لجريدة عمان:
2025-07-13@00:13:35 GMT

بُوصلة الأخلاق في المجتمعات الإنسانية

تاريخ النشر: 16th, March 2024 GMT

أطلَّ علينا رمضانُ قبل عدة أيام بمشاعره الروحية المتفرّدة، إلا أن مشاعره هذه المرة ممتزجة مع مشاعر الحزن المتعلقة بأحداث غزة والحرب الظالمة التي يشنها الكيان الصهيوني على أهلها، ومع فظاعة هذه الأحداث التي طال أمدها يعتري المشهد فقدان المجتمعات الإنسانية المتمثلة في مؤسساتها السياسية النافذة لبُوصلتها الأخلاقية التي يُفترض أنها تلين لمشاهد الظلم والقهر التي يتعرّض له أهل غزة، وهنا تتضح معادلة السياسة العالمية التي تنتهج منهج المصلحة الضيّقة مع فقدانها لبُوصلة أخلاقها المعنية بحماية الإنسان وكرامته، وتتبين عبر هذه المعادلة ماهية النظام العالمي الفاقد لقيمه وأخلاقه، والمتمسك بزيفه المفضوح الذي لم يعدْ يخفى عن أيّ إنسان متابع لأحداث الظلم والقتل وسقوط الأخلاق.

سقطت أقنعة كثير من الدول الغربية، وفي مقدمتها حكومة الولايات المتحدة الأمريكية المتمثلة في أنظمتها السياسيّة النافذة وليس غالبية أفراد شعوبها الذين يتألمون لمشاهد الظلم الذي يمارسه الكيان الصهيوني ودعم مؤسساته السياسية والعسكرية له، ولا تخفى مشاهد انتفاض هذه الشعوب الغربية على كياناتها السياسية الداعمة للكيان المحتل العنصري؛ لنرى نتائج انتفاض شعوب الغرب المنبثق من وعي بواقع الهيمنة الصهيونية التي تخنق العالم بممارستها الظالمة.

