في حوار قصير؛ طرح -في تقديري الشخصي- سؤال مهم: أيهما الأهم؛ الشخصية أو الإنسانية؟ ويمكن أن أستدرك بسؤال آخر؛ أيهما أولا: الإنسانية أو الشخصية؟ بمعنى: هل الإنسانية هي نتيجة لأفعال الشخصية، أو الشخصية هي نتيجة الإحساس بمعنى الإنسانية؟ وهو المعنى القائم على «قدرة الشخص على تقديم الرعاية والاحترام وإظهار الضيافة والتسامح.

. وتعزيز الانسجام الحقيقي» -حسب المصدر- وبمعنى آخر أيهما نتيجة للآخر؟ ومن هنا يحضر استنتاج معين؛ مفاده: إن كانت الشخصية هي نتيجة للفهم الواعي للإنسانية، فإن الإنسانية هي الأهم، وإن كانت الإنسانية هي نتيجة لممارسات تقوم بها الشخصية، فإن الشخصية هي الأهم، وهذا كله يعتمد على الرؤية الفلسفية التي يقوم عليها التفكير في كلا الاتجاهين، وهي الرؤية التي تتقصد تفسير المفاهيم، وهذا يعتمد كثيرا على مستوى وعي الفرد الذي يستطيع تفكيك الحزم المعيارية للمفاهيم، وبمعنى أوضح أن كل المفاهيم «التنظيرية» التي يتم تداولها بين الناس، يظل الحكم عليها حكما نسبيا، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تنطبق عليها أحكاما مطلقة، لا تقبل التأويل، وإلا أوقع الفرد نفسه في مأزق التعقيد، فـ«الفلسفة؛ تقدم العبارات المعيارية ادعاءات حول كيف ينبغي أو يجب أن تكون الأشياء، وكيف نقيمها، وأي الأشياء جيدة وأيها سيئة، وأي الأفعال صحيحة، وأيها خاطئة» -وفق المصدر.

