شعوبنا تُحسن الأقوال وتُسىء الأفعال
تاريخ النشر: 3rd, April 2024 GMT
يقول وليم شكسبير «الأفعال دائما أبلغ من الأقوال. صدق ما تراه، وانس ما تسمعه». وهو قول بليغ يُلخص تواريخ أمم شامخة سبقت بواقعها ما كُتب عنها. لكن يبدو لأننا فى عالم آخر، فنحن نُفضل الكلام على العمل تفضيلا. وفوق راياتنا تعلو دائما أصواتنا.
وإذا كان الميكروفون صناعة غربية بحتة، إلا أنه مُعتمد ومُفضل ومحبوب فى بلادنا، لأنه يعلو ويرتقى بصوت مستخدمه فوق الجميع، وهو ما قد يُمثل تحقيقا لطموحات فردية بالتسيّد والعلو فى مُجتمعات لديها شعور طاغ بالانحسار والتقزم.
ليس هناك تحليل موضوعى لتغلب الأقوال فى خريطتنا، ربما لأن الشعر هو ديوان العرب، وهو الذى عوّدنا على أن تخليد أى منجز لأى إنسان أساسه الكلمات، وأنه لا عبرة لإنجازات عظيمة دون تدوين وذكر. لا إجابة واحدة، وربما لأن عصور الظلام والهزائم والتبعية رسّخت هذه الفكرة بشكل أعمق، فصار الأصل فى بلادنا هو الكلام، وأصبح الفرع أو الهامش هو مضمون المُنجز.
يُمكن الشعور بالأمر بوضوح بمراجعة سريعة لأرشيف الصحافة العربية عما حققته الحكومات السابقة فى كثير من الأقطار. فلأن الكتابة كانت دائما خاضعة للسلطة، فإن كل عصر ارتقى بأصحابه لدرجة تجعلنا نندهش أننا مازلنا متأخرين رغم كل ما تحقق وفقا لهذا الأرشيف. ففى بعض الصحف فى الستينيات نقرأ مانشيت لصحيفة عربية يقول «تقدمنا أذهل العالم»، وآخر يقول: «وصلنا إلى الفضاء». ويبدو أن المبالغات القولية صعدت بالأمة العربية شعوبا ونخبا إلى عليين ثم هوى كل شىء فى لحظة حقيقة صادمة عندما حدثت مأساة يونيو1967.
تلك الحظة الفارقة دفعت مبدعا مفكرا مثل الشاعر العظيم نزار قبانى (1923-1998) والذى تحول حسب قوله ساعة الهزيمة الأثقل فى يونيو 1967 «من شاعرٍ يكتب شعر الحب والحنين إلى شاعرٍ يكتبُ بالسكين» أن يحاول استقراء ما حدث فى هذه اللحظات الصادمة. وكان مما رآه وقتها أن الهزيمة الكبرى التى لحقت بالعرب كان وراءها سبب مهم وعميق هو أننا أمة من الشعارات والكلام، وقد عبّر عن ذلك فى قصيدته «هوامش على دفتر الهزيمة» بقوله:
«لقد خسرنا الحرب مرتين. لأننا ندخلها/ بكل ما يمتلكه الشرقى من مواهب الخطابة/ العنتريات التى ما قتلت ذبابة/ لأننا ندخلها/ بمنطق الطبل والربابة».
ثم هو يراهن على القانون المنطقى العقلانى بأنه «بالناى والمزمار/ لا يحدث انتصار».
فالانتصار يتطلب تأهبا وتجهزا وإعدادا، وعملا، ولا يُمكن أن تتحقق الأمانى لأننا ندعو الله فقط، دون تخطيط وعمل. فكما قال نزار فإننا:
«نجعل من أقزامنا أبطالا/ نجعل من أشرافنا أنذالا/ نرتجل البطولة ارتجالا/ نقعدُ فى الجوامع/ تنابلا كُسالى/ نشطُرُ الأبيات أو نؤلف الأمثالا/ ونشحذ النصر على عدونا/ من عنده تعالى».
