في خطوة فُسرت على نطاق واسع بأنها أكثر من مجرد إجراء اقتصادي، أعلنت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن فرض رسوم جمركية بنسبة 30% على الواردات الليبية إلى الولايات المتحدة. ورغم ضآلة الميزان التجاري بين البلدين، إلا أن هذه الخطوة تحمل أبعادًا سياسية واستراتيجية لا يمكن تجاهلها، وتؤكد أن ليبيا لم تعد خارج مرمى أدوات الضغط الجيوسياسي التي تعتمدها واشنطن في مرحلة “الهيمنة الاقتصادية المعكوسة”.

ليبيا في مرمى النار الناعمة

لفهم دلالات القرار الأميركي، لا بد من النظر في حجم التبادل التجاري بين ليبيا والولايات المتحدة، الذي لا يتجاوز 150 مليون دولار سنويًا (وفق إحصاءات العام 2023)، يتمثل معظمه في استيراد ليبيا لمعدات طبية، وقطع غيار صناعية، ومنتجات غذائية. من جانب آخر، لا تصدّر ليبيا فعليًا إلا كميات محدودة من النفط الخام لبعض الشركات الأميركية عبر وسطاء أوروبيين.

إذن، القرار لا يُفسَّر بمنطق اقتصادي صرف، بل هو رسالة سياسية متعددة الأوجه:

أولها، أن واشنطن تريد تثبيت مبدأ استخدام الاقتصاد كوسيلة ردع ضد الدول التي ترى فيها “مراكز اضطراب غير منضبطة”.

وثانيها، توجيه رسالة غير مباشرة لخصومها الجدد في الملف الليبي، خاصة موسكو وباريس، مفادها أن واشنطن ما زالت قادرة على التأثير من بوابة الاقتصاد حتى في بيئات النفوذ المتضارب.

هل ستتأثر ليبيا؟

اقتصاديًا، لن تشعر السوق الليبية بأثر فوري للقرار، بحكم محدودية التعامل المباشر مع السوق الأميركية، واعتماد ليبيا على تركيا، إيطاليا، مصر، الصين، ألمانيا كمصادر توريد رئيسية.

لكن، سياسيًا:

فإن الإجراء يكشف تحولًا مهمًا في النظرة الأميركية إلى الملف الليبي، وربما تهيئةً لإعادة ترتيب أوراق التفاوض داخل ليبيا، خاصة بعد تعثر المسارات الأممية.

كما أنه يضرب مصداقية أطروحات “الشراكة الاقتصادية” التي لطالما بشرت بها الإدارات الأميركية السابقة.

الرسالة بين السطور: إعادة التموضع الأميركي

قد يرى البعض أن ترامب يلجأ إلى هذه الأدوات لكسب أوراق خارجية تُستخدم في مشهد انتخابي داخلي متوتر، لكن واقع السياسة الأميركية يقول أكثر من ذلك: الإدارة الجديدة تُعيد تشكيل العقيدة الأميركية في العلاقات الدولية، معتمدة على أدوات غير عسكرية لكنها موجعة: الرسوم، العقوبات، تقييد التحويلات البنكية، الضغط عبر مؤسسات التمويل الدولية، ومؤخرًا عبر “استدعاء ملفات فساد أو جريمة منظمة” عبر كيانات موازية.

ما المطلوب من ليبيا؟

تحليل سياسي واقتصادي سريع للقرار وآثاره المباشرة وغير المباشرة، لا الاكتفاء بالبيانات الإعلامية. إعادة بناء الاستراتيجية التجارية الليبية بما يضمن التنويع الحقيقي في الشراكات والتوريد، خاصة مع القوى الصاعدة مثل الصين وتركيا والهند. التحرك عبر أدوات القانون الدولي التجاري مثل منظمة التجارة العالمية، ومراسلة البعثات التجارية في أوروبا وأفريقيا لاحتواء أية موجة مشابهة. استخدام الورقة السيادية بذكاء: فليبيا ما تزال ورقة استراتيجية في المتوسط، في الطاقة، في الهجرة غير الشرعية، وفي الأمن الساحلي، ويمكن استثمار هذه المعطيات لإعادة فرض احترام متبادل مع القوى الكبرى، بدلًا من الخضوع لمنطق المعاقبة التجارية.

خاتمة: ليبيا ليست ضعيفة، بل مستهدفة

القرار الأميركي يجب أن يُقرأ كتحذير وليس كضربة، وكفرصة لبناء استقلال اقتصادي حقيقي لا يعتمد على هشاشة السوق العالمية. إن بناء دولة ذات قرار سيادي يبدأ من تحصين المنظومة الاقتصادية، وليس فقط من بوابة الأمن والعسكرة.

