مغرب الأوراش الكبري وضرورة الاستثمار في الإنسان والمجتمع
تاريخ النشر: 13th, August 2024 GMT
بقلم/ التجاني بولعوالي
سبق وأن كتبنا قبل حوالي سنة أنه ينبغي أن يتمّ الإصلاحُ الاجتماعي والتربوي والإداري والصحي بالوتيرة السريعة نفسها التي يتمّ بها الإصلاحُ الرياضي والتنميةُ السياحية في بلدنا الحبيب “المغرب”. ويندرج الملف القضائي وحرية التعبير وسجناء الرأي أيضا ضمن الإصلاح الاجتماعي عامة.
إن العفو الملكي على بعض الصحافيين ومعتقلي الرأي بمناسبة الذكرى 25 لتربعه على عرش المملكة المغربية(30 غشت 2024)، يمكن اعتباره خطوة مهمة تتداعى بنا إلى البدايات الأولى لحكم الملك محمد السادس، والتي دشنت مرحلة الإنصاف والمصالحة وترسيخ ثوابت المملكة لدى كافة شرائح الشعب المغربي، بالإضافة إلى إطلاق مجموعة من المبادرات السياسية والأورواش السيوسيو-اقتصادية، وتفعيل الدبلوماسية السياسية والدينية المغربية.
بفضل ذلك، حقق المغرب بعض النتائج المهمة التي كانت تقطع بشكل أو بآخر مع مرحلة ما قبل بداية الألفية الثالثة. لكنها سرعان ما تراجعت القهقرى جراء جملة من العوامل السياسية والاقتصادية الداخلية والخارجية، كاحتجاجات الربيع العربي، وحراك الريف، وملف الوحدة الوطنية، وأزمة كورونا، وغيرها. وهذا ما أثر نوعا ما على المسار الإيجابي الذي كانت قد دشّن به المغرب هذه المرحلة. ومع ذلك، فظل حلم النهوض بالوطن يسكن قلب كل المغاربة؛ دولة وشعبا، سلطات ومواطنين، داخل الوطن وخارجه.
ويفسر ذلك التراجع بالدرجة الأولى بالأداء الحكومي الذي اتسم في هذه المرحلة بمغامرة التجريب غير المُحكم على حساب الحقوق الكبرى للشعب والوطن (دعم المواد الأساسية، التقاعد، الغلاء وتراجع القدرة الشرائية…). وقد عملت الحكومات التي تناوبت على هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ المغرب المعاصر على المحاولة بكل الآليات والوسائل؛ حتى “اللاديمقراطية”، إن صح التعبير، لتنزيل جملة من القوانين دون مراعاة الظروف المتردية التي تتخبط فيها الكثير من الفئات الاجتماعية الكادحة والهشة، ولا أدل على ذلك من ملفات التغطية الصحية والمحاكمات القضائية. وقد أفضى ذلك إلى نشوء يأس عارم لدى الكثير من المواطنين؛ شبابا وشيبا، رجالا ونساء، مثقفين ومواطنين عاديين؛ فمنهم من فضل قوارب الموت على البقاء محبطا في وطن يعيش فيه غريبا، ومنهم من اكتفى بلعن الظروف في صمت، ومنهم من اعتمد شبكات التواصل الاجتماعي وسيلة للتنفيس عن إحباطه، وهكذا دواليك.
في مقابل ذلك، كانت الدولة المغربية تطلق المشاريع الاقتصادية الكبرى لتعزيز البنيات التحتية، وتطوير القطاعات الصناعية الثقيلة، والرقي بالملاحة الجوية والبحرية، وتقوية المجال الطاقي والبيئي، وغيرها. وتتميز بعض هذه المشاريع بأنها ذو طبيعة استراتيجية وصل صداها إلى شتى البلدان الأوروبية والإفريقية والعربية والأسيوية؛ فمنها من عبر عن إعجابه بالمسار التنموي والاقتصادي الذي اختاره المغرب، ومنها من تخوف من المنافسة الشرسة للمنتجات المغربية، ومنها من انخرط في التجربة الاقتصادية المغربية الصاعدة، ومنها من عادى أو استخف مما يطرحه من أوراش ويحققه من إنجازات.
وبالموازاة مع السياسة الاقتصادية والتصنيعية التي اعتمدها المغرب، تم تطوير الدبلوماسية المغربية سواء على المستوى السياسي، حيث حقق مقترح الحكم الذاتي تجاوبا دوليا مهما، ترسخ معه الحق المغربي التاريخي والسياسي والقانوني في صحرائه، أو على مستوى الدبلوماسية الدينية المغربية التي حققت فتوحات هائلة في عدد مهم من البلدان الإفريقية.
عود على بدء، إن النهج الاقتصادي والتنموي الذي اختاره المغرب لا يخلو من سلبيات، لكن في الوقت نفسه ينطوي على إيجابيات. وهناك فرصة كبيرة لتعزيزه عبر اعتماد مقاربة شمولية؛ لا تركز فقط على الاستثمار الصناعي والاقتصادي والرياضي، بل تستثمر أيضا في الإنسان بكونه عصب كل دينامية اقتصادية. ونقصد الاستثمار الاجتماعي والتربوي والقيمي في المواطن المغربي، لأنه لا يمكن تحقيق تطور حقيقي بإنسان مهيض الجناح ومهضوم الحقوق والكرامة والحرية.
هناك من تساءل مستغربا عن حظ سجناء حراك الريف من العفو الملكي الأخير، فاعتبر ذلك إقصاء أو إجحافا أو عنصرية، ونحن نتوقع (ونأمل أن يكون توقعنا صحيحا!) أن هذا العفو سوف تكون له تداعيات إيجابية، ويليه عفو قريب إن شاء الله تعالى عن باقي معتقلي الرأي من الريف وغيره من جهات الوطن.
