السائل يقول: هناك روايات وأحاديث كثيرة رويت عن أفعال وأعمال وأقوال للنبي صلى الله عليه وسلم، كما هو معلوم فـي تقسيم السنة، ولكنني لم أجد حديثا واحدا يتحدث عن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب الجمعة ولم ترو عنه خطبة معينة، فقط ما رويت عنه هي خطبة الوداع، فهل هناك دليل على أن هناك خطبا للنبي صلى الله عليه وسلم كان يصعد فـيها المنبر؟ أما الجواب عن خصوص ما سأل عنه وهو مضانّ خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وندرة توثيقها كما وثقت أقواله عليه الصلاة والسلام وأفعاله وتقريراته فـي كتب السنة النبوية، فالجواب هو أن خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم موجودة مبثوثة، فهي قد أفردت بالتصنيف فـي وقت مبكر من تاريخ تدوين علوم هذا الدين، فمن بدايات القرن الثالث الهجري كتب الشيخ علي بن محمد المدائني وقد توفـي فـي مائتين وأربعة وعشرين للهجرة كتابا باسم «خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم»، وجاء بعده فـي القرن الرابع الهجري أيضا الشيخ العلامة أبو أحمد العسال وكتب فـي خطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم مصنفا مفردا، ثم توالت تصانيف المفرد المستقلة لخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وقتنا المعاصر، فمن المعاصرين قبل وقت مضى من الآن الشيخ ملا علي القاري أيضا جمع خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخطب الخلفاء الراشدين وطبع هذا الكتاب، ومن المتأخرين أيضا الذين اجتهدوا فـي جمع خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فـي المناسبات المتعددة ومنها خطب الجمعة الشيخ محمد خليل الخطيب والنسخة التي عندي دون عدد الخطب التي يشتمل عليها الكتاب وهو 574 خطبة من خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، من العلماء المتقدمين أيضا أبو نعيم الأصفهاني له أيضا مصنف مفرد مستقل فـي خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وعلى هذا فلا مبالغة إذا قلت إنه لا يكاد يخلو قرن من قرون الإسلام إلا وقد اشتغل علماء الإسلام بتدوين خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإفرادها فـي مصنفات مستقلة وقد بدأت تظهر بحمد الله تعالى هذه المصنفات وتخرج من صورة المخطوطات التي كانت عليها لتطبع وتحقق وتنشر بين الناس، إذن هذه الدعوة منتقضة بوجود هذه المصنفات التي أفردها من خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيام الجمعة. يضاف إلى ذلك أن كتب السنة تشتمل على قدر كبير من خطبه عليه الصلاة والسلام ويأخذ هذا من مواضع كثيرة وإن لم يصرح الراوي فـيها أن ذلك كان من خطبة جمعة، إلا أنه يصرح أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد خطب فـينا فقال، أو من خطبة له قال فـيها، أو سمعته وهو يخطب، لو بحث طالب علم عن هذه المواضع لوجد قدرًا كبيرًا مما أثر عنه عليه الصلاة والسلام مما قاله فـي مناسبات الخطب، فلم يكن فـي حال جلوسه عليه الصلاة والسلام إلى أصحابه فـي مجالس ذكر أو علم أو فـي مناسبات أخرى سوى الخطب المنبرية، وهذا ليس مما يمكن أن يفهم وإنما مما صرح به فـي كتب السنة، فهنا لا حاجة إلى إبعاد الاحتمال والظن بأن ذلك لم يكن مما سمع منه عليه الصلاة والسلام فـي خطب الجمعة. الأمر الثالث إلى ما تقدم هو أن أكثر ما كان يخطب به عليه الصلاة