ألمانيا في غزّة: ذاكرة الهولوكوست أم المكارثية الصهيونية؟
تاريخ النشر: 23rd, August 2024 GMT
سوزان نايمان، الفيلسوفة الألمانية ومديرة «منتدى أينشتاين» في ألمانيا، تذهب أبعد من التساؤل الافتراضي في عنوان هذه المقالة؛ فلا تتردد في الحديث عن «مكارثية فيلو ــ سامية» عند التعليق على المدى الذي ذهبت إليه ألمانيا، على أصعدة الحكومة والعديد من هيئات المجتمع المدني السياسية والأكاديمية والثقافية، في مساندة دولة الاحتلال، طوال الأشهر التي شهدت انخراط الجيش الإسرائيلي في جرائم حرب إبادية ضدّ المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزّة.
وفي مقالة مسهبة بعنوان «اختلال المحاسبة التاريخية» نشرتها المجلة الأمريكية «نيويورك ريفيو أوف بوكس» غير المعروفة بنقد الصهيونية، تساجل نايمان بأنّ «ثقافة الذاكرة» التي امتدحها مراقبون كُثُر بوصفها شكلاً نموذجياً لمحاسبة الماضي؛ تُستبَدل اليوم بـ»مكارثية صهيونية» لا تستهدف دعاة التضامن مع الشعب الفلسطيني وإدانة حرب الإبادة الإسرائيلية فقط، بل تشمل أيضاً كتّاباً وفنانين يهودي الديانة من ناقدي دولة الاحتلال.
آخرون من ضحايا هذه المكارثية هم أولئك الذين ساجلوا، منذ فجر تلك الثقافة الألمانية، بأنها في المضمون الفعلي مساندة غير مشروطة لدولة الاحتلال، واستسلام أمام المقولات الصهيونية الاستعمارية والاستيطانية.
وتكتب نايمان أنّ التصميم الألماني على اقتلاع العداء للسامية، من جانب الحكومة وهيئات المجتمع المدني هنا أيضاً، «انتقل من اليقظة إلى الهستيريا. كلّ طلب للحصول على منحة أو عمل كان يخضع لتدقيق يفتش عن علامات مزاعم العداء للسامية، بغضّ النظر عن المصدر، خدمت كأرضية لسحب الجوائز وعقود العمل أو إلغاء المعارض والعروض. ورغم أنّ إحصائيات الشرطة كانت تلقي 90 في المئة من المسؤولية عن جرائم الكراهية المعادية للسامية على الألمان البيض في صفوف اليمين أساساً، ظلّ المسلمون والملونون الأكثر استهدافاً في حملات وسائل الإعلام».
هذه حقائق سبقت 7 تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023 بالطبع، أو لا صلة تجمعها باهتياج الانحياز الأعمى لدولة الاحتلال، الذي اجتاح ألمانيا، حكومة ومجتمعاً مدنياً هنا أيضاً، حتى باتت برلين تنافس واشنطن أو تسبقها أحياناً من حيث التواطؤ مع جرائم الحرب الإسرائيلية؛ ولم تكن الذروة تلهّف ألمانيا على الانضمام إلى فريق الدفاع عن دولة الاحتلال أمام محكمة العدل الدولية، أو التعنت أكثر فأكثر في تسليح جيش الإبادة الإسرائيلي، ومسارعة المستشار الألماني أولاف شولتس للانضمام إلى «حجيج» جو بايدن وريشي سوناك وإمانويل ماكرون وأورسولا فون دير لاين وسواهم من قادة الديمقراطيات الغربية، لاحتضان مجرم الحرب بنيامين نتنياهو.
هذه مكارثية صهيونية لا تتجذّر أعمق وأبعد في تفاصيل الحياة اليومية للمجتمع الألماني إلا إذا تمّ تحصينها بسلسلة من القوانين والتشريعات
وهذه مكارثية صهيونية لا تتجذّر أعمق وأبعد في تفاصيل الحياة اليومية للمجتمع الألماني إلا إذا تمّ تحصينها بسلسلة من القوانين والتشريعات، التي يكون بين أبرز أغراضها أن تتكفل بمنح القضاء أدوات ردع قاطعة في المحاكم؛ على غرار تصويت البرلمان الألماني، سنة 2019، على قانون يعتبر كلّ مساند لحملة المقاطعة المعروفة BDS أو مؤمن بمبادئها، مداناً بجُرم العداء للسامية؛ وممنوعاً، بالتالي، من الظهور على أيّ مسرح أو المحاضرة في أيّ منتدى يتمتع بتمويل حكومي.