يمكن لاستيضاح الرؤية في هذه المناقشة طرح مجموعة من الأسئلة الاستفهامية، والأسئلة الاستنكارية، والأسئلة الإخبارية، والأسئلة التوضيحية، تجلية للفهم الغارق في التعقيد في مسألة المفاضلة بين الإنسانية والشخصية؛ ومن ذلك: هل كلاهما (الشخصية والإنسانية) يتيحان الفرصة لإسقاطهما في القيمة المعيارية؟ بمعنى هل كلا المفهومين قابل للقياس في واقع الحياة؟ وإذا كان الأمر كذلك؛ فيمكن النظر إلى تأثير أحدهما على الآخر؛ أو قد يكون أحدهما نتيجة للآخر؛ أليس كذلك؟ هذا من الناحية النظرية، أما من الناحية العملية؛ فلنستحضر حالة أسرة ما -أي أسرة- ولنسقط عليها الملاحظات التالية: كل أسرة غالبا؛ يتجاوز أعداد أفرادها: الأب والأم؛ أي وجود أبناء؛ بنين وبنات، فهل هؤلاء الأبناء تتوحد صفاتهم، وميولاتهم، وسلوكياتهم؟ الجواب: إطلاقا؛ وبصورة قطعية، هذا إذا سلمنا أن هناك تقاربا شديدا بين الأم والأب في كثير من الصفات، بحكم العشرة، وبحكم التوافق، وبحكم مجموعة من التنازلات للحرص على مصالح الأسرة إلى أطول فترة زمنية في الحياة، ونتيجة لهذا التقييم النظري، فإذا كانت الإنسانية هي أولا؛ فلماذا لم تلق بحقيقتها الإنسانية على كل أفراد الأسرة بنفس المستوى من الإنسانية؟ فمن الأبناء كريم؛ ومتواضع، ومحترم، ومتسامح، وعندها القدرة على الانسجام مع الآخرين من حوله، ومن خارج محيط أسرته، ومن الأبناء سيئ الخلق؛ متجبر، ولعوب شقي/ شقية، يسرق، ولا يقيم وزنا لأي قيمة أخلاقية إيجابية، مع أنهم هؤلاء جميعهم تربوا في كنف أسرة واحدة، ومنشأهم أب واحد وأم واحدة، وإذا جئنا إلى الجانب الشخصي؛ فهؤلاء جميعهم يؤثرون بسلوكياتهم الشخصية على المجتمع المحيط، ولن يستطيع هذا المجتمع المحيط أن يغير من سلوكهم، فهم منساقون وفق فطرتهم أو بنيانهم التكويني النفسي، ولن تستطيع كل المكتسبات التي اكتسبوها أن تؤثر عليهم في تغيير سلوكياتهم، مع أن المكتسبات قوية، ومنطقية، وكثيرة، ويفترض أن تكون مؤثرة؛ بدءا من: حاضنة الأسرة بتعاليمها ونظمها وقوانينها التربوية والأخلاقية، ثم تأتي المدرسة والتي لا تقل من تعدد النظم والتدريبات، بعد ذلك تأتي الحاضنة الكبرى «المجتمع» الذي تتسع فيه مساحة الاشتغال أكثر، وتتنوع فيه النظم والقوانين والتعليمات، والممارسات، ومع ذلك ينفذ كل هؤلاء بسلوكياتهم التي تختمر بين جوانحهم، ولا يقيمون عرضا لكل هذه المحددات سواء عبر حاضنة الأسرة، أو حاضنة المدرسة، أو حاضنة المجتمع، فماذا يعني هذا؛ أليست الشخصية هنا هي التي تملي تأثيراتها على الإنسانية؛ إذا سلمنا أن كل الحواضن الثلاث هي تمتثل الإنسانية، وتنادي بها، وتعض عليها بالنواجذ؟ ومع ذلك نرى أن مسارات الشخصية الـ«ناشزة» في مختلف سلوكياتها تنزع نفسها من كل هذه التأثيرات ولا تقيم لها وزنا، بينما الشخصية المنسجمة مع ذاتها؛ توظف كل هذه الروافد المعرفية والسلوكية، فتصنع منها مساحة إنسانية لا تحدها حدود، ومن هنا يمكن القول إن الإنسانية هي نتيجة مكتسبة لأفعال الشخصية الذاتية المنبثقة من الفطرة، وليس العكس.

يقول الباحث عادل المعولي في كتابه (لما تقدم العلم وتأخر الوعي) ما نصه: «... والأفراد يرثون من أسلافهم خصائصهم الطبيعية؛ حجم أجرامهم، ولون البشرة، وشكل الأنف، وفصيلة الدم والاستعداد للأمراض، ولكن لا يرثون الاختيار الإنساني، فالاختيار الإنساني ينتقل باحتكاك الإنسان بما حوله (من البيئة الطبيعية) وبمن حول من (البيئة الاجتماعية)» -انتهى النص. وإن كان الواقع لا يتطابق بصورة مطلقة مع هذا التقييم، فالاحتكاك الذي يشير إليه الكاتب؛ قد؛ يظل مؤقتا، ثم يعود الإنسان إلى حقيقته البيولوجية الصرفة، وينزع نفسه من كل التأثيرات التي قد يراها أنها تحد من طموحه، أو تحقيق إشباعاته من مختلف الأشياء التي يريدها، وهذه مسألة واضحة لا تحتمل جدلا سفسطائيا مملا، وقد قرأ معظمنا قصة الراعي الذي ربى ذئبا صغيرا وجده في الصحراء، فلما كبر الذئب، واعتلته غريزة الافتراس هجم على شياه الراعي فافترس ما استطاع إلى ذلك سبيلا؛ وولى هاربا في متون الصحراء لا يلوي على أثر من كرم الراعي ورحمته وإنسانيته التي احتوته زمنا من التربية والرعاية والعناية، والذي قال فيها الراعي: «من أنبأك أن أباك ذئبا» والقصة معروفة، ومنشورة لمن أراد الاستيضاح أكثر.

