أكبر هزائم إسرائيل بأقلام قادتها «أكتوبر العظيم».. نصر أكبر من أن يفلح معه تزييف التاريخ
تاريخ النشر: 7th, October 2024 GMT
حداثة السن وقتها لم تمنع هذا الشعور القوى بالفخر، أن نقرأ عن البطولات وننتمى إلى هذا الانتصار، 51 عاما على ملحمة أكتوبر الخالدة، نقلت لنا السينما القليل، فلا شيء يماثل روعة ما حدث، نحن الذين ذهبنا في رحلات إلى خط بارليف حصنهم المنيع، وشاهدنا معدات العدو الصهيونى، وحكى لنا القادة فى جيش مصر العظيم قصص البطولات.
نحن الذين قرأنا كتب قادة جيشنا التى روت ملاحم البطولة الخالدة لجنود مصر، عظماء هذا الشعب الذين ولدوا من رحم الريف والحارة ومناطقها الراقية، لم تفرق بطولاتهم بين مكان نشأتهم، ومهما حاولت إسرائيل إعادة كتابة تاريخ خزيها غير المسبوق وتبريره أو النيل من هذا النصر العظيم فلن تستطيع، لأن كل الحقائق مدونة منذ الأيام الأولى للنصر، وما دونه قادتها ومحللوها في السنوات التالية مباشرة على الحرب كان مكتوبا بنار الهزيمة وحرقة القلوب وقسوة الانكسار ومرارة الخروج المذل من أرض سيناء.
لا يمكن أن تنمحي من ذاكرة القارئ المصري والعربي كتب صدرت عن حرب أكتوبر، حملت للقارئ رائحة أرض المعركة وخفايا التحضير لها ومنها: "مذكرات حرب أكتوبر" للفريق سعد الدين الشاذلي، "مذكرات الجمسى- حرب أكتوبر 73" للمشير محمد عبد الغنى الجمسى، و "وانطلقت المدافع عند الظهر" للواء محمد عبد الحليم أبو غزالة، و"حكاية المجموعة 39- مدد يا رفاعى مدد" عن الشهيد العظيم إبراهيم الرفاعي للكاتب محمد الشافعي، و"رحلة الساق المعلقة - من رأس العش إلى رأس الكوبرى" للعميد أركان حرب عادل يسرى، ولموسى صبرى "وثائق حرب أكتوبر"، وعادل وديع فلسطين "يوميات حرب أكتوبر"، وجمال الغيطاني "المصريون والحرب".
كذلك كتاب المؤرخ العسكري اللواء جمال حماد "المعارك الحربية على الجبهة المصرية.. حرب أكتوبر 1973" ويعد الكتاب تحليلا محايدا دقيقا مستفيضًا في شرح نقاط القوة والضعف، والأخطاء الاستراتيجية التي وقعت فيها أطراف المعركة، ولم يترك الكاتب شاردة أو واردة بدءا من التمهيد للمعركة وانتهاءً بوقف إطلاق النار، ومرورا بمقاومة أهل السويس الأبطال للعدو عند حصار المدينة بعد وقوع أزمة الثغرة.
إذا أضفنا لهذا الكتاب وغيره كتاب الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل "أكتوبر السلاح والسياسة»، الذى يسرد فيه يوميات الحرب على ثلاثة محاور هي «القاهرة» و«تل أبيب» و«واشنطن»، متضمنا الكواليس السياسية واللحظات الحرجة والفاصلة منذ وفاة الرئيس عبد الناصر، وتولي الرئيس السادات نهاية بتوقيع اتفاقية السلام.
رغم هذا الكم الهائل من الكتب التى كتب أغلبها رجال من أرض المعركة، وأرخ للبعض الآخر كُتّاب من واقع وثائق حقيقية، تظل محاولات يائسة للعدو لدس السم فى العسل إثبات بطولة زائفة وهو أمر ليس غريبا على قادة إسرائيل بشكل عام، فما بالنا بقائد حرب مهزوم - على الرغم من ذلك - كانت الحقيقة تقفز بين سطر وآخر مما كتبه موشيه ديان وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك في مذكراته "قصة حياتي"، فقد كتب عن اليوم الأول من حرب أكتوبر: "وأصبح العبور الآن حقيقة واقعة، ولم تعد مواقعنا الحصينة سوى فخاخ للموجودين فيها إن لم نستطع رد المصريين إلى الضفة الغربية، وهذا ما لم أكن أشترك مع رئيس الأركان وقائد الجبهة الجنوبية في افتراض إمكانية حدوثه".