***
فى المعارك الكبرى أحلام لا حدود لها. لذا تكبر الكلمات لتصبح أضخم من الجيوش والعتاد. وهكذا ودائما كان صوت العرب عاليا، زاعقا، وكانت شعاراتهم دائما أكبر من حدود الواقع، ولم يكن غريبا مثلا أن نقرأ فى كتاب عبد الرحمن الجبرتى «التراجم والآثار» عن واقع المصريين والمماليك عندما علموا بقدوم نابليون بونابرت وجنوده، وكيف كانت شعاراتهم وعباراتهم الخيالية تصل إلى القول بأنهم سيقيمون من جثث الأعداء تلالاً، بل إنهم سيلعبون بجماجمهم لعباً.
ويذكرنا ذلك بمشهد آخر حديث عندما أطلق محمد سعيد الصحاف، وزير الإعلام العراقى فى نهاية حكم صدام حسين على الأمريكيين وحلفائهم وصف «العلوج» تهوينا وازدراء، وكأن الأمر محسوم مع هؤلاء الجبناء حتماً.
وقبلها بسنوات أفلتت من رئيس منظمة التحرير الفلسطينية أحمد الشقيرى عبارة مبالغة عقب إغلاق جمال عبد الناصر مضايق تيران فى وجه الملاحة الإسرائيلية فى مايو 1967 قال فيها «سنلقى بإسرائيل فى البحر وسنلقى بمن وراءها فى البحر»، والتقط المذيع المفوه أحمد سعيد العبارة ورددها فى إطلالاته الإذاعية حتى صارت حلما ممكنا وشائعا لدى المصريين والعرب. لكن بتعبير المفكر المصرى الدؤوب جمال حمدان فيما بعد « فإن إسرائيل هى التى ألقت بالعرب إلى الصحراء»!
الحوادث عديدة، والأفعال متشابهة والانتصار الوحيد فيها كان للكلام الذى لم يزد عن كلام. مجرد تهديد أجوف لا يستند لمنطق أو عقل. لقد كنا دائما نتصور أننا قادرون على إلحاق الهزيمة بأعدائنا بالكلمات. كنا نعتقد أننا سنكسبهم بالكلام، لأننا يستحيل أن ننتصر عليهم بالفعل. هل لأننا لا نمتلك العدة المناسبة؟ ليس فقط، وإنما نحن لا نمتلك الثقة والإرادة لتجهيز هذه العدة، كما أننا - وضمير المتكلم هنا يعود على النُخب العربية - ليس لدينا رغبات حقيقية فى خوض معارك. لذا فإن كثيراً من البطولات الكبيرة مجرد بلالين مُنتفخة كذباً، وكلاماً.
***
الشعارات فضفاضة، مؤثرة، لكنها تقود الجماهير، ذلك القطيع الذى يقف بكلمة ويجلس بكلمة ويغضب بكلمة ويفرح بكلمة ويسير وراء الخطباء المفوهين إلى أبعد مما يتصورون.
قبل الألفية وبعد استقلال الدول العربية عن الاستعمار ولدت مدارس الشعارات شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا، وفى كل مكان. حكمتنا الشعارات لسنين طوال، ربما حتى بدايات الألفية الثالثة، عندما فتحت التكنولوجيا الحديثة طاقات نور على عوالم أخرى مختلفة، تؤمن بالعقل وتنظر للغد.
أتذكر شعارا عظيما رآه كل مَن سافر إلى بغداد فى السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي. كان الشعار يقابله فور أن يحط فى مطار صدام الدولي. لافتة كبيرة وواضحة لكل ذى عين تواجه كل ضيف، مدونا عليها عبارة: «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة». وكان من الموجع أن كثيرين عاشوا الحلم، واقتنعوا به تمام الاقتناع، لكنهم لم يروا أبدا أمة عربية واحدة، ولم يتفق أحد على رسالة واحدة حتى تصبح خالدة. فالوحدة العربية الحقيقية لم تقم سوى فى الوجع والعذاب.
