د. محمد بشاري يكتب: الإمام أحمد الطيب .. خمس سنوات من ترسيخ الأخوة الإنسانية والتسامح
تاريخ النشر: 4th, February 2025 GMT
تحل الذكرى الخامسة لتوقيع وثيقة الأخوة الإنسانية، التي شكلت علامة فارقة في مسيرة الحوار بين الأديان، وساهمت في إرساء مبادئ التفاهم والتعاون بين مختلف الشعوب والثقافات.
في هذا السياق، يبرز دور فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، كأحد الشخصيات الدينية العالمية التي كرست جهودها لتعزيز قيم التسامح والسلام، ليس فقط من خلال المبادئ والخطابات، بل عبر مبادرات عملية تعكس التزامًا حقيقيًا بترسيخ هذه القيم على أرض الواقع.
منذ توليه مشيخة الأزهر، أدرك الإمام الطيب أن العالم الإسلامي والعالم أجمع في حاجة ماسة إلى بناء جسور التفاهم بين الأديان والثقافات، وأن الحوار بين الحضارات هو السبيل الأمثل لتعزيز التعايش السلمي.
جاءت وثيقة الأخوة الإنسانية، التي وُقّعت في 4 فبراير 2019 برعاية كريمة من صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، كتتويج لهذه الجهود، حيث وقعها الإمام الطيب إلى جانب قداسة البابا فرنسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية، في خطوة أكدت على أن الإنسانية بمختلف أديانها ومذاهبها يمكن أن تتوحد حول قيم السلام والتعاون، بدلًا من الصراع والانقسام.
لم تكن الوثيقة مجرد بيان نظري، بل أصبحت خارطة طريق عالمية تدعو إلى نشر ثقافة الاحترام المتبادل، ونبذ العنف، ومواجهة التعصب والتطرف، والعمل على تعزيز العدالة الاجتماعية والمساواة بين البشر. ومنذ توقيعها، استمرت جهود الإمام الطيب في دعم هذه المبادئ، من خلال لقاءاته الدولية، وحضوره الفاعل في المؤتمرات العالمية التي تسعى إلى إرساء قيم التفاهم المشترك.
على المستوى الوطني، لم تتوقف جهود شيخ الأزهر عند حدود تعزيز الحوار بين الأديان على الصعيد الدولي، بل تجسدت أيضًا في مبادرات داخل المجتمع المصري لتعزيز روح المواطنة والتسامح. ولعل أبرز هذه المبادرات هو مشروع “بيت العائلة المصرية”، الذي أسسه الإمام الطيب بالتعاون مع الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، بهدف تعزيز الوحدة الوطنية، والتصدي لمحاولات بث الفرقة بين المسلمين والمسيحيين. يعتمد بيت العائلة المصرية على حوار مؤسسي بين ممثلي الديانتين، ويعمل على نشر ثقافة التعايش السلمي، وتصحيح المفاهيم المغلوطة التي قد تؤدي إلى التوترات المجتمعية.
في السياق ذاته، تبنّى الإمام الطيب عددًا من المبادرات الاجتماعية التي تهدف إلى تحقيق التكافل بين أفراد المجتمع، مثل مبادرة “بداية”، التي تسعى إلى دعم الفئات الأكثر احتياجًا، وتحسين مستوى المعيشة، وإيجاد حلول للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي تؤثر على استقرار المجتمعات. هذه الجهود تعكس رؤية الأزهر للتسامح بوصفه مفهومًا عمليًا، يتجاوز الأطر الدينية إلى الممارسات اليومية التي تعزز قيم التعاون والمساواة بين الأفراد.
على الصعيد الإسلامي، كان الإمام الطيب من أبرز الداعمين لفكرة تجديد الخطاب الديني، من خلال دعوته إلى قراءة النصوص الدينية برؤية معاصرة منفتحة، تحافظ على ثوابت الدين، لكنها تواكب التحولات التي يشهدها العالم. من خلال رئاسته لمجلس حكماء المسلمين، الذي تأسس عام 2014، قاد العديد من المبادرات التي تهدف إلى تعزيز السلم في العالم الإسلامي، ومعالجة التحديات الفكرية التي تواجه المجتمعات الإسلامية، خاصة فيما يتعلق بالتطرف والعنف باسم الدين. في هذا الإطار، قاد الإمام الطيب عدة جولات حوارية بين الشرق والغرب، التقى خلالها بزعماء دينيين ومفكرين عالميين، بهدف مد جسور التفاهم، والتأكيد على أن الإسلام دين سلام وتسامح، لا صراع وعداء.