يقول في موضع آخر: "وفى الساعات الأربع والعشرين الأولى من نشوب الحرب أصبحنا لا نملك سوى قوة ضئيلة من المدرعات على الجبهة المصرية، وما إن انهار خط الدفاع الأول حتى تدفق المصريون على سيناء بقوات ضخمة وبقوة هائلة من الأسلحة وقاتل لواء دبابات الجنرال البرت ماندلر ببسالة لإيقاف تقدم المصريين ولم يكن هذا اللواء منتشرا وفق خطة الطوارئ في موقعه عندما بدأت الحرب ولذا فإنه ما إن تقدم للقتال حتى تعرض لنيران عنيفة من الدبابات المصرية بالضفة الشرقية".
يعترف ديان بأن الخسائر كانت فادحة، ويصف حرب أكتوبر مقارنة بالحروب الأخرى بأنها لم تكن فقط صعبة، بل كان جو الحرب نفسه صعبا، لأنهم كانوا يواجهون حشودا مصرية مسلحة بكميات ضخمة من الأسلحة. مرارة الهزيمة الثقيلة كانت تقطر من كل جملة في كتابه خاصة وهو يذكر حجم القتلى من خيرة ضباطه من الطيارين وقادة المدرعات والمظليين ومن الآباء والأبناء والجيران إضافة إلى الجرحى والأسرى.
فى كتاب آخر بعنوان «زلزال أكتوبر.. حرب عيد الغفران"، الصادر في مايو 1974 للمرة الأولى باللغة العبرية للكاتب الإسرائيلي المتخصص في الشئون العسكرية «زئيف شيف»، وهو أيضا عضو رئاسة تحرير صحيفة «هاآرتس»، يصف «شيف» في 400 صفحة من كتابه حقائق وخلفيات المعركة وما دار بين قادة إسرائيل، وذكر «زئيف شيف» صورا رائعة لبطولة المقاتل المصري، وبراعة التكتيك والتخطيط للقادة المصريين خلال المعارك.
كما وجه النقد العنيف للقادة الإسرائيليين الذين طغت خلافاتهم الشخصية على أخطر المواقف التي كان يتعرض لها الجنود، فكانت الهزيمة النكراء هي المحتوى الحقيقي لكتابه، فنجده في أحد مواضع كتابه يقول: "الوضع معقد جدا، على حافة القناة، جهود تخليص أفراد الحصون المحاصرة ينتج عنها قتلى كثيرون، ويزداد عدد القتلى كلما ازدادت محاولات الاقتحام، ونموذج ذلك جهود إنقاذ أفراد الحصن عند كوبرى الفردان، لقد أصيب قائد الحصن بإصابات بالغة وقطعت يده في القتال، وأصيب نائبه".
ويبعث قائد اللواء المرابط في مواجهة الحصن بثلاث سرايا لإنقاذ الرجال، سرية تلو الأخرى، ولا تصل واحدة منها إلى هدفها. وتصاب في هذا الجهد حوالى 40 دبابة إسرائيلية وحوالى 50 من أفرادها ما بين قتلى وجرحى، وفى النهاية يقع الحصن فى يد المصريين".
ويقول في موضع آخر من كتابه: «هذه هي أول حرب للجيش الإسرائيلي، يعالج فيها الأطباء جنودا كثيرين هكذا، مصابين بصدمة القتال، إن معظم مصدومي القتال، في الأيام الأولى، في مرحلة الصد، عندما كان الرجال يفقدون الاتصال بوحداتهم، وهناك أيضا المحاربون مع أطقم لم يعرفوهم على الإطلاق، مئات المصابين بهذه الصدمة".
ولم تتوقف إصدارات الصهاينة عن الحرب وكلها لم تكن سوى مرثيات حزينة للسقوط المدوي في يوم عيد الغفران، فها هو فيلم "جولدا" الذي عرض لأول مرة في مهرجان برلين فبراير 2023، والمأخوذ عن حياة رئيسة الوزراء آنذاك جولدا مائير يشير إلى صرخات الجنود عبر أجهزة الراديو وحالة الهزيمة النكراء التي تعرض لها جيش زعم قادته أنه لا يقهر.
ورغم أن الفيلم حاول تزييف الحقائق (كما في الرواية الإسرائيلية حول ثغرة الدفرسوار) إلا أن الوثائق التاريخية وشهادات القادة العسكريين الذين عاصروا الحرب، فقد حوصرت القوات الإسرائيلية في مدينة السويس وتكبد خسائر مروعة وجُوبه بمقاومة أهل السويس التي ستظل محفورة إلى الأبد كجزء من تاريخ تلك المدينة الباسلة، ما دعا كيسنجر إلى زيارة القاهرة آنذاك والدعوة إلى وقف إطلاق النار كي لا تخسر إسرائيل صفوة جنودها الموجودين غرب القناة، قبل انسحاب المهزوم وعادت أرض سيناء كاملة لأصحابها، أصحاب البطولات، التى لا يمكن أن نعلم عددها، لأنها ببساطة بطولات أكبر من إدراك وتخطيط من لا يعرفون المقاتل المؤمن بالنصر أو الشهادة.