والسلام يوم الجمعة هو القرآن الكريم كما ثبت عنه أنه كان أكثر ما يعظ الناس به يوم الجمعة فـي خطبة القرآن الكريم مع الشرح والتفسير كان يقتصر عليه الصلاة والسلام فـي أغلب خطبته على مواعظ القرآن، فقد ورد أنه كان يخطب بسورة «ق» وورد أنه كان يخطب بسورة «ص» وورد هذا الوصف الإجمالي أنه عليه الصلاة والسلام كان يخطب بالقرآن لا ينظر إليه أيضا استقلالا وإنما يضاف إلى ما تقدم أنه فـي كثير من الأحوال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعظ الناس ويرغبهم ويرهبهم ويبشرهم وينذرهم بمواعظ القرآن الكريم، أما الأمر الرابع، فإن بعض الناس يقصر نظره على غير المضان التي تلتمس فـيها الخطب فهو يبحث فـي كتب السنة على سبيل المثال ويعدل عن كتب السير ويعدل عن كتب المواعظ ويعرض عن كتب السير والتاريخ مع أن هذه الخطب قد ورد كثير منها فـي غير كتب السنة مع وجود ما تقدم من كثرة فـي كتب السنة التي دونت أقوال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأفعاله وتقريراته، فإن قدرا كبيرا يلتمس فـي كتب السيرة ويلتمس فـي كتب التاريخ ويلتمس فـي كتب المواعظ ويلتمس فـي كتب التفسير، فهذه اشتملت على قدر وافر أيضا من خطبه عليه الصلاة والسلام بأسانيدها ولا يعني هذا أن كل ما اشتملت عليه هذه المراجع والمصادر يمكن أن يكون صحيحا لكنها اشتملت على قدر كبير ويخضع بعد ذلك للصناعة الحديثية، وقد ثبتت صحة كثير مما ورد فـي هذه المراجع فـي كتب السير والتاريخ لاسيما المتقدمة منها كما هو الشأن عند ابن كثير وعند الإمام الطبري وعند أبي نعيم الأصفهاني كما تقدم وفـي كتب المواعظ والعبر ورد قدر كبير وفـي كتب التفسير من خطبه عليه الصلاة والسلام. فبهذا تندحض هذه الدعوى فـي أن خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة لم تنقل إلينا وما نقل منها إلا شيء يسير فبهذه ومجموع ما تقدم يتبين أن هذه الدعوى غير صحيحة والله تعالى أعلم. إلى أي مدى تستطيع الذاكرة البشرية أن تحفظ خطبة كاملة دون أن تدخل عليها شيئا من الإضافات، لأن علماء الحديث علقوا موضوع اختلاف ألفاظ الحديث من حيث الرواية بالمعنى ومن حيث التواتر اللفظي، فهل تستطيع الذاكرة البشرية فعلا أن تحفظ خطب النبي صلى الله عليه وسلم أو أنهم ذكروا منها نتفا معينة؟ هذه قضية مهمة، وهي أن هناك قدرا من التكلف فـي طلب خطب بأكملها لتكون فـي سياق واحد وفـي موضع واحد من كتب السنة هذا من التكلف، ولعله من تكلف غير أهل العلم الذين قد تكون لهم مآرب فـي التشكيك أو فـي الطعن فـي السنة أو فـي الرواية أو فـي تدوين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لأي مآرب أخرى، لكن هو كما تقدم من التكلف أن تُطلب خطب بأكملها من مبتدئها إلى منتهاها فـي نسق واحد فـي سرد واحد فـي هذه المصادر والمضان، لم تكن فـي ذلك الوقت أدوات تسجيل أو آلات تسجيل ومع ذلك ليس لهذا السبب، لأن الحافظة فـي ذلك الوقت ليست كما عليه أحوال عموم الناس اليوم، وما كان يصعب عليهم أو يستغلق على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم العرب الأقحاح الذين كانوا يحفظون النصوص الأدبية من نظم ونثر، ويحفظون خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مهما طالت، وهناك أحاديث طوال فـي الصحاح لا يقل طولها عن خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لكن الذي يحصل هو أنهم يتفاوتون