أزمة السيادة الوطنية، الفيل الذي في الغرفة… (1)
تاريخ النشر: 15th, September 2024 GMT
مهدي رابح
في شهري سبتمبر وأكتوبر 2021م احتدمت الأزمة بين القوى المدنية المكونة لتحالف الحرية والتغيير والمشاركة في السلطة الانتقالية من طرف والمكون العسكري بشقيه الجيش والدعم السريع من الطرف الآخر لتبلغ قمة تعقيدها. وهي أزمة تركّزت بصورة أساسية حول المطالبة بتنفيذ ما نصت عليه الوثيقة الدستورية من استبدال الجنرال البرهان ونائبه حميدتي في رئاسة المجلس السيادي بالمدنيين وما يترتب علي ذلك من أحكام لسلطة الأخيرين السياسية ما قد يمكنهم من المضي قدما في عمليات إكمال تفكيك أركان النظام السابق واستعادة الأموال العامة المنهوبة وتدشين عمليات الإصلاح لمؤسسات الدولة، وعلى رأسها القطاع الأمني والعسكري والخدمة المدنية، والتي يسيطر على مفاصلها عناصر الإسلامويين بصورة أساسية, وربما الإعداد لبقية عمليات التحول الديموقراطي المختلفة.
في تلك الفترة التي توسطت الخطوات الأخيرة في الإعداد لانقلاب ال 25 من أكتوبر، أي ما بين إعلان تكوين الواجهة المدنية للنظام الاستبدادي الجديد المنشود والمتمثلة في تحالف “مجموعة ميثاق التوافق الوطني/الكتلة الديموقراطية لاحقا” في الثاني من أكتوبر وبداية الاعتصام الشعبي المصطنع أمام القصر الرئاسي، والمموّل من قبل استخبارات الجيش والدعم السريع والمعروف باعتصام “الموز”، في السادس عشر من نفس الشهر، قام قائدان من الصف الأول للجيش والدعم السريع بزيارة سرية مشتركة إلى تل أبيب تُمثِّل في حد ذاتها مجموع تجليات تهرؤ أركان الدولة بسبب سيطرة كارتيل إجرامي على مصيرها، كارتيل هو اتحاد بين ثلاث منظومات إجرامية بكل ما تحمل الكلمة من معاني، قيادات الجيش وقيادات الدعم السريع والمركز الأمني العسكري للحركة الإسلامية.
الزيارة المذكورة، وحسب ما رشح عنها من معلومات مؤكدة بصورة لا يرقى إليها أي مجال للشك بتاتا، تمحورت حول إمكانية لعب إسرائيل لدور في عمليات تسويق الانقلاب المزمع لدى القوى الغربية الكبرى الداعمة للانتقال الديمقراطي. وكان مكمن ضُعف خطة التسويق تلك، إن جاز التعبير، هو اعتمادها على كذبة مركزية بلقاء أهم عناصرها هو ادعاء دعم بعض الشخصيات السياسية المدنية القوية المؤثرة لهذا الانقلاب كمخرج أوحد لما سمي حينها ب “الأزمة السياسية”، ما أدى إلى فشل الخطة بعد أيام قلائل عقب الرد على بعض الاستيضاحات العاجلة التي قدمت عبر القنوات غير الرسمية، وما أدى لاحقا أيضا، وبعد الانقلاب لإحكام العزلة الدولية على شريكي المؤامرة، الجيش والدعم السريع.
من الطبيعي أن يتبادر إلى ذهن القارئ/ة سؤال بديهي مشروع أرى أن أقوم بالرد المختصر عليه مباشرة قبل الدخول في متن المقال وهو من شقين.
“كيف تلعب إسرائيل مثل هذا الدور؟ وما مصلحتها في ذلك؟.”