لا أكتب هذا المقال ليكون بمثابة المحتوى الكتابي المتكرر الذي لا يأتي بجديد فيما يخص ساحة أحداث غزة وحربها، ولكن أكتبه ليكون بمثابة رسائل -حتى لو تكررت- تفيض بها المشاعر لتؤكد بقاء القضية، وتذكّر بأن بُوصلة الأخلاق في المجتمعات الإنسانية في خطر محدق، وتذكّر القارئ -أينما كان- بزيف القيم الغربية -السياسية- الفاقدة للأخلاق والإنسانية؛ إذ تؤكد لنا أحداث التاريخ القديمة والمعاصرة وأحداث زمننا الحالي أن الفلسفة الغربية المعتمدة في مؤسسات الغرب السياسية فاقدة لعنصرها الأخلاقي، وهذا ليس بمستغرب في ظل فقدان هذه الأنظمة لعنصرها الديني الذي يعتبر المكّون الرئيس للعملية الأخلاقية وأطرها العليا، وخير من أشار إلى هذه الفجوة التي جعلت من مؤسسات الغرب السياسية عالقة في وحل الأزمة الأخلاقية الفيلسوف المغربي طه عبدالرحمن الذي أكد على ضرورة الدين لتعزيز مبدأ الأخلاق في أي توجه فلسفي سياسي. رغم أزمة الأخلاق وفقدانها في مؤسسات الغرب السياسية يذكّر هذا المقال بوجود أحرار العالم -بما فيهم الشعوب الغربية- بتعدد أديانهم ومشاربهم الفكرية والسياسية وأعراقهم، فهم يشكلون جميعا صِمام أمان لوقف انحراف البُوصلة الأخلاقية التي توشك على الانحراف المفرط؛ فتدمر المجتمعات الإنسانية وتعبث بأمنها وحياتها. هذا المقال رغم ما يحتويه من إنشاء عاطفي إلا أنه لا يغادر حيّزه العقلاني لالتحامه بواقعٍ مشهود؛ ليعكس رأي الكاتب ورأي كل إنسان يقيم للإنسانية وزنًا؛ فيذكّر بتاريخ الغرب الاستعماري والاستيطاني؛ فلا يمكن مسح آثار التاريخ وشهاداته في جرائم الإبادة التي حلّت -مثلا- بسكان أمريكا الأصليين -الهنود الحمر-، ومهما بُذلت المحاولات لطمس هذه الحقائق المؤلمة وإطفاء نارها المشتعلة في قلوب من تبقّى من أجيال هذه الأمم المظلومة، فقد اطّلعت قبل سنوات عدّة على كتاب لمؤلف أمريكي «James W. Loewen» عنوانه « Lies My Teacher Told Me: Everything Your American History» الذي يمكن ترجمته بالعربية إلى «أكاذيب أخبرني بها معلمي: كلّ شيء عن تاريخك الأمريكي» الذي ينضح بحقائق كثيرة عن الجانب المظلم للتاريخ الأمريكي وأخطره عن التزييف الممنهج لبعض مفاصل التاريخ الأمريكي القاتم -وهذه حقيقة أكدت عليها مصادر كثيرة، ولست أول من يظهرها؛ فلم تعدْ مخفية-؛ لإظهار جانب مشرق -مزيّف- يخفي حقيقة أحداث للتاريخ الأمريكي الذي فقد مبادئه الأخلاقية وأضّر بالمبادئ الإنسانية -المتمثلة في الحرية والعدالة- التي نادى بها مؤسسو الولايات المتحدة الأمريكية التي لم تتجاوز حدود التنظير؛ إذ لم يسجلِ التاريخ عن تطبيق واقعي لهذه المبادئ، وأضاف مع طغيانه بالمجتمعات الإنسانية طمسه للحقائق، ومحاولته إظهار قيم نظرية لا يجيد ممارستها. أليست حرب الولايات المتحدة الأمريكية على أفغانستان خيرَ شاهد في عصرنا منذ بداية الألفية الثانية على معنى الظلم والدمار الذي مارسته أمريكا وقبلها فيتنام وما لحقها من ظلم؟ أَنَسي العالم قنبلة هيروشيما النووية وما آلت إليه بشاعة آلة القتل الأمريكية؟ أليس حربها على العراق وتدميره -بعد سنتين من حرب أفغانستان- دليلا آخر يمكن أن نضيفه إلى تاريخ أمريكا المعاصر؟ ألا يكفي ما نراه من دعم مباشر للكيان الصهيوني في حرب الإبادة التي يمارسها على غزة وأهلها؟ بعد كل هذه الدماء النازفة من الأطفال والنساء وكبار السن والأنفس التي أُزهقت بواسطة آلة القتل الأمريكية التي تمنحها للكيان الصهيوني تأتي الحكومة الأمريكية لتعلن عن خطة لبناء ميناء في غزة لغرض المساعدات الإنسانية لأهل غزة -كما تدّعي-، أيعقل أن تَصْدُقَ في نواياها الإنسانية في حين أنها ما تزال مصرة في اللحظة ذاتها على الاستمرار في دعم الاحتلال، وممارسة «فيتو القمع» المانع لأيّ توقف للحرب؟ ولتكن في طيات هذه المقالة رسالة أخرى إلى الولايات المتحدة الأمريكية بعد الرسالة التي نشرها الأستاذ يحيي العوفي في جريدة عُمان قبل عدّة أسابيع -دون أن ننسى دور الحكومة العُمانية ورسائلها المستمرة الداعية لنبذ الظلم ودعم القضية الفلسطينية التي تبعثها عبر قنواتها المعنية مثل وزارة الخارجية- لتُذكّرَ مرة أخرى بوجود الانفصال المطلق بين المبادئ التي تأسست عليها الولايات المتحدة الأمريكية وبين ممارستها الحالية التي تهدد استقرار الشعوب والعالم أجمع.

لا يمكن أن أجد لهذا المقال نهاية لولا حدود الكلمات وعددها؛ إذ إن المقال يعبّر عن جزء يسير من مكنونات تغلي في النفس الإنسانية، فتطلق العبرات والمطالبات بوقف هذه الكارثة الإنسانية التي تخالطها صرخات الأطفال وأحلامهم المسلوبة، فتظل الأسئلة تتوارد بلا توقف لنسأل أين تتجه المجتمعات الإنسانية مع فقدان ساستها الكبار للقيم الأخلاقية؟ أين يمكن أن تتحقق العدالة والكرامة الإنسانية في ظل طغيان الظالم وضربه بكل قوانين الإنسانية عرض الحائط؟ رغم كل هذا الألم الذي يعتري نفوسنا، أرى -وفقا لقانون الحياة- أن الأمل ينبثق من البلاء، وأن الحياة تستأنف وجودها رغم الأسى، وسيعقب أحداث غزة بعث جديد للحضارة الإنسانية ومشروعها الأخلاقي.

