنازعه الأوهام والحقائق، وتتكاثر فيه جراح الأرض والقلب معًا، وتتداخل أقدار الناس مع تشظّي السلطة، فيما تتربص به رياح العاصفة من كل جانب.. وفي قلب هذا المشهد يقف الفريق عبد الفتاح البرهان، ليس كرئيس لمجلس سيادي ولا كقائد للجيش فحسب، بل كرمز لحالة تائهة بين لغة الدولة ولغة الحرب، بين خطاب الشرعية وخشية الانهيار، بين رغبة إنقاذ الوطن ووزن الفشل الثقيل.. هو اليوم ليس فقط مسؤولاً عن القرار، بل مرآة لصراع داخلي وخارجي؛ مرآة يرى فيها كل من تألم وفقد الأمل، وكل من خاف على مستقبل هذا الوطن، وسط عاصفة سياسية وأمنية لا تعرف الرحمة .

❝ الدولة إذا دخلها الوهم، فسدت سياستها، وضلّت أقدام أهلها. ❞ — ابن خلدون

1 .
في ضوء ما قاله لبن خلدون هنا، تصبح ازدواجية الكلام علامة تدل على وهم كبير.. فالسلطة التي تتعاطى مع نفسها بلسانين، كمن يبني قصرًا فوق رمالٍ متحركة.. الكلام الأول يُعلن سيادة الدولة، وحدة القرار، استعادة النظام، ومنجزات المستقبل، وكأنه يريد أن يُعيد رسم خارطة الأمل فوق خريطة الدمار. أما الكلام الآخر — الذي لا يُصدره رسميًا، لكنه يُشعر به من خلال نبرة الغموض، من خلال الإشارات المتضاربة، من خلال صمت الفعل؛ فهو صدى الحقيقة التي لا تريد السلطة الاعتراف بها.. أن الخراب أخذ يمشي في الشوارع، وأن الدولة التي تُسدَّدت عليها البندقية، لم تعد قادرة على حماية نفسها، فكيف تحمي شعباً؟

2 .
إن اللسان الأول، لسان الدولة، يخاطب الداخل بـ “نحن بالجيش والدولة” يرفع راية الاستقرار وينتشر كخطيبٍ في مولد.، لكن الرسالة تفقد صدقيتها مع كل جبهة تُفتح، وكل حيٍّ يُشرد، وكل بيت يُدمّر.. الناس التي كانت تصغي إلى الكلام، عرفت بعد سنوات أنه لا يكفي أن تُعلَن البيانات، إذا ظلت الأوامر تتبعها دبابات القصف، ونزوح الأطفال، وتوسّع رقعة الفقر.. فتلك كانت لحظة الانتقال من الوطن كمشروع إلى الوطن كجوعٍ وفوضى .. وهنا تنهار السياسة حين تُقاس بوعود لا تتجاوز حنايا الكلام.

3 .
أما اللسان الآخر، فهو لسان الرجل الذي يرى أن العالم يخنق الحكم من الخارج، وأن الجبهات تنهش من الداخل، فيتحول التصريح إلى همس في أروقة ضيقة، ويتحوّل الإعلان إلى مرونة في الحسابات.. يتحدث أحيانًا عن “ضغوط دولية” و “مؤامرات” كما لو الوطن مسجون بين أيدي قوى لا تُرى، وليس كما لو أن قدره بيد من قاد سلاحه إلى أرضه.. هذا اللسان يتماهى مع الخوف، لا مع القرار؛ يتماهى مع صدارة الإعلام، لا مع مؤسسات الدولة؛ يتماهى مع الدفاع عن الذات، لا مع مسؤولية القيادة.. والمفارقة أن لسان الحرب هذا بات يُسمع أكثر من لسان الدولة، لأن الواقع صار يُجبر الجميع على الاعتراف بأن الكلام لم يعد مصدر ثقة.

4 .
ثم يأتي ما خفي من عبء.. الولايات المتحدة تشرع في إسقاط تهمة “الكيماوي” على مسار الحرب في السودان، فالتلويح والعقوبات المحتملة يُعيدان رسم أمن الخرطوم العالمي نحو عنوان الحرج الدبلوماسي.. ملف الكيماوي ليس تهمة عادية تُضاف إلى قائمة انتهاكات .. بل هو تهمة تتعالى فوق الحدود، وتغيّر قواعد اللعبة.. حين تُهدّد دولة كبرى بهذا الملف، فإنها لا تستهدف ذكوراً أو صف ثانٍ، بل تستهدف رأس القائد ذاته، وتستهدف الدولة ككيان.. وهكذا يخرج الصراع المحلي من دائرة المواجهات الداخلية إلى دائرة حسابات إقليمية ودولية.. هكذا يتحدث علم السياسة وتكتيك الحصار.

5 .
احتمال أن تُعدَّ المعركة في ميدان المواجهة ميدانية وجودية، وتحول الضغوط الاقتصادية والدبلوماسية إلى سياج حول القيادة، هو ما يجعل “السودان القائد” في موقع هشّ.. فالقوى الدولية لا تهتم فقط بمآسي الحرب كما هو اوضح، بل بالملفات التي تخرج الحرب من سياقها المحلي إلى سياق يهدد الأمن الإقليمي أو المصالح الخارجية.. وما لم يفهم القائد (صاحب اللسانين) أن ملف الكيماوي ليس ورقة ضغط بل مدخل لخنق سياسي، ستظل خطايا الحرب تُحسب عليه، وسيظل الشك يغلف الداخل قبل الخارج.