رؤية الإمام الطيب للأخوة الإنسانية تتجاوز كونها مفهومًا نظريًا أو خطابًا دينيًا، بل هي مشروع مجتمعي يهدف إلى بناء مستقبل يقوم على الشراكة بين الأديان والثقافات، ويُكرس قيم العدالة والاحترام، ويُحقق التوازن بين الانتماء الديني والوطني. وهو يؤكد دائمًا أن التنوع الديني والثقافي ليس تهديدًا، بل هو عنصر إثراء يجب استثماره في بناء مجتمعات أكثر استقرارًا وانفتاحًا.
هذه الرؤية تجسدت عمليًا في الدور الذي لعبه الأزهر في مواجهة خطاب الكراهية والتطرف، من خلال منصاته الإعلامية والتعليمية، وبرامج التدريب الديني التي تهدف إلى نشر الفكر الوسطي، وتعزيز الفهم الصحيح لقيم الإسلام.
مع مرور خمس سنوات على توقيع وثيقة الأخوة الإنسانية، يتضح أن هذا المشروع لم يكن مجرد مبادرة رمزية، بل أصبح إطارًا مرجعيًا عالميًا لتعزيز الحوار والتسامح. ومع ذلك، فإن التحدي الأكبر لا يزال يتمثل في كيفية ترجمة هذه المبادئ إلى واقع عملي، ينعكس في سياسات الدول، وأنظمة التعليم، ومناهج التفكير الديني والثقافي. هنا، تتجلى أهمية مواصلة الجهود التي يقودها الإمام الطيب، لضمان استدامة هذا النهج، ونقله إلى الأجيال القادمة باعتباره ضرورة مجتمعية، وليس مجرد خيار فكري.
إن العالم اليوم، أكثر من أي وقت مضى، يحتاج إلى شخصيات دينية وفكرية تمتلك الشجاعة الأخلاقية والإرادة الحقيقية لتعزيز قيم التعايش والاحترام المتبادل.
الإمام الطيب قدم نموذجًا رائدًا في هذا السياق، ليس فقط من خلال مواقفه وكلماته، بل من خلال المبادرات التي تركت أثرًا حقيقيًا في المجتمعات.
إن استمرار هذه الجهود يتطلب دعمًا مشتركًا من الحكومات، والمؤسسات الدينية، والمجتمع المدني، لضمان أن تبقى الأخوة الإنسانية نهجًا مستدامًا، وليس مجرد لحظة تاريخية عابرة.
إذا كان الماضي قد شهد صراعات دينية وثقافية تسببت في أزمات متتالية، فإن المستقبل يمكن أن يكون مختلفًا إذا ما التزم الجميع بمبادئ الحوار والتفاهم، وهي المبادئ التي دافع عنها الإمام الطيب، وجعلها جزءًا أساسيًا من مشروعه الفكري والديني. إننا أمام مسؤولية تاريخية لترسيخ هذه القيم ونقلها إلى الأجيال القادمة، لضمان أن يكون التسامح والتعايش ثقافة سائدة، لا مجرد شعارات تُطرح عند الأزمات.
المضي قدمًا في تعزيز الأخوة الإنسانية لم يعد خيارًا، بل هو ضرورة تفرضها متغيرات العصر، وحتمية لبناء عالم أكثر استقرارًا وعدلًا. إن خمس سنوات من الجهود التي بذلها الإمام الطيب في هذا المجال تؤكد أن التسامح ليس مجرد قيمة دينية، بل هو أساس لمجتمع عالمي أكثر تكاملًا، حيث يجد كل إنسان مكانه، ويحظى بفرصة العيش بكرامة وسلام.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: الدكتور أحمد الطيب وثيقة الأخوة الإنسانية الحوار بين الأديان المزيد الأخوة الإنسانیة الإمام الطیب بین الأدیان من خلال فی هذا
إقرأ أيضاً:
د. عصام محمد عبد القادر يكتب: الأمنيات
الرغبة، والطموح، والتمني في بلوغ الأفضل، أو ما تتوق إليه النفس إذا ما كان مشروعًا، ولا ينفصل عن الواقع؛ فتلك أمور حميدة، تشحذ الهمم؛ كي تعلو الهمة، وتنشط الأذهان، وتترجم إرادتنا في صورة أفعال، تحاول أن تحقق أمانينا، التي نتطلع إليها، بل، تحفزنا على تكرار المحاولة في إطار من التخطيط، والتنظيم، والتنفيذ، والمثابرة، والمتابعة، وتقييم ما توصلنا إليه؛ لنزيل العثرات، ونستكمل المسيرة، ونؤكد أن عزيمتنا، وإيجابية النفس لدينا قادرة الدفع بنا دومًا إلى الأمام؛ لنسجل أهدافًا مستحقة.