قد يبرر الحديث هنا؛ في مسألة تأثير (الإنسانية/ الشخصية) على الصفة الغالبة في مجتمع ما، فهناك مجتمعات تربت أو عايشت صراعات دموية قاتلة، ظل فيها سيلان الدم على الأرصفة هو المحتكم على نوع، أو شكل الحياة التي يعيشها الناس، وهي حالة «مستنفرة» بلا شك، مثل هذا الواقع التي تتسلط فيه الشخصية على الإنسانية، حيث تصبع الأخيرة هي نوع من الحلم الجميل، فكيف للإنسانية هنا أن تبدو ظاهرة، أو أن يرتفع سهمها وسط هذا الركام من القتل والتدمير والتسلط، كما هو الحال الذي يعيشه الشعب الفلسطيني منذ بدأ نكبته إلى اليوم، فالشخصية العدوانية التي يوظفها العدو في القتل والتدمير؛ أن لها أن تعكس شيئا من وضوح الرؤية لشيء اسمه إنسانية؟ مع أن الإنسانية التي يراها البعض هي المساحة التي يتسع فيها الأفق، ولكن الفعل القاسي الذي تمارسه الشخصية على الواقع لا يدع لهذا الأفق مجالا صافيا للرؤية، وبالتالي فوق هذه الرؤية تظل الشخصية هي المؤثرة، وليس الإنسانية، لأن هذه الشخصية العدوانية القاسية والقاتلة تمثل -وفق تعريف الشخصية-: «الكمية الكلية من الاستعدادات والميول والغرائز والدوافع البيولوجية الفطرية والموروثة، وكذلك الاستعدادات والميول المكتسبة من الخبرة» -بحسب تعريف جوجل. وفي المقابل فالمجتمعات التي تعيش آمنة مطمئنة، وتخلو من الشخصية المرتبكة، فإن ذلك أيضا عائد إلى ذات التعريف أعلاه، ومن هنا يمكن الوصول إلى نتيجة مفادها إلى أن الإنسانية هي نتيجة لفعاليات وسلوكيات ومكتسبات الشخصية، السوية الهادئة، التي لم تصدم تركيبتها الفسيولوجية بحمل قاس يقوض فيها الجانب الإنساني، فالجانب الإنساني يحتاج إلى بيئة نظيفة ينشأ فيها ويكمل دورة حياته بكل انسجام، ولذلك فالبيئات التي تعيش صراعات أمنية، وعدم استقرار؛ تعيش فيها الإنسانية في مأزق كبير، ولذلك تعاني المجتمعات الآمنة من الوفود الآتية من تلك المجتمعات المستنفرة، ومعاناتها تتمثل في أن هؤلاء الوافدين يأتون محملين بثقافات بلدانهم، وهي ثقافات فيها ما فيها من الإجرام؛ بكل أنواعه وقسوته، ولا يتوانى هؤلاء الوافدون في توظيف هذه الحمولة السيئة في البلد المضيف، فتكثر فيه حالات القتل، والسرقة، والرشوة، والخيانة، وانتهاك الأعراض، مما يحمل البلد المضيف أعباء أمنية واجتماعية، وتنموية، تتجاوز الحالة التي كان عليها قبل ذلك.

أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفـي عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الشخصیة هی

إقرأ أيضاً:

متعهد أمني أميركي يفضح مؤسسة غزة الإنسانية

كشف متعهد أمني أميركي -لموقع زيتيو– تفاصيل وخفايا عمل الشركات الأميركية العاملة بتوزيع المساعدات في غزة ضمن برنامج "مؤسسة غزة الإنسانية" وتحدث عن مشاهداته في التعامل غير الإنساني مع الفلسطينيين الساعين للحصول على المساعدات، ودور جيش الاحتلال في الأمر برمته.