لكن المفزع فيما يخص هذا الشعار أن البلد المُروج والمؤجج له وهو عراق البعث، أو عراق صدام حسين كما يُحب البعض تسميته هو البلد ذاته الذى استباح بقواته دماء أشقائه وجيرانه فى الكويت سنة 1990 فى واحدة من مآسى التاريخ العربى الحديث، ما جعل شاعرا معروفا بقوميته مثل عبد الرحمن الأبنودى يُطلق على غزو الكويت مصطلح «الاستعمار العربى».
***
على مدى أزمنة حاول النابهون العرب كسر هذا الداء، ودحضه. جاء الإسلام فندد بالمنافقين ومن لا يطابق كلامهم أفعالهم، وعاب على الشعراء مبالغاتهم فى تضخيم الصغائر وتعظيم التوافه، وقاوم الراشدون، والأكفاء أكاذيب الكلام بالفعل، والإنجاز العملى فتولدت مقولة أبى تمام الراسخة بأن «السيف أصدق أنباء من الكُتبِ»، وصارت مثلا لشحذ الهمم وتحفيز الناس للفعل.
وكتب كثيرون منهم الجاحظ، وابن المقفع، وابن رشد، وابن خلدون جميعا عن الأفعال قبل الأقوال.
لكن مع الوقت غرقنا فى ظُلمات الاستبداد، وانغرسنا فى كبوات التردي، وغاب العلم، وانزوى أهله، وصار الهتيفة مُفضلين لدى أصحاب الحل والعقد.
وهكذا جرفتنا القرون الوسطى، واعتادت بلادنا الانكسارات فى أزمنة بعد أخرى، وانسحقت شعوبنا، واستعمرتنا بلاد الشمال، وغابت عقولنا تحت ركام من الجهل والخرافات، فعُدنا نُنشد انتصاراتنا فى الكلام فقط..
والله أعلم.
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: مصطفى عبيد
إقرأ أيضاً:
عندما يتحوّل الملعب إلى وطن (2)
د. ناهد محمد الحسن
تمهيد:
في الجزء الأول من هذه السلسلة، حاولنا قراءة المشهد الذي أحدثه المنتخب السوداني في بطولة كأس العرب، وكيف تحوّل الملعب إلى «وطن مؤقت» يجتمع فيه السودانيون في الخارج بحثاً عن لحظة أمان وهوية وانتماء، في زمن تفككت فيه الخرائط واشتد فيه تهديد الوجود الوطني. استند التحليل إلى نظريات الهوية الاجتماعية، والذاكرة الجمعية، والجماعات المتخيّلة، لنفهم كيف تصبح المباراة طقساً نفسياً يعيد للناس بعض ما سلبته الحرب منهم. يمكنكم الاطلاع على الجزء الأول من المقال هنا: https://share.google/yHMqkkXOp9p38RdSn
اليوم نواصل محاولة القراءة، ولكن من زاوية جديدة: لماذا أحدثت هذه المشاهد أيضاً لدى البعض غضباً، وسخرية، وتعليقات مريرة؟ ولماذا تحول الاحتفال إلى ساحة اتهامات، ومطالبات بالعودة للوطن، واتهام للجماهير بأنها “تستعرض” بدل أن “تناضل”؟ ولماذا خرج الناس من الملعب بمجرد استشعار الهزيمة و قبل انتهاء المباراة، بكى بعضهم و انهار البعض؟