ولكن لأنّ كلّ مؤسسة ثقافية في ألمانيا تتلقى هذا الشكل أو ذاك من التمويل الحكومي فإنّ التشريع، تقول نايمان، «بات حظراً فعلياً لكلّ من يُشكّ في صلته بحركة المقاطعة، ضمن مفهوم بقي غائماً ومبهماً على الدوام».
المثال الثاني من المجتمع المدني هذه المرّة، بصدد استخدام مفردة «أبارتيد» التي تعني، في نهاية المطاف، نطاقاً دلالياً يصف منظومات حكم وتمييز عنصري؛ ولكنها في ألمانيا يمكن أن تقود إلى الإقصاء والعزل والإلغاء، وإذا اقترنت بدولة الاحتلال أو بالصهيونية فإنها تلقائياً تعني العداء للسامية.
وإذا كان النقاش مفتوحاً وميدان أخذ وردّ لدى الباحثين الإسرائيليين أنفسهم، حول شيوع منظومات الأبارتيد داخل ما يُسمى بـ»المنطقة الخضراء» في فلسطين التاريخية؛ فإنّ الخلاف شبه منعدم حول خضوع الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس المحتلة لأنماط من الأبارتيد أسوأ من تلك التي اشتُهرت بها أفريقيا الجنوبية.
ولكن حين أصدرت منظمة العفو الدولية تقريرها المعنون «أبارتيد إسرائيل بحقّ الفلسطينيين» سارع فرع المنظمة في ألمانيا إلى النأي بنفسه عن التقرير، ورفض إدراجه للمناقشة في الندوات والملتقيات.
صحيح أنّ بذور هذه المكارثية زُرعت، واستُتبت ورُعيت في عهود، وبإشراف مباشر من، المستشارة السابقة أنغيلا ميركل، التي هيمنت أيضاً على كامل الحياة السياسية في ألمانيا طوال الـ20 سنة المنصرمة؛ إلا أنّ مشهد التحالفات السياسية الحاكمة اليوم في برلين لا يضيف إلى إرث ميركل عناصر أدهى وأبعد أثراً فحسب، بل هو بصدد العلاقة مع دولة الاحتلال يقترب حثيثاً من تشييد معمار عجيب شاذّ الأركان، كما تجزم نايمان: التحالف بين يسار الوسط في ألمانيا، واليمين في أمريكا ودولة الاحتلال.
ألمانيا اليوم يحكمها تحالف من «الديمقراطيين الاشتراكيين» و«الخضر» و«الديمقراطيين الأحرار» وفي الموقف من حرب الإبادة الإسرائيلية تبدو مواقف هذا التحالف، حسب نايمان دائماً، على يمين الـ AIPAC، «لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية» أي مجموعة الضغط الأبرز في مساندة دولة الاحتلال على نطاق الولايات المتحدة!
من جانب آخر، لا يصحّ أن تُفهم هذه الظاهرة بمعزل عن تحوّلات «اليسار الجديد» الألماني خلال ستينيات القرن المنصرم، وضمن سياق حركات الاحتجاج الطلابية للعام الشهير 1968، واعتناق هذا اليسار تحديداً مبدأ تخليص الوجدان الجَمْعي الألماني من ذنوب الهولوكوست عبر ربط الهوية الألمانية بمبدأ محاسبة التاريخ، وبالتالي إشاعة «ثقافة الذاكرة» إياها.
ولعلّ النموذج الأبرز على ذلك اليسار، وتلك الحقبة من علاقة الضمير الألماني بالصهيونية ودولة الاحتلال، هو يوشكا فيشر: الذي بدأ من يسار مناهض للصهيونية، وانتقل إلى تيار الخضر، ثمّ الانخراط في تحالف حكومي مع غيرهارد شرودر، وصولاً إلى اعتمار القبعة اليهودية أمام حائط المبكى وتصنيف أيّ نقد لدولة الاحتلال (بما في ذلك أيّ حديث عن الإبادة الجماعية) في خانة العداء للسامية.
وتبعاً لخطوط المسار التاريخي للعلاقات الألمانية ــ الإسرائيلية، كان المستشار كونراد أديناور أوّل من أدخل في صلب سياسات الدولة الداخلية والخارجية قاعدةَ تكريس الإحساس بالذنب تجاه الهولوكوست وعذابات اليهود، وترجمتها إلى معونات مالية وعسكرية هائلة تدفقت على دولة الاحتلال، أخذت غالباً صفة التعويضات غير المعلنة.