تؤكد معطيات الواقع التي لا ينتطح حولها عنزان أن موقف عديد القوى العظمى “الغربية” من قضية وجود إسرائيل وضمان أمنها هو موقف تاريخي استراتيجي ثابت لا يتزحزح – بغض النظر عن مدى صوابه أو خطئه، فذلك مبحث مختلف – ويمثل لها أولوية قصوى تسبق أي أجندات أخرى، وهو ما يوفر للأخيرة سهولة استغلال القنوات الدبلوماسية المفتوحة والثقة المتبادلة مع تلك الدول القوية لتمرير أي رسالة تريدها، هذا فيما يتعلق بالشق الأول من السؤال. أما في الشق الثاني، فإن ارتباط مصلحة إسرائيل المباشرة بوجود نظم استبدادية خاضعة في محيطها العربي الإسلامي المعادي، مستعدة وقادرة عبر أدوات القمع المختلفة على فرض موقف رسمي ومتصالح مع التطبيع ضد تيار شعبي عارم وغير قابل لأن يتبدل بصورة كبيرة في المدى المنظور يجعل منها داعمة لأي خطوة في سبيل ترسيخ هكذا ديكتاتوريات، ذلك بالطبع على حساب أي تيارات ساعية لترسيخ نظم حكم ديمقراطية تعكس الإرادة الجماهيرية الحرة، وهو ما يفسر دعمها للجنرالين البرهان/حميدتي منذ وقت مبكر جدا، وبالمقابل استعداؤها للمدنيين الديموقراطيين. وليس أدل علي ذلك، وأبلغ من تصريح وزيرة الخارجية في الحكومة الانتقالية الأولى، السيدة أسماء عبدالله، معترفة بجهلها التام عن لقاء البرهان ونتنياهو في عنتيبي فبراير 2020م، برعاية من الرئيس اليوغندي يوري موسيفيني.
باختصار بالغ، فإن الصفقة التي مهدت لزيارة تل أبيب المذكورة تتمحور حول تحقيق السلطة الديكتاتورية الجديدة المزمعة بقيادة البرهان وحميدتي لمصلحة إسرائيل في تنفيذ ما سمي حينها “صفقة القرن” أو اتفاقيات أبراهام الهادفة للتطبيع مع عديد الدول المصنفة عربية وإسلامية مقابل دعم انقلابهما على الفترة الانتقالية وتثبيت أركان حكمهما لاحقا.
إن عديد الأسئلة المهمة الأخرى المتفرعة من هذا الحدث ذي الدلالات الهامة وما أعقبه من أحداث جسيمة قد لا نجد لها إجابة مفصلة مطلقا مستقبلا نسبة للطبيعة السرية للتدخلات الخارجية في المشهد السياسي والأمني السوداني، كدور بعض الدول “الشقيقة” في هذه الزيارة مثلا، وهي دول علي علاقة وثيقة بإسرائيل، وعملت سوية أحيانا أو منفردة في أحيان أخرى وبصورة نشطة علي عرقلة الانتقال المدني، وعلى محاولات تثبيت نظم حكم عسكرية في السودان تدين لها بالولاء التام ثم لاحقا علي اشتعال الحرب واستمرارها، وما الزيارات الخارجية المختلفة التي قام بها كل من البرهان وحميدتي، أو من ينوب عنهما قبل ساعات من مجزرة الاعتصام المروعة في يونيو 2019م الذي يعد المحاولة الانقلابية الأولى، أو من الانقلاب الثاني في أكتوبر 2021م أو أخيرا حرب أبريل 2023م التي تعد محاولة الانقلاب الثالثة بخافية عن أحد، رغم ما وسعها من جهود مستميتة للاحتفاظ بها بعيدا عن أعين الرقابة الشعبية المتحفزة اليقظة. وما أقصده هنا بالانقلاب هو فرض واقع سياسي جديد بقوة السلاح.