فـي الحفظ، فمنهم من يروي القدر اليسير مما خطب به عليه الصلاة والسلام، لسبب أو لمناسبة معينة، ومنهم من يروي جانبا آخر من خطبته، ومنهم من لا يرى حاجة إلى رواية ما يتصل بالوعظ إن كان من كتاب الله عز وجل لتواتر نقل كتاب الله عز وجل، فـيكتفـي بالوصف الإجمالي أنه كان من عادته عليه الصلاة والسلام أن يخطب بالقرآن. ولذلك فإن هذه الكتب أيضا التي ذكرت بعضا منها، وهذه العناوين موجودة، وأنا عندي من خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أربعة كتب مختلفة، كلها فـي خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لو نظرت فـي الخطبة الواحدة ستجد أنها بضعة أسطر، فـيأتي الراوي بما يرى أنه لم يرد فـي مناسبات أخرى لم يقله عليه الصلاة والسلام فـي مناسبة أخرى، أو بما أراد تأكيده من معان، وهذا الحال يصدق أيضا على ما كنت قد أشرت إليه فـيما يتعلق بالنظر فـي كتب السنة، فإن هذه الفقرات المنقولة نقلت لهذه الأسباب منها ما نقل كما أشار السائل فـي خطبة الوداع، نقلت الخطبة كلها، حتى إشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم نقلت وحتى تعابير وجهه نقل. مع أن خطبه عليه الصلاة والسلام لم تكن بالخطب الطوال كان يوجز عليه الصلاة والسلام وكانت خطبه بليغة، اليوم هناك دراسات على الجوانب البلاغية والبيانية والأحكام التشريعية وخصائص خطبه عليه الصلاة والسلام، نحن نتحدث هنا عن مئات المؤلفات من كبار من اشتغل بالبلاغة والبيان وبالأدب العربي ممن اشتغلوا على هذه الوجوه فـي خطبه عليه الصلاة والسلام، وهذا يؤكد أن هذه الخطب قد نقلت ورويت لكن ما يتعلق بهذه القضية فلا يرجع السبب إلى الحفظ وإنما يرجع إلى الأسباب المتقدمة، والله تعالى أعلم. |
|
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية:
علیه الصلاة والسلام
أنه کان
فـی خطب
ما تقدم
من خطب
أو فـی
إقرأ أيضاً:
علي جمعة يرد على الخلط بين التصوف وتصرفات أتباعه
قال الدكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء في الأزهر الشريف، إنه في العصر الحاضر، خلط كثير من الناس بين تصرفات الصوفية وبين التصوف, كما خلط كثير من الخلق بين أفعال المسلمين وبين الإسلام، وأفعال المسلمين -في أي مكان وزمان- لم تكن أبدًا حجة على الإسلام.

علي جمعة: التصوف في عصرنا الحاضر تاه بين الأعداء والأدعياء

يسري جبر يحدد علامات خروج المريد من طريق التصوف
وتابع علي جمعة في منشور له: بل إن النبي يحذر الناس من فساد الزمان والبعد عن السنة, وفي حديث حذيفة رضي الله عنه -الذي أخرجه البخاري ومسلم- يبين رسول الله أن الشريعة هي الأساس, وأننا سنرى فتنًا, ومخالفة, واختلافًا بين الناس. يقول حذيفة: كان الناس يسألون رسول الله عن الخير, وكنت أسأله عن الشر, مخافة أن يدركني, فقلت: يا رسول الله, إنا كنا في جاهلية وشر, فجاءنا الله بهذا الخير, فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن. قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي, تعرف منهم وتنكر. قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم, دعاة إلى أبواب جهنم, من أجابهم إليها قذفوه فيها. قلت: يا رسول الله, صفهم لنا. فقال: هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا. قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها, ولو أن تعض بأصل شجرة, حتى يدركك الموت وأنت على ذلك.