تعالوا بنا نتفق على أمر مهم؛ ألا وهو أن التمني المشروع، إذا ما أردنا ترجمته إلى واقع، وجعلناه هدفًا إجرائيًا؛ فإن ذلك يتطلب منا بصورة واضحة أن نتبنى سيناريوهات، تحمل خطة مرنة تقبل التعديل، والإضافة في مراحل؛ كي نستثمر ما قد يتواتر لدى أذهاننا من أفكار ملهمة بأن نترجمها إلى آليات، أو خطوات قابلة للتنفيذ على أرض الواقع، وهنا تبدأ الرحلة في إطار جهود مكثفة تجعلنا نستمتع بما نحققه من مراحل، أو خُطوات، ولو بسيطة.
لكن ما نخشاه أن نترك ما نتمنى حدوثه أو تحقيقه لعالم الصدفة، الذي يدفع لنا من بنك الحظ ما تتوق إليه أنفسنا؛ فقد أرى أنه ضرب من وهم الخيال يؤدي بنا إلى منطقة ضبابية، قد تورث في نفوسنا سلبية تؤثر حتمًا على ما قد نتطلع إلى في مستقبلنا القريب، أو البعيد، بل، تضعف لدينا جموح النزال في ساحة المعركة، التي نثبت فيها الذات، ونستطيع أن نؤكد مقدرتنا على تحقيق ما نصبوا إليه؛ لذا يتوجب علينا أن ندرك ماهية التمني وفق الفلسفة، التي ينبثق منها، والتي ينبغي أن تقوم على الربط الوظيفي بين الواقع، وأمنياتنا وتطلعاتنا الإيجابية.
رُبّ سائل يسأل، هل هناك ميزان، أو ضابط للأمنيات، التي تلوح في وجدانياتنا؟، نقول بلسان مبين نعم؛ فقد أوضحنا أن ما نضعه من خطط نسير على خطاها، يتوجب أن تتصف بالمرونة، التي تمنحنا حرية الاختيار، وتجعلنا نراعي مستجدات المتغيرات، التي تطرأ على ساحتنا الخاصة؛ ومن ثم تتنامى مقدرتنا على تجاوز التحديات، أو الصعوبات، التي قد تقف حجر عثرة أمام مسيرتنا نحو أمانينا المشروعة، وهنا نحاول أن نميز منذ البداية بين الطريق الصحيح، والأخر المعوّج؛ فنتجنب الغور في سكة الظلام؛ لنخرج في نهاية المطاف مجبوريّ الخاطر.
الأمر لم ينته عند هذا الحد؛ فهناك حسابات خاصة ندرك من خلالها ما إذا كانت أمنياتنا في إطار الممكن، أم في طور غير الممكن، أو ما نسميه أحيانًا بالمستحيل، وهذا يؤكد الفلسفة، التي ننادي بها، وهي هدوء الخيال؛ كي لا يجنح بنا إلى آفاق بعيدة المنال؛ فكل ما علينا أن نربط بين الأمنية، ومقومات تحقيقها في ساحة الواقع؛ ومن ثم نستطيع أن ندشن سقفًا زمنيًا، يتسم بالمرونة، ونحاول بصدق العزيمة، وإخلاص النوايا، وبذل الجهود، وإتقان الممارسة أن نبدأ المسيرة، التي أزعم أنها ستكلل بالنجاح بمشيئة الله تعالى.
نؤكد أن الأمنيات، التي تكبر في نفوسنا، وتنمو في خيالنا الخصب، وتأخذ مساحة في أذهاننا، تعد ضرورة في توجيه ميولنا، بل، ترتبط بها في كثير من الأحيان، وهذا ما يدفعنا نحو التجربة، ويجعلنا نكتسب مهارات نوعية تضيف إلى رصيد خبراتنا، ناهيك عن سبر غور احتياجاتنا، التي تتغير وفق تدفق الأحداث الجارية، التي تحيط بنا، سواءً داخل الإطار الاجتماعي البسيط، أو الكبير، وهذا ما يولد لدينا قوة الثبات، والصبر، والمثابرة، والمغامرة، التي نتحمل مسئولية نتاجها، وفي كثير من الأحيان تفتح لنا أبوابًا من الابتكار، لم تكن في واحة الحسبان.
يصعب أن نتجادل حول ثمرة الأمنية، التي تذيب الفتور، وتحفز الرغبة، وتعلى من مقدار الجهد الصادق؛ لتدفعنا نحو استدامة العطاء؛ فتتبدل مسارات حب الذات، إلى تحقيق غايات نبيلة، يستفيد منها الجميع، فيعم الخير بفضل أفكار منتجة تتدفق من وجدان راقٍ، صافٍ، لا يسمح للأنانية أن تحوز جزءًا منه، وهذا ما يجعل أصحاب الأمنيات المشروعة يمتلكون المقدرة على التواصل، وتقوية الروابط في إطار ما تحث عليه الإنسانية، كما تزداد لديهم روح التفاؤل، والوفاء بما ينعكس إيجابًا على تعزيز الهوية الوطنية، ويجعلنا دومًا في رباط مواثيق المحبة.. ودي ومحبتي لوطني وللجميع.