د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الولایات المتحدة الأمریکیة المجتمعات الإنسانیة هذا المقال

إقرأ أيضاً:

المرأة التي زلزلت إسرائيل وأميركا

#سواليف

فرض #العقوبات من قبل إدارة #ترامب على #فرانشيسكا_ألبانيزي، المقرّرة الخاصة للأمم المتحدة، يُعدّ نذير شؤم لنهاية حكم القانون الدولي.

عندما يُكتب تاريخ الإبادة الجماعية في #غزة، ستكون فرانشيسكا ألبانيزي – المقرّرة الخاصة للأمم المتحدة – واحدة من أكثر الأصوات شجاعة ووضوحًا في الدفاع عن العدالة والتمسّك بالقانون الدولي، وهي الآن تتعرض لعقوبات من إدارة #ترامب على خلفية قيامها بدورها في رئاسة المكتب الأممي المكلّف برصد وتوثيق #انتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها #إسرائيل بحق #الفلسطينيين.

تتلقى ألبانيزي تهديدات بالقتل بشكل منتظم، وتتعرض لحملات تشويه مُحكمة تقودها إسرائيل وحلفاؤها، ومع ذلك فهي تسعى بشجاعة لمحاسبة كل من يدعم ويشارك في استمرار الإبادة الجماعية.

مقالات ذات صلة القسام تفجر ميركافا وسرايا القدس تقصف بالصواريخ مقرا عسكريا 2025/07/11

وهي تنتقد ما تسميه “الفساد الأخلاقي والسياسي للعالم” الذي يسمح باستمرار هذه الإبادة. وقد أصدر مكتبها تقارير مفصّلة توثّق جرائم الحرب في غزة والضفة الغربية، من بينها تقرير بعنوان “الإبادة كوسيلة للإزالة الاستعمارية”، أُعيد نشره كمُلحق في كتابي الأخير إبادة متوقعة.

أبلغت ألبانيزي منظمات خاصة بأنها قد تكون “مسؤولة جنائيًا” لمساعدتها إسرائيل في تنفيذ الإبادة في غزة. وأعلنت أنه إذا صحّ ما نُقل عن رئيس الوزراء البريطاني ووزير الخارجية السابق ديفيد كاميرون بأنه هدّد بقطع التمويل وسحب بريطانيا من المحكمة الجنائية الدولية بعد إصدارها مذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت، فإن ذلك قد يُعرّض كاميرون ورئيس الوزراء البريطاني السابق ريشي سوناك للملاحقة الجنائية بموجب نظام روما الأساسي، الذي يجرّم محاولات منع محاكمة مرتكبي جرائم الحرب.

ودعت ألبانيزي كبار مسؤولي الاتحاد الأوروبي إلى مواجهة تهم التواطؤ في جرائم الحرب بسبب دعمهم للإبادة الجماعية، مؤكّدة أن أفعالهم لا يمكن أن تمرّ دون عقاب. وكانت من أبرز الداعمين لأسطول “مادلين” الذي سعى لكسر الحصار عن غزة وتوصيل المساعدات الإنسانية، وكتبت أن القارب الذي اعترضته إسرائيل كان يحمل، إلى جانب الإمدادات، رسالة إنسانية للعالم.

في أحدث تقاريرها، أدرجت ألبانيزي أسماء 48 شركة ومؤسسة، منهاPalantir Technologies Inc.، Lockheed Martin، Alphabet Inc. (Google)، Amazon، IBM، Caterpillar Inc.، Microsoft، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، إضافةً إلى بنوك وشركات تأمين وعقارات وجمعيات خيرية، كلّها – بحسب التقرير – تنتهك القانون الدولي وتحقّق أرباحًا بمليارات الدولارات من الاحتلال والإبادة الجماعية للفلسطينيين.