لماذا يجرح البعضُ الفرحَ، حين يرى آخرين يحتفلون؟
وفقا لنظرية بيك المعرفية في علم النفس فإن المشاعر، الأفكار، الجسد، والسلوك بينهما علاقة وثيقة وتأثيرات متبادلة. فإذا مثلا أرسلت رسالة الى شخص ولم يرد وفكرت في أنه تجاهل رسالتك عمدا فإن هذه الطريقة في التفكير تجعلك تشعر بالضيق، الحزن وربما الغضب. وقد تدفعك هذه المشاعر والأفكار ربما لأن تتحدث عنه بسوء، تتجاهله ذا حدثك او تكون عدوانيا. لكن إذا فكرت ان هذا الشخص مشغول او ربما هو نائم او خارج المنزل او لم يجد وقتا ليرد فستتلاشى المشاعر السالبة وردود الفعل المصاحبة لها. هذا مثال شديد التبسيط فقط لنفهم أحيانا كيف نفكر ولماذا نشعر بهذه الطريقة او نتصرف بهذه الطريقة من منظور هذه النظرية التي تربط هذه التباينات في الشعور والمواقف الى حد كبير بما يعرف بالمعتقد المركزي، والذي تشكل عند الفرد منذ الطفولة وعبر تجارب تراكمية شخصية شكلت نظرته لنفسه وللآخرين وللعالم. قد يقل تقديره لذاته فترتفع حساسيته للرفض حقيقة كان او متوهما وتقل مناعته في مواجهته ان كان حقيقيا. وربما أيضا تعلمه تجاربه المتراكمة ان الآخرين لا يمكن الوثوق بهم والعالم مكانا غير آمن وغير ودي. لذلك يساعدنا التوقف دائما والتفكير قبل القيام بالفعل دائما لمراجعة الذات والمواقف على ان نتجنب الوقوع في ظلم أنفسنا وظلم الآخرين. وبالتالي تعجل الحكم على حالة الاحتفال في الملعب كأنها عدم اكتراث بمأساة الحرب في السودان، أو فهم ردود أفعال بعض الناس السالبة على انها غيرة، حسد او لها دوافع سياسية ربما يبتسر او يشوه الحقيقة. وسأحاول هنا ان أوسع دائرة الفهم والتشخيصات لنساعد أنفسنا على فهم ذواتنا وفهم الآخرين.
لا يمكن فهم التعليقات الغاضبة أو الساخرة على مشاهد الجماهير السودانية دون أن نرى الجرح الداخلي الذي تحمله. فالحرب لا تقتل البيوت فقط؛ إنها تخلخل الإحساس بالعدالة. من بقي داخل الوطن يعيش خوفاً وفقداً وإرهاقاً مستمراً، ويرى وطنه ينهار أمام عينيه. هذا يجعل مشاهد الاحتفال – ولو كانت دقيقة – تُقرأ لا كفرح جماعي، بل كنوع من (عدم الاكتراث). وهذه المشاعر كثيراً ما تحجبها اللغة المباشرة، فتخرج على هيئة: “ارجعوا وساعدوا في بناء الوطن”،“تتباهون بملابسكم ونحن نحترق هنا، “أين كانت وطنيتكم حين احتاجكم البلد؟”.