فليبيا التي كانت يومًا “مفتاح البحر المتوسط”، يجب أن تعود اليوم إلى موقعها: شريكًا لا تابعًا، وفاعلًا لا مجرد متلقٍ لرسائل سياسية ملفوفة في أوراق جمركية.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

المصدر: عين ليبيا

إقرأ أيضاً:

مديرة صندوق النقد تتوقع خفض الفائدة الأميركية

قالت كريستالينا غورغيفا مديرة صندوق النقد الدولي لرويترز إن مجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) قد يخفض أسعار الفائدة مجددا هذا العام، ولكن سيتعين عليه أن يوازن بعناية بين آفاق النمو المتراجعة ومؤشرات على توقف تباطؤ التضخم.

وذكرت غورغيفا أن الاقتصاد الأميركي أثبت قوته وتفوق على معظم التوقعات مع نموه في الربع الثاني بنسبة 3.8 بالمئة، وأن الطلب الاستهلاكي لا يزال قويا على الرغم من المؤشرات التي تظهر أن التوظيف ليس بالقوة نفسها.

وأضافت غورغيفا في مقابلة أجريت معها الأربعاء "إنها صورة غير واضحة تماما... لذا، في ظل هذه البيئة، وبالنظر إلى توقف تباطؤ التضخم وإلى أن الاقتصاد قد يكون ضعيفا بعض الشيء أيضا، فمن المهم بشدة أن يقوم الاحتياطي الاتحادي بالأمر الصحيح".

كان البنك المركزي الأميركي قد خفض أسعار الفائدة بمقدار ربع نقطة مئوية في اجتماعه في سبتمبر، وهي الخطوة التي وصفها رئيس البنك جيروم باول وآخرون بأنها وسيلة لإبقاء السياسة مشددة بما يكفي لكبح الاقتصاد وفرض ضغوط هبوطية على التضخم، مع توفير سياسة أكثر مرونة يمكن أن تساعد في التأمين ضد الضعف السريع لسوق العمل.

وقالت إن المستهلكين لم يشعروا حتى الآن بالأثر الكامل لفرض الرئيس الأميركي دونالد ترامب رسوما جمركية مرتفعة لأن الشركات كانت زادت مخزوناتها قبل رفع الرسوم، مشيرة إلى أن بعض الشركات التي تتمتع بهوامش ربحية كبيرة تتحمل التكلفة.

وأضافت أن رفع ترامب للرسوم الجمركية يأتي بعد عقود من الرسوم الجمركية المنخفضة للغاية في الولايات المتحدة والتحركات التي اتخذتها دول أخرى قبل نحو عقد من الزمن لخفض رسومها.

وأدى تغيير ترامب لتلك المعادلة إلى تحويل الاقتصاد العالمي ليصبح متعدد الأقطاب بشكل حقيقي، إذ تستكشف كثير من البلدان الآن فرص التعاون مع شركاء إقليميين أو توقيع اتفاقيات متعددة الأطراف مع مناطق أخرى.

وقالت إن هذا العالم الجديد مستمر على حاله على الأرجح.

وتابعت "لا أعتقد أننا سنعود إلى العالم الذي كان لدينا، إذا شئتم وصفه بذلك، قبل جائحة كوفيد-19 قبل أن تأتي كل هذه الصدمات وتضربنا... أرى إمكانات هائلة في أماكن مثل رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، مثل الخليج، وبعض المناطق في أفريقيا حيث توجد اقتصادات قوية، للتحرك في هذا الاتجاه نحو مزيد من التكامل الإقليمي في التجارة والخدمات المالية، وأعتقد أن هذا أمر جيد".

مقالات مشابهة

  • خبير اقتصادي يتحدث لـ«عين ليبيا» عن تأثير فتح مكتب البنك الدولي على الاقتصاد الليبي
  • مديرة صندوق النقد تتوقع خفض الفائدة الأميركية
  • لم أمت بعد.. دولي بارتون تفنّد الشائعات التي طالت صحتها مؤخرًا
  • حرب غزة بلا أفق سياسي.. وترامب قد يغيّر المعادلة
  • خبير اقتصادي: موارد ليبيا «وفيرة»… والنجاح يتطلب إدارة رشيدة لا تعتمد على النفط
  • حماس تُحوّل خطة ترامب إلى مكسب سياسي
  • استجواب وزيرة العدل الأميركية أمام مجلس الشيوخ بتهمة تسييس القضاء
  • محلل سياسي: تراجع شعبية دونالد ترامب إلى نحو 28%
  • انتهاء برنامج أغوا بصمت يربك مستقبل التجارة الأفريقية الأميركية
  • ابتزاز سياسي للمقاومة في شرم الشيخ.. مفاوضات تحت النار