وإلى تفاصيل ما تحدث عنه المتعهد والذي أخفى الموقع هويته لتجنيبه المضايقات والاستهداف:

أنا واحد ضمن مئات المتعهدين الأمنِيّين الموجودين في غزة لتوفير الأمن ضمن البرنامج الجديد لمؤسسة غزة الإنسانية المدعومة من الولايات المتحدة. انضممت بسبب عرض لمهمة جيدة بأجر جيد عبر شركة تدعى UG Solutions.

لم يتم تزويدنا بأية معلومات تقريبًا. وأُخبرت بأني التحقت بالوظيفة قبل يومين فقط من موعد المغادرة. وكان كل شيء في اللحظات الأخيرة.

وعندما وصلت إلى واشنطن في 16 مايو/أيار، تلقّينا عرضًا أكثر تفصيلاً. وكان علينا توفير الأمن لمراكز توزيع المساعدات في غزة. وكان يتم التأكيد على "إذا كان هناك شخص يريد أن يحمل سلاحًا بسبب شغفه بالقتال، فعليه أن يجمع أغراضه ويعود إلى منزله، لأن مهمّتنا هي المساعدة". وكان هذا التقديم مرضِيًا بالنسبة لي.

وفي اليوم التالي، غادرنا نحو الشرق الأوسط. وكان مجموع أفراد مجموعتنا يقارب 300 شخص من خلفيات مختلفة، أفراد سابقون في القوات الخاصة، عسكريون سابقون في الوحدات القتالية، أفراد لم يخدموا إطلاقًا في الجيش، بالإضافة إلى أفراد عملوا في تطبيق القانون. وكان بعضهم متقدّماً جداً في السن. وكان هناك نقص في الأفراد بالشركة، وكان يتم تجنيد أيّ كان دون تدقيق كافٍ.

إعلان

ولقد كان الحصول على العتاد صعبًا جداً. ولم تكن هناك بدلة عسكرية كافية للجميع. ولم يتم توفير منظار للتسديد على أسلحتهم (مثل النقاط الحمراء التي تساعد على التهديف). وكان السلاح بحدّ ذاته محطّ تساؤل. وتسلم كلٌّ منا سلاحًا هجوميًا (مثل AR) بالإضافة لمسدس صغير. ولكن لم يتم التحقق أبداً ما إذا كان أفراد الأمن يتقنون التعامل مع هذه الأسلحة حتى أن بعضًا منا تسلم أسلحة آلية.

وفي وقت لاحق، تسلم أفراد آخرون أسلحة غير مميتة مثل رذاذ الفلفل والقنابل الصوتية. ولكن لم يتم التحقق أبداً مما إذا كان أفراد الأمن يعرفون كيفية استخدامها بشكل صحيح. وعلى أيّ مسافة يجب أن ترمي القنبلة الصوتية؟ وأين يتمّ رشّ الفلفل؟ ولأيّ مدَّى؟ ولم يخبروا أحدا بهذا إطلاقًا.

ونتحدث هنا عمن يتعامل مع مجموعات مدنية محرومة حتى من الماء، ونحن على أهبة التجهّز لمهاجمتهم برذاذ الفلفل؟ لمَ؟ هؤلاء لم يأتوا إلا لتلقي المساعدات التي كان يجب أن نعطيها لهم. وكان هذا غير منطقي إطلاقًا.

ولم يكن نقص التحقق من استخدام السلاح المشكلة الوحيدة. فقد كان أفراد الأمن المتقدمون للتعاقد يفتقرون للتدريب الثقافي -وهو أمر مهم للتواصل مع السكان المدنيين في مثل هذه الأوضاع- بما في ذلك أولئك الذين لم يسبق لهم أن تم نشرهم عسكريًا.

حتى أن هؤلاء لم يتم إتاحتهم للتأكد من قدراتهم على النوم والراحة. وكان العمل يتم على مناوبة مدّتها 12 ساعة -4 مجموعات عمل يتبعها يومان إجازة- لكنّ في الحقيقة كان يصل العمل في بعض الأوقات إلى 20 ساعة دون توقف ولا إجازات على الإطلاق.