ليس من العسير الوصول إلى الاستنتاج القائل بأن ما قام به شريكا الانقلاب سابقا وطرفي الحرب الحالية يعد عمالة في تعريفها البسيط أي سعي فرد أو مجموعة أشخاص صغيرة لتحقيق مصالحها الضيقة علي حساب المصلحة العامة، وعلى حساب أمن الوطن والمواطن عبر تنفيذ أجندات دول أجنبية، لكن الأهم من ذلك هو أن ذلك كان استمرارا لنمط تاريخي من تفريط النخب المتحكمة عبر أدوات القمع والعنف في سيادة البلاد علي قرارها وعلى أراضيها، وما أدل علي ذلك من الحقيقة التاريخية المثبتة بأن فقدان السودان لأجزاء من أراضيه لم يحدث إلا تحت حكم أحد الجنرالات، حلفا القديمة وآلاف الأميال المغمورة تحت مياه بحيرة ناصر إبان حكم الجنرال عبود، مثلث أليمي خلال حكم الجنرال النميري ثم الطامة الكبرى خلال حكم الجنرال البشير والإسلاميين، ما بين حلايب وشلاتين والفشقة وانفصال أشقائنا في جنوب السودان. في حقيقة الأمر وتحريا للإنصاف بين الأنظمة الديكتاتورية التي تعاقبت في حكم 55 عاما من تاريخ السودان، فإن البلاد لم تبلغ خصيصا في فقدانها لسيادتها وارتهانها للأجنبي، بعد الحضيض الأقصى التي بلغته عقب انقلاب برهان/حميدتي طبعا في 2021م، إلا خلال حكم البشير والمركز الأمني للحركة الإسلامية خلال فترة “ثورة الإنقاذ الوطني”.
لكن قبل أن أختم المقالة الأولى لهذه السلسلة ارجع بذاكرة القارئ قليلا لزيارة البشير “أسد افريقيا” المهينة والكئيبة لمدينة سوتشي في روسيا في ال 23 من نوفمبر 2017م، والتي طلب فيها الحماية من الرئيس بوتين، بصورة مقززة وذليلة شكلا ومضمون، مقدما الأراضي السودانية علي شواطئ البحر الأحمر عربونا لاستخدامها كقاعدة عسكرية مقابل مساندة روسيا له للاستمرار في الحكم.. فتأمّل.
الوسوممهدي رابحالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: والدعم السریع
إقرأ أيضاً:
غسان حسن محمد.. شاعر التهويدة التي لم تُنِم. والوليد الذي لم تمنحه الحياة فرصة البكاء
بقلم : سمير السعد ..
في عالمٍ تُثقله الحروب وتغرقه الفواجع، تبرز قصيدة “تهويدة لا تُنيم” للشاعر العراقي غسان حسن محمد كصرخة شعرية تحمل وجع الوطن، وتجسِّد الإنسان العراقي في زمنٍ لم يعد فيه للتهويدات مكان، ولا للطفولة حضنٌ آمن. غسان، ابن العمارة ودجلة والقصب، هو شاعر يكتب بقلبه قبل قلمه، ويغزل قصائده من نسيج الوجع العراقي بأدقّ خيوط الإحساس وأصفى نبرة صدق.
يفتتح الشاعر قصيدته بمشهد يختزل حجم الانهيار الداخلي في صورة جسدية/معمارية رمزية:
“من ربّت على ظهرِ الجسر..،
حتى انفصمت عُراه.”
ليتحوّل الجسر، رمز العبور والحياة، إلى معبر نحو الفقد والانفصال، ولتمتدّ صورة اليُتم على النهر كلحن لا يُفضي إلى الوصول:
“ليمتدَّ اليتمُ على كامل النهرِ،
يعزفُ لحنَ اللاوصول؟!”
هنا لا يتحدث الشاعر عن اليتيم بمعناه الفردي، بل يُحوّله إلى حالة جماعية تسري في جسد المكان، حالة بلد بأكمله يُرَبّى على غياب الآباء، وانقطاع الحكايات.
تدخل الحرب بوصفها شخصية غاشمة، لا تنتظر حتى تهدأ التهويدة، بل تُباغت الزمن وتفتك بالطمأنينة:
“الحرب..،
الحرب..،
(لعلعةٌ..):
كانت أسرعَ من تهويدة الأمِّ لوليدها”
هكذا يضع الشاعر التهويدة، رمز الحنان والرعاية، في مواجهة مباشرة مع صوت الحرب، لنعرف أن النتيجة ستكون فاجعةً لا محالة. ولا عجب حين نسمع عن الوليد الذي لم تمنحه الحياة حتى فرصة البكاء:
“الوليدُ الذي لم يفتر ثغرهُ
عن ابتسام..”