وزير الخارجية ماركو روبيو أدان دعم ألبانيزي للمحكمة الجنائية الدولية، والتي فُرضت عليها وعلى أربعة من قضاتها عقوبات أميركية العام الماضي لإصدارهم مذكرات اعتقال بحق نتنياهو وغالانت.

وانتقد روبيو ألبانيزي لمحاولاتها محاكمة مواطنين أميركيين أو إسرائيليين يدعمون الإبادة الجماعية، واعتبر أنها غير صالحة لمنصبها كمقرّرة خاصة، متّهمًا إياها بأنها “تروّج لمعاداة السامية بلا خجل، وتدعم الإرهاب، وتُبدي احتقارًا صريحًا للولايات المتحدة وإسرائيل والغرب”. ومن المتوقع أن تؤدي العقوبات إلى منع ألبانيزي من دخول الولايات المتحدة، وتجميد أي أصول تمتلكها هناك.

الهجوم على ألبانيزي يُنذر بعالم بلا قواعد، عالم يُسمح فيه لدول مثل الولايات المتحدة وإسرائيل بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية دون أي مساءلة أو رادع.

هذا الهجوم يكشف عن الخدع التي نمارسها لخداع أنفسنا والآخرين. إنّه يعرّي نفاقنا وقسوتنا وعنصريتنا. ومن الآن فصاعدًا، لن يأخذ أحد على محمل الجد تعهّداتنا المعلنة بالديمقراطية وحرية التعبير وسيادة القانون وحقوق الإنسان. ومن يستطيع لومهم؟ فنحن لا نتحدث إلا بلغة القوة، بلغة الهمج، بلغة المذابح الجماعية، بلغة الإبادة.

قالت ألبانيزي في مقابلة أجريتها معها أثناء مناقشة تقريرها “الإبادة كإزالة استعمارية”:

“أعمال القتل، القتل الجماعي، التعذيب النفسي والجسدي، الدمار، خلق ظروف حياة لا تسمح لأهل غزة بالبقاء – من تدمير المستشفيات، والتهجير القسري الجماعي، والتشريد الجماعي، بينما يتعرّض الناس للقصف اليومي، ويُجَوّعون- كيف يمكننا أن نقرأ هذه الأفعال بمعزل عن بعضها؟”

الطائرات المُسيّرة المسلحة، الطائرات المروحية، الجدران والحواجز، نقاط التفتيش، الأسلاك الشائكة، أبراج المراقبة، مراكز الاحتجاز، الترحيل، الوحشية والتعذيب، رفض منح تأشيرات الدخول، الحياة الشبيهة بالفصل العنصري التي يعيشها المهاجرون غير النظاميين، فقدان الحقوق الفردية، والمراقبة الإلكترونية – كلّ ذلك مألوف للمهاجرين اليائسين على الحدود المكسيكية أو الساعين لدخول أوروبا، بقدر ما هو مألوف للفلسطينيين.

هذا ما ينتظر من سمّاهم فرانز فانون بـ”معذّبي الأرض”.
أمّا من يدافعون عن المظلومين، كألبانيزي، فسيُعاملون كالمظلومين أنفسهم.

مقالات مشابهة

  • هل تملك الحكومه شيئا من الأخلاق؟
  • بوراص: الخطة الأمريكية في ليبيا لن تتجه للإطاحة بالأجسام السياسية القائمة
  • الأمم المتحدة: نقص الوقود في غزة يهدد بوقف العمليات الإنسانية
  • المرأة التي زلزلت إسرائيل وأميركا
  • الأمم المتحدة: دورنا في ليبيا يتجاوز الشأن السياسي ليشمل دعم المجتمعات  
  • ارتفاع ضحايا المساعدات الإنسانية في غزة إلى 798 شخصًا
  • الأمم المتحدة: ارتفاع ضحايا المساعدات الإنسانية في قطاع غزة إلى 798 شخصًا
  • ما الذي يحرك الطلب على المشاريع العقارية التي تحمل توقيع المشاهير؟
  • ترامب: الناتو سيدفع ثمن الأسلحة الأمريكية التي سترسل إلى أوكرانيا
  • الأمم المتحدة تحذر من تفاقم الأزمة الإنسانية في اليمن بصورة غير مسبوقة