وكان يقال لنا إنّ مهمّتنا تتّبع القانون الدولي، لكن لم يتم أبداً تحديد تلك القوانين أو التفاصيل التنظيمية. وكان التوجيه الواضح يتمثل في أنك اذا شعرت بخطر على نفسك، يحق لك الدفاع الذاتي وهو ما ترك مساحة واسعة للتفسير.

إعلان

وهكذا كان هناك أفراد يفتقرون إلى الفهم الثقافي والخبرات العملياتية، بالإضافة إلى ضعف التحقق من قدراتهم على التعامل مع السلاح في منطقة اليائسين التي يحتاج أبناؤها إلى المساعدات. وكان هناك احتمال أن تسير الأمور إلى أسوأ ما يتصور أحد، وهو ما حدث بالفعل.

فوضى عارمة

في اليوم الأول -وهو اليوم التالي على وصول مجموعتي رسميًا- كان المكان في حالة فوضى كاملة. وكان عند بوابة التقديم صفوف يتضمن أحدها الأطفال والنساء على جهة، وفي الأربع الأخرى كان هناك رجال. وكان يتم إدخال الناس على مجموعات صغيرة (5، 10، 20) حسب ما كان ممكناً في تلك الفوضى. وكان الترتيب سيئًا جداً، وكان الناس يتزاحمون ويسقطون بسبب التدافع. وفي النهاية، كان الازدحام عند البوابات يتزايد حتى انهارت.

وتراجع أفراد الأمن بسبب الفوضى تاركين الناس تتناول موادّ الإغاثة. ولم يبدِ الناس أيَّ عدوان علينا إطلاقًا -كان هدفهم الوحيد أن يصلوا إلى تلك المساعدات التي تتكون في الغالب من الدقيق والأرز والعدس والأكياس الصغيرة للشاي والنودلز- وهي مواد تتطلب الماء. ولكن لم تكن هناك مياه متوفّرة إطلاقًا.

وقد تراجع أفراد الأمن مرة أخرى إلى محيط أبعد. وعند تلك المرحلة، بدأ بعض الأفراد بإطلاق عيارات تحذيرية في الهواء.

ثم تراجعوا مرة أخرى. وبينما كان الجمع يتدفق على المكان، تلقّينا الأوامر بدفع الناس خارج المكان، حتى لو كان هناك أفراد ما زالوا يلتقطون موادَّ إغاثية من الأرض.

واصطففنا في خط واحد ودفعنا الناس للتراجع. وكان هناك نسوة تبكين بسبب محاولتهنَّ أن يلتقطنَ طعامًا لأطفالهنّ دون أن يتمكَّنَّ من ذلك. لقد كان هذا أبشع منظرٍ على الإطلاق.

وكان أحد أفراد الأمن -وهو الأول الذي أطلق طلقة تحذيرية- كذلك الأوَّل في استخدام القوة البدنية مع فلسطينيّ كان يلتقط موادَّ إغاثية على الأرض، فقد دفعه بقوة حتى أسقطه على الأرض.

إعلان

إن فكرة أنَّ الجيش الإسرائيلي غير متدخل محض هراء. لقد كان متدخلاً بالفعل. وكان له مكاتب ضمن مقارّ شركتنا. وكُنَّا نتقاسم معه التردَّدات اللاسلكية في التواصل. وكان القادة يصرّحون بأنَّ الجيش غير متدخل، لكنه كان في الحقيقة يقف خلف الكواليس. وكان على مقربة منا -على بُعد بضع مئات الأمتار- هناك القناصة التابعون له بالإضافة إلى الدبابات التي تطلق نيرانها على مدار اليوم.

لقد كان ما تبع تلك الفوضى مذهلاً. ولم يتم توزيع طعام على أفراد الأمن ضمن تلك المناوبة التي تستمرّ لساعات طوال. وكان يتم إعطاؤهم بدلاً ماليًا لكي يشتروا ما يريدون في إسرائيل، لكن لم تكن تتسع الأوقات للتسوق ولا النوم. وكان بعض أفراد مجموعتي يتناولون موادَّ إغاثية كان الناس يتركونها على الأرض.