وكان فيشر، السياسي اليساري ثمّ وزير الخارجية، أبرز أمثلة تحوّل اليسار، سواء الرديكالي أو ذاك الذي استقرّ على البيئة وتيارات الخضر، إلى دمج محاربة اليقظة النازية باستئصال العداء للسامية؛ ولكن إلى درجة التعامي عن جرائم حرب صريحة، وإغماض العين عن إدانة الاحتلال والاستيطان بموجب القانون الدولي.
وأمّا ميركل فكانت أوّل مستشار(ة) تلقي كلمة أمام الكنيست الإسرائيلي، اعتبرت خلالها أنّ مسؤولية ألمانيا التاريخية، تجاه الحفاظ على أمن دولة الاحتلال، إنما ترقى إلى «علّة وجود» عند الدولة الألمانية.
الراسخ، مع ذلك، أنّ إغراق ألمانيا في ثقافة ذاكرة هولوكوستية من جهة، وإشاعة مكارثية فيلو ــ سامية سياسية وفكرية وأكاديمية وحقوقية وثقافية من جهة ثانية، لن تنقذ الألمان من سخط باحث أمريكي يهودي مثل دانييل جوناه غولدهاغن، صاحب مجلد في 619 صفحة، عنوانه «جلاّدو هتلر المتطوعون: الألمان العاديون والهولوكوست»؛ تنهض أطروحته الوحيدة على هذا الجزم الرهيب القاطع: «ألمانيا بأسرها، بلداً وشعباً وثقافة، مسؤولة عن الهولوكوست» لأنّ «الأمّة الألمانية هي الهولوكوست، ولولا هذه الأمّة لما كان الهولوكوست»!
القدس العربي
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الاحتلال المانيا غزة الاحتلال العدوان مقالات مقالات مقالات تكنولوجيا أفكار سياسة سياسة سياسة تكنولوجيا مقالات سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة العداء للسامیة دولة الاحتلال ة الألمانیة فی ألمانیا
إقرأ أيضاً:
سلام شامل أو حرب شاملة
ربّما تكون المفاوضات الجارية في العاصمة القطرية (الدوحة) من أجل التوصّل إلى اتفاق بضغط أميركي، ومناورات مخادعة من قبل حكومة نتنياهو فإن هذه المفاوضات ربّما تكون الفرصة الأخيرة، الفاصلة بين استمرار وتوسُّع الحرب، وبين هدوء في الإقليم لبعض الوقت.
ثمّة تفاؤل واضح لدى دونالد ترامب وفريقه بشأن إمكانية التوصل إلى اتفاق يستدعي منه لأوّل مرّة، تجنُب تحميل حركة حماس المسؤولية، فيما يؤكّد المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف أن المفاوضات تمكّنت من معالجة ثلاث نقاط خلافية ولم يبق سوى واحدة يجري العمل على معالجتها.
كان ترامب يأمل في أن يعلن بنفسه عن الاتفاق بينما يكون نتنياهو إلى جانبه، ولكن يبدو أن الأخير سيغادر قبل أن يحظى ترامب بمثل هذه الفرصة.
ما يظهر على السطح أمام وسائل الإعلام، التي تغطّي زيارة نتنياهو، بالتأكيد لا يعكس ما يجري في الغرف المغلقة، وبالرغم من أنّهما تبادلا الغزل كل تجاه الآخر، وأعلنا غير مرّة «الانتصار» في الحرب على إيران، فإن الوقائع على أرض الشرق الأوسط، قد لا تمنحهما المزيد من الفرص، لمواصلة «خطاب النصر».
السّاحر الإسرائيلي الذي عرف دائماً من أين تؤكل الكتف، أهدى لترامب، ورقة ترشيحه لنيل جائزة «نوبل للسلام»، قبل أن يحقق الأخير السلام على أيّ جبهة سوى ما يدّعي أنه أنجزه على جبهة الهند الباكستان.
إن كانت لجنة «نوبل للسلام» ستمنح ترامب جائزتها في ظل الجاري من حروب عدوانية وصراعات، فإنها ستسقط في الهوّة السحيقة التي يسقط فيها النظام العالمي، والقيم الزائفة التي يتغطّى بها ذلك النظام.
فبينما تتأرجح الأوضاع في قطاع غزة.. استمرار الحرب، أو هدوئها فإن «الائتلاف الحكومي الفاشي» في دولة الاحتلال، يواصل حرب الإبادة والتجويع، وتهيئة الظروف لفرض التهجير القسري على سكّان القطاع، تحت عناوين إنسانية خبيثة.
وبعيداً عن ادّعاءات النصر، سواء من قبل دولة الاحتلال أو المقاومة الفلسطينية في غزّة، فإن دولة الاحتلال تفشل باعترافات المسؤولين فيها في تحقيق الانتصار الذي يريده نتنياهو.