6 .
والبرهان، في هذا المشهد، ليس غافلاً.. هو يدرك ” ربما أكثر من غيره ” أن التهديد الخارجي ليس كلاماً فارغاً.. هو يسمع صدى التحذيرات، يرى ارتجافات السياسات الدولية، يدرك أن بعض رفقاء الأمس ربما استبدلوا الوقوف جانبه بصياغة بخلفية ائتلافات جديدة.. لكنه أيضًا يجد نفسه محاصرًا بين أمكنة لا تُشبه بعضها ..” بين جبهات مفتوحة، وبين زوايا دبلوماسية مغلقة، وبين شعب تحت الماء، وبين جهاز أُرهق من القتال”.. وهذا الحصار السياسي والنفسي يجعل الرجل في دوامة لسانين: خطاب خارجي، وصراع داخلي، وعجز عن الجمع بينهما.

7 .
ومع مرور الأيام، تتبدّل خارطة الأرض: مناطق تُفقد، مدن تُخلى، خدمات تنهار، إنسان يحسب على الفقر.. جهاز الدولة الذي يُفترض أن يعيد ترتيب الأمور، يبدو اليوم كجهاز تابع لمراكز قوة لم تُقدَّر حساباتها من البداية.. وهنا تتضح مأساة القيادة: أن يقود حرباً لا تملك القدرة على الانتصار فيها، وأن يعلن بناء دولة في وقت تنهار فيه مؤسسات الدولة يوميًا.. فحين تصبح كل خطوة انتخابًا بين سوءين، ويصبح كل وعد تذكرة إلى مزيد من الجرح، يتحول القائد (وإن بدا قوياً في خطابه) إلى رهينة ظرفه.

8 .
في هذا السياق، يتبلور السؤال الأكبر: (إلى أين يتجه هذا الرجل؟ ..هل الطريق أمامه هو الاستمرار في لعبة التناقض بين الخطاب والحرب؟ .. أم أن بداية الاعتراف بأن لسانين لا يصنعان دولة قد تفتح أمامه مخرجًا؟ ) ..الخيار ليس سهلاً. إنه لا يختار بين سياسة أو حرب فحسب، بل بين شرعية تُبنى على تضحيات شعب، وبين رئاسة تُبنى على صفقات وهم. والحقيقة أن الشعب لا ينظر اليوم إلى الورق، بل إلى الواقع.. إلى المأوى، إلى الخبز، إلى الأمان؛ وإلى الأمل الذي لم يعد يُشترى ببيان.

9 .
ولذلك، دائما ما نقول: إن استمرار الرجل في هذا المسار يعني بالضرورة أن العاصفة ستأخذ أهل البلاد معه، لا فقط بصواريخ الحرب، بل بصمت السياسة وتخاذل القرار.. والعاصفة التي لا تُرى نهايتها ليست عدوَّ خارجي فحسب، بل هي تساؤل داخلي ينهش الثقة ببطء، يفتك بالأمل خفية، ويُسقط الدولة برفق كما يُسقط ضوء قنديل قادم من تقادم خزانته.
وفي هذه اللحظة — اللحظة التي تتداخل فيها الألسن، وتتشابك فيها الحسابات، وتغرق فيها البلاد في صمت أهل السياسة — يحق للمواطن للسوداني أن يسأل:”هل بقي في هذا الرجل ما يُنقذ السودان؟ .. أم أن لسانين لا يصنعان وطنًا، وأن الأوهام لا تبني مؤسسات، وأن الحرب لا تلد سلامًا، وأن البلاد تستحق أن يُنظر إليها بعين الحقيقة، لا بعين المزاودات، ولا بعين وهم القيادة؟ إنت لله ياخ.. الله غالب.

الوسومأحمد عثمان جبريل البرهان لسان الدولة نحن الجيش والدولة وسط العاصفة يتحدث بلسانين

مقالات مشابهة

  • أزمة طائرات إيرباص مع العواصف الشمسية.. إليك الإجابة عن أبرز الأسئلة
  • ترامب يكشف نتائج فحصه بالرنين المغناطيسي
  • سعر أشعة الرنين المغناطيسي على الركبة: دليل شامل لفهم الفحص والعوامل المؤثرة فيه
  • البرهان يتحدث بلسانين وسط العاصفة
  • أكثر من 600 قتيل جراء العواصف والحرائق بدول آسيوية
  • صناعة الخـوف قراءة في رواية «الرّوع» لـ زهران القاسمي
  • عاجل.. جوتيريش يدعو لإنهاء الاحتلال غير المشروع للأرض الفلسطينية
  • إدارة الهجرة الأمريكية تضع آلاف المقيمين من « 19 دولة » في دائرة الخوف
  • كما تحدث عشرون قبلي.. مجموعة قصص تنسج خيوطها فاطمة الحوسنية
  • ثقب عملاق يتجاوز 5 ملايين كيلومتر مربع.. ماذا يحدث فوق الأطلسي؟