فخ إغاثي؟

لقد علق في ذهني موقف واحد: كنا نرصد موقعًا فارغًا على مدار اليوم. وفي وقت لاحق -بعد حلول الليل- وصلت شاحنات محمَّلة بالمساعدات الإنسانية. ثم أذاع الجيش الإسرائيلي عبر الراديو أنَّ 200-300 مدني يقتربون على بُعد كيلومترين تقريبًا نحو تلك المنطقة.

ولاحقًا، لاحظنا طائرة إسرائيلية دون طيار تتجه نحو المكان. ثمّ تبع ذلك إطلاق مدفعية على تلك المنطقة.

فهل كان التفسير حسن النيَّة؟ ربَّما كان الإسرائيليون يطلقون نيران التحذير لتفادي وصول الناس. ولكن هذا أبعد ما يكون على الأرجح. وفي النهاية، تطلق الدبَّابات نيرانها على مدار اليوم في محيط تلك المواقع. ويطلق القنَّاصة النار من أبنية كان يشغلها في السابق الأطباء في أحد المستشفيات، والنيران والقنابل تتساقط وتتجه نحو الفلسطينيين.

ونعلم أنَّ الجيش الإسرائيلي يفرض بالفعل حظر تجوال في بعض أجزاء غزة. ولا أستبعد أن يتمَّ تسريب تلك المساعدات في الليل على وجه التعمَّد لجذب الناس للخروج لتلقِّي تلك المساعدات، فيعتبرون عندئذٍ مقاتلين ويطلق النار عليهم.

إعلان

وعلى أيَّ حال، يستغلّ الجيش أيَّ ذريعة للتأكد أنَّ هؤلاء يشكّلون خطراً على أمنه. وفي غياب الوجود الدولي للإعلام في تلك المناطق -وفي ظلّ فقدان مصداقية الإعلام الفلسطيني في عيون الغرب- يتمّ طمس الحقيقة. وفي الأثناء يتواصل إطلاق الدبَّابات والنيران والقنَّاصة دون انقطاع، دون أيّ إطلاق نار في الجهة الثانية.

وفي البداية كان توزيع المساعدات محفّزًا للتفاؤل. وكان بإمكانِي أن أبكي بسبب عبارات الشكر التي كان يطلقها الفلسطينيون "شكراً.. نحبّ أميركا". ولكن هذا لم يستمر.

وينبغي أن أكون واضحًا: لم تكن عندِي أيّ انحياز. فأنا أبغض المعاناة الإنسانية وأكره استمرارها. وكان كلّ ما أردت أن أفعله هو أن أقدم المساعدة. ولكن ما نفعله -هذه الشركات الأميركية والمتعهدون الأمنيّون- يزيد الألمَ والخراب ويؤدّي إلى المزيد من المعاناة والقتل في صفوف الفلسطينيين في غزة.

مقالات مشابهة

  • أسما شريف منير: كل ست حرة وعيب نحاكم الناس من بلكونة أخلاقنا الشخصية
  • متعهد أمني أميركي يفضح مؤسسة غزة الإنسانية
  • الأشهر الحرم وفضلها وسبب تسميتها .. احذر من هذه المعصية واغتنم أفضل الأعمال فيها
  • احذرها.. 10 أماكن يُمنع الوقوف أو التوقف فيها بالمركبات
  • 6 أخطاء تبطل الصلاة وتستلزم إعادتها.. تجنب الوقوع فيها
  • "غزة الإنسانية" تتهم حماس بمهاجمة حافلة بها موظفين بالمؤسسة
  • افتتاحية :البشر أولا ... الاقتصاد ثانيا
  • مخالفات يرتكبها سائق السيارة يجوز فيها التصالح.. تفاصيل
  • عضو مجلس الأهلي: كأس العالم للأندية بطولة يشارك فيها الكبار
  • شك فيها فـ طعنها.. الحكم على المتهم بقتل زوجته بمدينة نصر| اليوم