جريدة الرؤية العمانية:
2025-07-13@02:39:43 GMT

ظفار.. أرض اللبان و"التباشير"

تاريخ النشر: 24th, May 2025 GMT

ظفار.. أرض اللبان و'التباشير'

 

 

 

د. محمد بن عوض المشيخي **

 

انفردت سلطنة عُمان عن غيرها من دول العالم بأنَّها أقدم كيان سياسي وجغرافي في الخليج العربي، بتاريخها العريق وإرثها التليد الذي أزعم أن لا يوجد مثيل له في العالم، لم لا وهي أرض الغبيراء الشامخة التي أنعم الله عليها بقيادات حكيمة وسلاطين أوفياء للوطن وتراثه الخالد، فهذا السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- يجوب في شوارع صلالة في العقود الأولى للنهضة العُمانية، لكي يتفقد اللوحات التجارية للمحلات والشركات التي لا تنسجم مع أصالة البلاد، وقد وجد ذات مرة لوحة بعنوان "فنون الخليج"، وأمر بتغييرها فورًا لتكون "فنون الغبيراء"؛ هكذا هي السياسة والتوجه العام لهذا البلد العزيز للحفاظ على كنوز الوطن الغالية التي لا تُقدَّر بثمنٍ.

ومن هنا تكمُن أهمية الخبراء والفنانين والشعراء في الاختيار من تلك الكنوز والشواهد التاريخية، وما أعظمها، وليس البحث عن شعارات جديدة من مُخيلة المُفكِّرين والرسَّامين والتي تُكلِّف الكثير من المبالغ المالية، وقبل ذلك كله تحتاج لعقود طويلة لكي تترسخ في أذهان الناس، وخاصة زوار محافظة مثل ظفار، الذين يعرفون جيدًا أن اللبان هو هوية ظفار وشجرته المباركة، التي تُجسِّد شعارها الأبدي بلا منازع عبر الأزمان؛ لكونه محفورًا في ذاكرة أجيال المحافظة، أبًا عن جَدٍ. لذا يجب الاعتراف بأنَّ لكل محافظة أو ولاية في السلطنة، رموزها وشواهدها التاريخية التي تُميِّزُها عن غيرها، وعلى وجه الخصوص محافظة ظفار التي فيها الشجرة المقدسة لمعظم حضارات العالم منذ فجر التاريخ، وعلى وجه الخصوص حضارات السومَريين والإغريق والمصريين القدماء والرومان. والمؤرخون يشيرون إلى ثلاثة هدايا قُدِّمت لنبي الله عيسى بن مريم- عليه السلام- عند ولادته وهي (اللبان الظفاري والذهب والمر).

وخلال الأسابيع الماضية عجَّت منصات التواصل الاجتماعي في السلطنة ومجالس شيوخ ووجهاء ظفار بالجدال والمساجلة حول الهوية الجديدة لمحافظة ظفار والشعار الذي أصبح يُوسم بـ"ظفار أرض التباشير"، والذي يدل على أكثر من معنى؛ فالتباشير عبارة عن "شكل معماري يُزيِّن رؤوس البيوت القديمة في جنوب الجزيرة العربية"، بينما توصف هذه الكلمة باللغة الدارجة في شمال السلطنة بأنه كان أهل عُمان إذا بَشَّر النخلُ بالرطب سموه "تباشير"، بدلًا مما هو متعارف عليه سابقاً ضمنياً "ظفار أرض اللبان". وخلاصة تلك المناقشات الجادة والآراء المسجلة تكشف عن استغراب وتعجُّب من الشعار الجديد، وما الأسباب التي دفعت بالمسؤولين لتجنُّب استخدام "اللبان وشجرته" كواجهة حضارية لظفار؟!

لقد تواصل معي العديد من الشعراء والأدباء من المحافظة، يتساءلون لماذا لم يرجع المختصون إلى المجتمع المحلي للاستئناس برأيهم؟ لكن يبدو لي أنَّ هناك من يبحث عن الجديد بأي طريقة كانت، فنحن نعيش في عالم مُتغيِّر، يُؤمن فيه البعض بالحداثة على حساب الماضي التليد، وذلك بما قد يحمل من جوانب تُوصَف بأنها بحاجة إلى تصويب لكي تُناسب العصر. وكلمة "تباشير" تُشير إلى الأنباء الطيبة والتفاؤل والمستقبل الواعد، وهذه نتيجة رائعة؛ فالفكرة ممتازة لتقديمها لمنطقة تفتقد لإرث حضاري، لكن شعار "أرض التباشير" لا يُقارن بأي حال من الأحوال بأرض اللبان وشجرتها التي تُعبِّر بكل ما تحمله الكلمة عن المجتمع في ظفار؛ إذ إنَّ عبق اللُبان وروائحه الجذَّابة تُعطِّر كل ركن من أركان البيوت العُمانية؛ بل عبر العالم من أقصاه إلى أقصاه.

لكن "التباشير" بما تحمله من بشائر الخير والعطاء، يُمكن أن تكون شعارًا لحملة إعلامية لموسم "خريف ظفار 2025"؛ فالترويج للحملة يحتاج من 3 أسابيع إلى 6 أشهر لكي تنتقل مضامين تلك الحملة من وسائل الإعلام إلى الجمهور، بينما الترويج للهُوية يحتاج لوقتٍ أطول بكثير. ويجب تذكير الجميع أن هناك اختلافًا بين الشعار والهوية، والأخيرة أكثر شمولية، وتتكون من عدة عناصر؛ هي: "مختلف التصاميم والشعارات المرئية- العلامة التجارية (brand) والتي تظهر بها المؤسسة أمام الآخرين والتي تعني الشعار المعتمد".