وأشار الدكتور علي جمعة، إلى أن الحق أن المسلمين ليسوا حجة على الإسلام. ولما أمر أمير الجيوش قال له: وإن حاصرت أهل حصن، فأرادوك أن تُنزلهم على حكم الله, فلا تُنزلهم على حكم الله, ولكن أنزلهم على حكمك, فإنك لا تدري, أتصيب حكم الله فيهم أم لا؟ (أخرجه أحمد).
ولذلك, فإننا عندما نتفاوض, نتفاوض باجتهادنا؛ فليس هذا هو كلام الله ولا كلام رسوله, وإنما هو ما فهمناه من كلام الله ورسوله, ومن أجل ذلك, فإن العلماء من أهل التصوف تقيدوا بالكتاب والسنة, واجتهدوا كما اجتهد الفقهاء, وكما اجتهد أهل العقيدة والمتكلمون, لكنه اجتهاد مقيد بالكتاب والسنة.
وقد نشأت الآن ناشئة تنكر التصوف لما رأته من بعض الخلل أو البدع ممن ينتسبون إليه, ولو نظرنا إلى سيرة رسول الله لوجدنا أن هذا الذي فعلوه مخالف للمنهج النبوي؛ فلقد وجد رسول الله أصناما حول الكعبة، فلم يهدم الكعبة, وإنما أزال الأصنام وأبقى الكعبة, هذا هو المنهج النبوي, إنه منهج رباني.
وتابع: كذلك لو نظرنا إلى قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} نجد أن الصحابة كان عندهم حرج أن يفعلوا تلك الأفعال التي فعلها المشركون عندما قصدوا وحجوا إلى بيت الله, وأرادوا إلغاء السعي جملة, لكن السعي من دين إبراهيم, هذا من الحنيفية، وهو بأمر الله سبحانه وتعالى.
وأكد علي جمعة، على أنه قد خلط المشركون الوثنية بشريعة إبراهيم, فخلصها الله تعالى منها, وجعل شريعة إبراهيم صافية, نحج بها إلى يومنا هذا: من طواف, وسعي, ورمي, ومبيت, ووقوف بعرفة.. إلى آخر هذا, وخلصها من النواقص أو الزوائد التي أضافها الوثنيون المشركون, لم يلغ هذا الأمر, لأن هذا ليس من الإنصاف, وليس من العدل, ورسول الله يعلمنا الإنصاف والعدل, ولذلك خلص هذا من ذاك.
وأوضح أن المنهج واضح: إذا اختلط الأمر, لا نرمي الجميع, بل نُخلّص هذا من ذاك, ونأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر، وننكر البدع والانحرافات، لكن التصوف في عصرنا الحاضر تاه بين أعدائه وأدعيائه؛ فهناك من يتمسك بمجموعة من البدع مدعيًا أنها هي التصوف, والتصوف براء من ذلك.
وأضاف أن التصوف هو حفظ مرتبة الإحسان, وهو مقيد بالكتاب والسنة. وله علماؤه عبر العصور, كتبوا فيه وعاشوا من أجله, وأوضحوه بألفاظ مختلفة في عصور مختلفة. تكلموا عن الزهد, وألف فيه أحمد بن حنبل وغيره من الأئمة, تكلموا عن الورع, والتقوى, وأعمال القلوب, وكتب كل هؤلاء في هذا الباب.
وأكد علي جمعة أننا ابتلينا في عصرنا هذا بمن يريد أن يخالف المنهج النبوي في حقيقة أمره, إلا أنه تزيا -في الظاهر- بالزي النبوي؛ تراه يطلق لحيته, ويقصر ثوبه, ويضع سواكه فوق أذنه وكأنه من الجيل الأول ومن السلف الصالح, ثم تراه -في بعض الأحيان عن جهل, وفي بعض الأحيان عن غرور وكبر- يخرج على المنهج النبوي, أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام, يقولون من كلام خير البرية, لا يجاوز إيمانهم تراقيهم.

طباعة شارك الدكتور علي جمعة الأزهر الشريف الصوفية التصوف الإسلام