علم النفس يقول إن هذه الكلمات تحمل تحتها أربعة مشاعر مركزية: (1) شعور الخذلان: الناس داخل البلد يشعرون بأنهم تُركوا وحدهم. وعندما يكون الألم شديداً، يصبح من الصعب رؤية الآخرين يعيشون لحظات استقرار حتى ولو كانت لحظات مؤقتة رمزية داخل ملعب. (2) ما يعرف بالغيرة الحزينة (Grief-based envy): ليست غيرة من النعمة، بل غيرة من النجاة. إنّها أمنية دفينة: “ليتني كنت مكانكم”. وهذه المشاعر لا يعترف بها الناس بسهولة، ولا حتى بينهم وبين أنفسهم. (3) ضيق الهوية الجمعية: حين تكون الهوية تحت الضغط، يصبح أي سلوك مختلف بمثابة تهديد. الاحتفال يبدو وكأنه خروج من الصف، وكأن الانتماء الحقيقي يتطلب المعاناة فقط. لكن الناس يختلفون في طرائق تعبيرهم عن المعاناة وعن الوسائل التي يحاولون التأقلم بها ويحققون التوازن، والا لم قال الشاعر (لا تحسبوا رقصي بينكم طربا/فالطير يرقص مذبوحا من الألم؟).. هل هنالك احتمال ان يكون الملعب، طقوسه، الطريق المفضي اليه، التجمع الكبير لأناس يتشاركون ذات الوجع مساحة آمنة لمعالجة ألم وغبن مكبوت؟ لمحاولة الشعور ولو لحظة بالوطن، الانتماء والفرح والتضامن؟ (4) آلية دفاع نفسي اسمها لإزاحة (Displacement) وهي نقل الغضب من السبب الحقيقي (الحرب – الفقد – العجز – الألم) إلى هدف أسهل وأكثر قرباً: المشجعون. لذلك لا ينبغي أن نأخذ هذه التعليقات دائماً بمعناها الحرفي، فهي غالباً صدى لألم أكبر من أن يُقال مباشرة.
لماذا يحتفل الناس أصلاً؟ هل هنالك احتمال ان الجماهير تشتاق الوطن أكثر مما تستعرض؟ الاحتفال ليس استعراضاً، بل هو – في علم النفس الاجتماعي – محاولة لإعادة إنتاج الوطن داخل القلب. والجماهير السودانية ليست “متزينة” بقدر ما هي متشبثة. فمن يعيش في الغربة يحمل شعوراً قاسياً بالذنب وبالانفصال. وعندما يظهر المنتخب، يحدث ما يلي: تتشكل “نحن” واضحة ومباشرة، فيعود الصوت الجماعي المفقود. يختبر المغترب لثوانٍ إحساس “أنا جزء من شيء أكبر”. فيستعيد الإنسان صورة وطنه كما يحبّ أن تكون، لا كما دمّرته الحرب.
هذه المشاهد ليست منافسة للداخل، بل امتداد لجرح واحد يُعبَّر عنه بطريقتين مختلفتين: من في الداخل يصرخ ألماً، ومن في الخارج يصرخ شوقاً.
هزيمة المنتخب… لماذا كانت صدمة؟ لا اعتقد أن السودانيون بكى بعضهم لمجرد ان منتخبنا الوطني خسر مباراة. لقد بَكَوا لأن الهزيمة الرياضية لامست الهزيمة النفسية التي يعيشها الوطن نفسه. هناك ثلاثة مستويات لهذا الألم:
أولاً: التماهي العالي (High Identification) في نظريات الهوية الاجتماعية، كلما كان الفريق يمثل “الأنا الجمعية” في لحظة تهديد، أصبحت الخسارة تمسّ قيمة الذات مباشرة. شعور بهزيمة ذاتية على خلفية وطن مهزوم.
ثانياً: المثالية الدفاعية (Defensive Idealization) حين ينهار الواقع في الداخل، يبحث الناس عن “فوز ما” … أي فوز. وهذا يجعل سقف التوقعات غير واقعي تجاه المنتخب الذي يعاني ظروفاً مستحيلة. لا دوري مستقر، لا موارد، لا رواتب، لا بنية تدريب، ولا بلد آمن.
ثالثاً: الهزيمة كإعادة تنشيط للألم (Pain Reactivation)المباراة ليست مجرد مباراة؛ إنها آخر مساحة يأمل الناس أن يكسبوا فيها شيئاً. وحين يخسر المنتخب، ينهار هذا الملاذ الصغير. لكن من المهم أن نتذكّر: اللاعبون أنفسهم بشر، يحملون ضغط وطن كامل فوق أكتافهم. وقد يشعرون اليوم بالذنب والخجل والحزن أكثر مما نشعر نحن. من المهم تحويل الغضب إلى تضامن، لأن الدعم بعد الهزيمة قد يبني فريقاً، بينما السباب قد يساعد في هز ثقته بنفسه وهزيمته.