بعد سلسلة الكمائن التي وقعت في خان يونس وبيت حانون، عاد الكثير من الإسرائيليين يتحدثون عن أن «حماس» استعادت قدراتها، كما لو أنها في الأيّام الأولى للحرب العدوانية على القطاع.
فمثلما تعمل دولة الاحتلال على التفاوض تحت النار وبقوّة متزايدة لفرض شروطها على الطاولة، فإن المقاومة بدورها تصعّد ضرباتها على نحوٍ غير مسبوقٍ، انطلاقاً من ذات المبدأ.
الكمين الذي وقع في بيت حانون وأدّى إلى مقتل 5 جنود وإصابة 14، كان صاعقاً، حيث إنه يقع في منطقة لم يترك فيها جيش الاحتلال بشراً، أو حجراً أو شجراً.
بعد عديد المرّات التي يعلن فيها جيش الاحتلال إكمال سيطرته على بيت حانون، وتفكيك كتائب المقاومة فيها، يتلقّى أوجع الضربات، والعدد الأكبر من الخسائر البشرية والمادية ما يُعمق خطاباً يتحدث عن عبثية هذه الحرب الهمجية، وصعوبة تحقيق الحدّ الأدنى من أهدافها.
في الآن ذاته، تصعّد جماعة «أنصار الله» «الحوثيين» اليمنية هجماتها الصاروخية وبالطائرات المسيّرة على دولة الاحتلال، واستهداف السفن المتّجهة إليها، تزامناً مع تصعيد المقاومة هجماتها الناجحة.
وبينما تعتقد أميركا، أنّها تخطو بنجاح نحو مساومة تؤدّي إلى نزع سلاح «حزب الله» اللبناني بالكامل، وليس في الجنوب فقط مقابل انسحاب جيش الاحتلال من المواقع الخمسة التي تحتلها في الجنوب فإن هذه المعادلة، قد تنفجر في أيّ لحظة وفي وجه الجميع، وقد تنفجر الأوضاع في سورية، في أيّ لحظة، بما يطيح بالآمال الجارية التي تشير إلى إمكانية موافقة النظام السوري الجديد على تطبيع العلاقات مع دولة الاحتلال.
في الواقع فإن الأمل ضعيف في أن تتخلى الأخيرة عن احتلالها للأراضي السورية، ووقف اعتداءاتها، والعودة إلى «اتفاق 1974».
إزاء كلّ الجبهات المفتوحة والمحتملة، لا تتنازل دولة الاحتلال عن «حقّها» في ممارسة أعمالها العدوانية والإجرامية، بذريعة حقها في الدفاع عن نفسها، وإزالة تهديدات قائمة أو محتملة.
إيران التي تحظى بالتركيز من قبل التحالف الأميركي الصهيوني لا تزال جبهة مفتوحة على كل الاحتمالات التي تتقدمها عودة الحرب العدوانية، وبصرف النظر عمّا يراه ترامب بشأن إيران فإن دولة الاحتلال تعمل بقوة على إسقاط النظام، عبر سلسلة اغتيالات.
الرئيس الإيراني، أعلن صراحة أنه نجا من استهداف، وكذلك وزير الخارجية، وحرب الرصد تكنولوجياً، وبشرياً تستعر بقوة بين الطرفين.
الأميركيون يتحدثون عن رغبة إيران في التفاوض وأن هذه المفاوضات قد تنطلق قريباً، فيما الإيرانيون يكسبون المزيد من الوقت لإعادة بناء منظوماتهم الدفاعية، ولا يبدون أيّ حماسٍ للعودة للمفاوضات، بعد أن هبطت الثقة إلى ما دون الصفر مع الجانب الأميركي.
الإيرانيون يتحدثون عن استعادة قدرتهم على التخصيب النووي بعيداً عن أنظار مفتّشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بعد أن علّقت إيران التعاون معها.
وفيما تبدو الحرب الهمجية والتدميرية في الضفة الغربية، وكأنها لا تحظى بالحدّ الأدنى من الاهتمام وسط زوابع الحديث عن إيران وغزة والجبهات الأخرى، فإن الضفة تتعرّض لحربٍ حقيقية، هي نسخة من حرب التطهير العرقي والتدمير والاقتلاع التي تتعرّض لها غزّة.
من الواضح أن الأمور في الشرق الأوسط تتّجه نحو واحدٍ من خيارين فهي أمام الحرب الشاملة، أو السلام الشامل، بما في ذلك ما يتعلق بالحقوق السياسية الفلسطينية والفلسطينيين.
الأيام الفلسطينية