وأكثر من ذلك، نتوقع أيضا أن يعيد المغرب النظر في السياسات الحكومية المتعلقة بالشأن الاجتماعي، حتى يتحقق نوع من التوازن بين الاستثمار في الاقتصاد والصناعة والبنيات التحتية وبين الإصلاح الاجتماعي والتربوي والإداري والصحي. وقد أصبح ذلك ضروريا أمام الدولة المغربية التي أثبتت للعالم على أنها قادرة على تحقيق دينامية مهمة في صناعة السيارات والطيران والطاقة الشمسية والريحية والملاحة البحرية والبيئة، واليوم ينتظر منها العالم، لاسيما الجيران على الضفة الأوروبية أن تنقل هذا النجاح إلى القطاعات الاجتماعية الحيوية من صحة وتعليم وإدارة وعالم قروي.
المصدر: زنقة 20
إقرأ أيضاً:
شهادات عالمية على نجاح الإصلاح الاقتصادي
تواصل سلطنة عُمان تحقيق نجاحات كبيرة في مسيرة الإصلاح الاقتصادية وإعادة وبناء أرضية استثمارية جاذبة دوليا. ورفعت وكالة «فيتش» التصنيف الائتماني لسلطنة عُمان إلى مستوى الجدارة الاستثمارية فيما يمكن أن يعتبر علامة فارقة في مسار اقتصادي اختار طريقا أصعب وأكثر مسؤولية خلال الأعوام الأخيرة. فإعادة إدراج عُمان في نادي الاقتصادات ذات الجدارة الاستثمارية تعني أن الأسواق العالمية باتت ترى في المالية العامة للدولة، وفي مركزها الخارجي، ما يكفي من القوة والانضباط لتحمل دورات النفط وتقلبات أسعار الفائدة.
ترسم الأرقام التي يوردها تقرير «فيتش» ملامح هذا التحول بوضوح؛ فالدين العام الذي كان يقارب 68% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2020 تراجع إلى نحو 36% في 2025. معروف أن هذا الانخفاض لا يحدث من تلقاء نفسه، ولا يمكن نسبته إلى دورة سعرية مواتية للنفط فحسب، إنه يعكس قرارا سياسيا واقتصاديا بتوجيه الفوائض المتاحة نحو سداد الالتزامات وخفض عبء الفائدة، بدل الانزلاق إلى موجات جديدة من الإنفاق الجاري.
في موازاة ذلك، تحوّل المركز المالي الخارجي لسلطنة عُمان من وضع «مدين صافٍ» إلى «دائن صافٍ» بنسبة 2% من الناتج في 2024. هذه النقلة النوعية تمنح الاقتصاد هوامش أمان أوسع أمام الصدمات، وتدعم استقرار العملة، وتُطمئن المقرضين الدوليين بأن عُمان لا تعتمد على أسواق الدين وحدها لتمويل احتياجاتها، بل تبني رصيدا من الأصول والاحتياطيات يمكن الرجوع إليه عند الضرورة.
لكن «فيتش» تراهن أيضا على قدرة الاقتصاد العُماني على النمو، فهي تقدر نمو الناتج المحلي في العام الجاري إلى 4%، مدعوما بنمو غير نفطي يقارب 3.8% واستمرار نشاط القطاعات الخدمية والسياحة والاستثمار الأجنبي خلال 2026–2027، هذا الأمر يجعلنا نفهم مبررات رفع التصنيف الائتماني لسلطنة عُمان.
مع ذلك، لا يخلو التقرير من إشارات تحذير. افتراض متوسط سعر لخام برنت عند 63 دولارًا للبرميل، مقابل سعر تعادل في الميزانية بنحو 67 دولارا، يذكّر بأن الهشاشة النفطية لم تُلغ بالكامل بعد. الوكالة تربط أي رفع إضافي للتصنيف بمجموعة شروط واضحة: توسيع قاعدة الإيرادات غير النفطية، استمرار خفض الدين العام وسداد الاستحقاقات، وتعزيز الاحتياطيات والأصول السيادية. هذه الشروط تكاد تتطابق مع ما تتطلبه استدامة «رؤية عمان 2040» ذاتها.
والتحدي الآن ليس في اجتياز عتبة الجدارة الاستثمارية، بل في استثمارها بحكمة. فإدراج السندات العُمانية في سلال أوسع من المستثمرين الدوليين سيترجم إلى انخفاض في كلفة الاقتراض السيادي، وسيحسّن بدوره شروط التمويل أمام البنوك والشركات المحلية.
غير أن استخدام هذه الميزة لتوسيع الإنفاق الجاري أو تأجيل عملية الإصلاح يمكن أن تقود إلى أخطاء مكلفة. والمسار الأكثر عقلانية هو توجيه أي تمويل إضافي نحو مشروعات إنتاجية في اللوجستيات، والطاقة المتجددة، والصناعات المرتبطة بالتحول الأخضر، والبنية الأساسية التي تعزز إنتاجية القطاع الخاص. تقارير وكالات التصنيف تعكس إلى حد معقول كيف يقرأ العالم خياراتها.
تقرير «فيتش» الأخير شهادة على أن ما جرى في عُمان خلال الأعوام الماضية هو بداية لتغيير أعمق في طريقة التفكير المالي والاقتصادي، والنجاح الحقيقي سيكون عندما تتحول هذه الشهادة الخارجية إلى ثقة داخلية أوسع، يلمسها المواطن في فرص عمل أكثر استقرارا، وقطاع خاص أكثر حيوية، واقتصاد أقل خضوعا لمزاج برميل النفط.