المصدر: الأسبوع
كلمات دلالية: نصر أكتوبر حرب أكتوبر 1973 الرئيس محمد أنور السادات مذكرات حرب أكتوبر حرب أکتوبر
إقرأ أيضاً:
قتل الشاهد.. الجريمة التي تُضاعف جريمة الحرب
تتجاوز خسارة العالم للصحفي في ساحة القتال خسارة غيره؛ إنها خسارة العين التي ترى، والأذن التي تسمع، واللسان الذي ينطق بالحقيقة. وفي غزة حيث تتقاطع حرب الإبادة الهمجية التي تمعن فيها إسرائيل على مرأى ومسمع العالم أجمع مع حرب السردية يصبح استهداف الصحفيين أخطر بكثير من مجرد انتهاك فردي، أو حتى من انتهاك المدنيين. إنه بمثابة إعلان متعمد بأن الرواية الوحيدة المسموح لها بالبقاء هي رواية القاتل.
كان استهداف الصحفي أنس الشريف أمس -وهو أحد آخر المراسلين الذين بقوا في شمال القطاع- حلقة جديدة في سلسلة اغتيالات تستهدف أولئك الذين يملكون القدرة على نقل الصورة الكاملة لما يحدث في غزة. ولا أحد لديه أدنى شك أن استهداف الصحفيين في غزة يأتي في سياق متعمد لقتل الرواية ذاتها، وحجب الحقائق عن الوعي العالمي.
والصحفي في الحرب هو الشاهد الذي يربط بين الحدث وسياقه، بين الصورة والمعنى الذي تشكله في الحرب خاصة وأن الصحفي يتحول هنا إلى «حارس الذاكرة» الذي يحاول أو يسعى ليمنع المأساة من أن تتحول إلى مجرد رقم في تقارير الأمم المتحدة. ولهذا؛ فإن استهدافه هو عملية مزدوجة هدفها إسكات صوت الضحية، وتحرير القاتل من ضغط الاعتراف بما ارتكب.
ما يجري في غزة اليوم يكشف عن ميدان آخر للصراع هو ميدان السيطرة على السرد؛ فالحصار لا يقتصر على الغذاء والدواء، بل يمتد إلى المعلومات التي تسهم في إدانة المحتل، وبمنع الصحافة الأجنبية، وإسكات الصحفيين المحليين يجري خلق فراغ معلوماتي يملؤه الطرف الأقوى بروايته وحدها. وفي هذا الفراغ تتحول الأكاذيب إلى ما يمكن أن تكون حقائق، وتصبح الحرب بلا شهود، وبالتالي بلا ذاكرة.
وخطر هذا الأمر يتجاوز غزة؛ فهو نمط يهدد جوهر النظام الدولي نفسه؛ لأنه يضرب أحد أعمدته: الحق في المعرفة. حين يُقتل الصحفيون بلا مساءلة تتحول «حرية الصحافة» من مبدأ عالمي إلى شعار فارغ، ويصبح الحق في الحقيقة ترفًا مشروطًا بقبول القوى الكبرى له. وحين يقبل العالم هذه السابقة فإنه يفتح الباب أمام جميع الأنظمة الاستبدادية لاستخدام القمع نفسه بذريعة «الضرورة الأمنية».
لا يمكن أن ينظر للصحافة في أوقات الحرب إلى أنها مهنة نقل المعلومة فقط؛ فهي تقوم بأعمال أكبر بكثير في ساحة القتال تمثل في مخاطبة الضمير الإنساني؛ ليستيقظ ويقوم بدوره في وقف المجازر، وهذا فعل مقاومة حضارية ضد المحو والتشويه. وإذا كان التاريخ سيحاكم الجناة فإنه سيحتفظ أيضًا بأسماء من حاولوا إسكات الشهود؛ لأن جريمة إسكات الكلمة لا تقل فداحة عن جريمة قتل الإنسان.
في النهاية؛ الحرب قد تنتهي، لكن آثارها تبقى. وما سيبقى أكثر من الخراب المادي هو الخراب المعنوي الناتج عن غياب الشهود. وحين يغيب الشاهد تصبح الحقيقة أسيرة القوي، والتاريخ ملكًا للمنتصر، بينما تُدفن العدالة تحت ركام الأكاذيب. ولهذا؛ فإن الدفاع عن الصحفيين في غزة هو دفاع عن الحق في التاريخ، وعن آخر ما تبقى للبشرية من ضمانات ضد النسيان.