لماذا نغضب بسرعة هذه الأيام؟
الحرب تغيّر الجهاز العصبي للناس، الحرب تضع الجسم في حالة Hyperarousal، أي فرط استثارة عصبية. بها اليات هرمونية وعصبية يفرز فيها هرمونات كالأدرينالين الذي ينشط عند الطوارئ ليساعد الإنسان على مواجهة الخطر بالمواجهة، الهروب أو التجمد. وعلى هذه الآلية ان تتوقف مباشرة بعد انتهاء الخطر ليستعيد الجسم توازنه الطبيعي ووظائفه المعتادة. فكيف إذا كان الخطر والتهديد مستمرا بالوجود في مناطق النزاع، المعسكرات، النزوح، اللجوء، الشتات والأفق الذي يبدو مظلما. هذا يعني ان تنهك آلية الحماية في حالة الطوارئ هذه الجسد وتؤثر فيه. وهذا يؤدي إلى ما نستشعر من غضب سريع، حساسية مفرطة للنقد، رؤية التهديد في أي اختلاف، تقلّص القدرة على التعاطف، البحث عن أي “هدف قريب” لتفريغ القهر.
ولهذا يحدث: سبّ الجماهير، إهانة اللاعبين، الهجوم على أي اختلاف في الرأي، قراءة الاحتفال كخيانة، لكن هذه السلوكيات ليست طبيعة الناس… إنها نتيجة الحرب، لا نتيجة “فساد الأخلاق”.
كيف نخرج من هذه الدائرة؟
ما حدث ويحدث يجعلنا جميعا بحاجة إلى ثلاث مهارات نفسية أساسية للنجاة من آثار الحرب (1) إعادة تنظيم العاطفة (Emotion Regulation): علينا أولا التوقف قبل الهجوم، إدراك مصدر الغضب الحقيقي، تسمية المشاعر بدقة، وعدم إسقاطها على الآخرين. (2) الترفق بأنفسنا/ رحمة النفس (Self-Compassion)فما نختبره من ضغط و من تحديات يجعلنا نشكك في انفسنا و مقدراتنا. علينا ان نفهم أن ردود أفعالنا ليست بالضرورة ضعفاً، بل نتيجة ما نختبره من وجع.
الرحمة بالذات تفتح الباب للرحمة بالآخرين. (3) توسيع دائرة “نحن” أن ندرك أن الجماهير في الخارج ليست ضد الداخل، اللاعبون ليسوا أعداء الأمة، كلنا ضحايا للحرب، كلٌ بطريقته. كما ان التضامن ليس رفاهية، بل هو أداة للبقاء النفسي.
وهو الشيء الوحيد الذي يُعيد للناس إنسانيتهم حين تحاول الحرب انتزاعها.
خاتمة: ماذا يعني أن نحافظ على إنسانيتنا الآن؟
الحرب تدفع الناس إلى الحواف: حافة الغضب، وحافة اليأس، وحافة الشعور بالعجز. لكن جزءاً من النجاة هو ألا نسمح لها بأن تنتصر على الجزء الأرقّ فينا. عندما نهتف معاً وان من ملعب بعيد، نحن لا نهرب من الحقيقة، بل نحاول حماية ما تبقى منها داخل أرواحنا. الهتاف ليس استعراضاً…والاحتفال ليس خيانة…والحزن ليس ضعفاً…والغضب ليس شراً…جميعها محاولات بشرية للبقاء حين يشتدّ الخراب. نحن شعب واحد، جرح واحد، وأمل واحد… مهما فرّقتنا الجغرافيا.
الوسومد. ناهد محمد الحسن