فهو لم يعرف الفجيعة بعد، ولم يلعب، ولم يسمع من أبيه سوى حكاية ناقصة، تُكملها المأساة:
“لم يَعُد أباه باللُعبِ..,
لم يُكمل حكايات وطنٍ..،
على خشبتهِ تزدهرُ المأساة لا غير.!”
في هذا البيت تحديدًا، يكشف غسان عن قدرة شعرية مدهشة على تحويل النعش إلى خشبة مسرح، حيث لا تزدهر إلا المأساة، في تورية درامية تفتك بالقلب.
ثم يأتي المشهد الفاصل، المشهد الذي يُكثّف حضور الغياب:
“عادَ الأبُّ بنعشٍ.. يكّفنهُ (زهرٌ)
لم يكُن على موعدٍ مع الفناء.!”
فالموت لم يكن مُنتظرًا، بل طارئًا، كما هي الحرب دومًا. لقد كان الأب يحلم بزقزقة العصافير، وسنابل تتراقص على وقع الحب:
“كان يمني النفسَ
بأفقٕ من زقزقات.،
وسنابلَ تتهادى على وقع
أغنية حبٍّ..
تعزفها قلوبٌ ولهى!”
بهذا المشهد، يقرّب الشاعر المأساة من القلب، يجعل القارئ يرى الأب لا كمقاتل، بل كعاشق كان يحلم بأغنية، لا بزئير دبابة. حلمُ الأب كُسر، أو بالأدق: أُجهض، على خيط لم يكن فاصلاً، ولا أبيض، بين الليل والنهار:
“حُلم أُجهض على الخيط
الذي لم يكن فاصلاً..،
ولا ابيضَ..
بين ليلٍ ونهار”
لا زمن في الحرب، لا بداية ولا نهاية، ولا فاصل بين حلمٍ وحطام. فالحرب تعيش في الفراغ، وتُشبع نهمها من أجساد الأبناء دون أن ترمش:
“ذلك أن لا مواقيت لحربٍ..
تُشبعُ نهمَ المدافع بالأبناء..”
وفي النهاية، تأتي القفلة العظيمة، القفلة التي تحوّل الحرب من آلة صمّاء إلى كائنٍ لو امتلك عيناً، لبكى، ولابتسم الطفل:
“فلو كانَ للحربِ عينٌ تدمع.،
لأبتسم الوليد!”
ما أوجع هذا البيت! إنه انقلابٌ شعريّ كامل يجعل من التهويدة التي لم تُنِم أيقونةً لفجيعة كاملة، وابتسامة الوليد غاية ما يتمنّاه الشاعر، وكأنّها وحدها قادرة على إنهاء الحرب.
غسان حسن محمد الساعدي ، المولود في بغداد عام 1974، والحاصل على بكالوريوس في اللغة الإنجليزية، هو عضو فاعل في اتحاد الأدباء والكتاب في العراق. صدرت له عدة مجموعات شعرية ونقدية منها “بصمة السماء”، و”باي صيف ستلمين المطر”، و”أسفار الوجد”، إضافة إلى كتابه النقدي “الإنصات إلى الجمال”. شاعرٌ واسع الحضور، يكتب بروح مغموسة بجماليات المكان وروح الجنوب العراقي، وينتمي بصدق إلى أرضه وناسها وتاريخها الأدبي والثقافي.
شاعر شفاف، حسن المعشر، لطيف في حضوره، عميق في إحساسه، يدخل القصيدة كمن يدخل الصلاة، ويخرج منها كما يخرج الطفل من حضن أمه، بكاءً وشوقًا وحلمًا. هو ابن العمارة، وابن دجلة، وابن النخيل والبردي، يدخل القلوب دون استئذان، ويترك فيها جُرحاً نديًّا لا يُنسى.
في “تهويدة لا تُنيم”، لا يكتب الساعدي الشعر، بل يعيش فيه. يكتب لا ليواسي، بل ليوقظ. لا ليبكي، بل ليُفكّر. قصيدته هذه، كما حياته الشعرية، تُعلن أن الشعر ما يزال قادراً على فضح الحرب، وردّ الضمير إلى مكانه، لعلّ الوليد يبتسم أخيرًا.