الكُل يُثمِّن الجهود الجبارة المبذولة من مكتب محافظ ظفار وجميع العاملين في ذلك الصرح العظيم، الذين يُنظَر إليه بأنه يضم كوكبة من الشباب الواعد الذين يعملون بلا كللٍ أو مللٍ لتطوير ظفار وولاياتها المختلفة، وعلى رأسهم صاحب السمو السيد مروان بن تركي آل سعيد محافظ ظفار، الذي عُرف بإمكانياته القيادية وأفكاره الإبداعية، وقبل ذلك بدماثة خُلقه وإخلاصه، وجهوده الحثيثة لتطوير محافظة ظفار، وجعلها في مقدمة الوجهات السياحية في المنطقة العربية. ولا شك أن نجاح الهوية أو الشعار الجديد من عدمه لا يعني نهاية الطريق؛ فللمجتهد أجران إذا أصاب، وأجر اجتهاده إذا أخطأ.

في الختام.. ونحن على أبواب "خريف ظفار 2025"، فإن أكثر ما تحتاجه المحافظة في هذه الأيام هو تفعيل الخدمات ومشاريع الطرق المُنفَّذة حاليًا في مدينة صلالة، ومتابعتها بشكل يومي؛ لكي نُخفِّف الاختناقات المرورية التي قد يُسببها قطع أوصال الشوارع التي تخضع حاليًا للصيانة والتوسُّعات الازدواجية للشوارع، والأهم من ذلك كله التعجيل بتنفيذ المشاريع الجديدة، كشق طريق غرب دربات وطريق "هيماء- ثمريت" الذي طال انتظاره. كما إن تركيب أحجار الإنترلوك في الأماكن العامة التي يرتادها السياح أمر ضروري؛ إذ إن الأسواق تتحول إلى برك مائية يتجمع فيها البعوض وتسبب تعطلًا في إنسيابية المرور، خاصةً في سوق السعادة الذي تم افتتاحه في ثمانينيات القرن العشرين، وهو وجهة للكثير من الزائرين في الموسم السياحي، لذلك أصبح من الضروريات التي لا مفر منها.

** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

الخريف في ظفار... حين تتعاظم المشاعر

يُعد يوم الحادي والعشرين من يونيو من كل عام موعدًا استثنائيًّا في وجدان كل أبناء محافظة ظفار، من الحضر والريف والبادية؛ إذ يستعد الجميع لاستقبال موسم خريف ظفار، ولكلٍّ منهم أسبابه، ولكلٍّ طقوسه، غير أن الترحيب بهذا الفصل محفوف دومًا بالمحبة والحنين، وكأن الزمن يعود بنا إلى جذورٍ ضاربةٍ في الأرض.

فمواسم المطر لدى شعوب العالم كافة هي مواسم للخير والعطاء، وللفرح والازدهار. فحيثما وُجد الماء، نمت الحضارات، وازدهرت الحِرَف، واغتنى الإنسان، وتوسعت التجارة، وتفرّغ الناس للعلم ومجالسه وكتبه وتدارسه. وحين يطول الاستقرار، تترسخ العلاقة بين الإنسان وأرضه، ويتعمق الانتماء إلى الوطن، ويورّث الموروث، وتتشكل الملامح الجمعية المستمدة من الأرض ومناخها ومواسمها.

ومع تسارع وتيرة التنمية والازدهار، أصبحت لفصل الخريف أهميةٌ اقتصادية كبرى في سلطنة عُمان، من خلال استقطاب آلاف السياح إلى محافظة ظفار، في مشهدٍ يتجسد فيه تكامل الأدوار بين المؤسسات الحكومية، والقطاع الخاص، وأفراد المجتمع، كلٌّ في موقعه، يؤدي رسالته، ويسهم في صناعة تجربة سياحية راقية.

وفي هذا الموسم، تزدحم الشوارع ازدحامًا محببًا؛ فالوجوه معظمها مألوفة، والطباع يغلب عليها الالتزام والاحترام للعادات والتقاليد، ويشعر الزائر أنه في بلده، في ظل ما توفره الجهات المختصة من خدمات نوعية ومشاريع ترفيهية، تُيسر زيارته، وتمنحه شعورًا بالراحة والانتماء.

إنّ من أبرز ما يميز أهل ظفار -كما ألحظ ويشعر به الكثيرون- أسوة بأهل عُمان جميعا، هو نبل المعاملة وصدق الترحاب، فلا فرق لديهم بين مواطن أو مقيم أو سائح؛ الجميع ينالون ذات التقدير، وذات الخدمات، وذات الاحترام، فالقانون يُطبق بعدالة، والإنسان يُقدَّر بصفته إنسانًا، وهي سمة راسخة في الشخصية العُمانية الأصيلة.

أما في دواخلنا، نحن أهل ظفار، فلفصل الخريف مكانةٌ لا تضاهيها مكانة؛ يتعاظم فيه كل شعور... الفرح، والبهجة، والنجاح، ولقاء الأحبة، والسكينة، والاستمتاع بالإجازة، وفي الوقت ذاته يتضاعف الحنين، ويشتد وقع الفقد في القلب، لمن غابوا، ولمن لم يعودوا كما كانوا. يبدو المكان في هذا الفصل وكأنه يرقّ لدمعة القلب، يواسيك بصوت المطر، ويحتضنك بضباب الجبل، ويُربّت عليك بندى الفجر، كأن الأرض كلها تخبرك: «إن من رحلوا يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وأن لهم عند الله خريفًا أبديًّا لا يعرف الفقد».

وهذا الارتباط العاطفي بالخريف ليس وليد اليوم، فمنذ أزمان بعيدة، كانت للخريف فنونه ومواويله الشعبية التي تُروى وتُغنّى في المجالس.

ومن أبرزها: شعر النانا وشعر الدبرارت، وهما فنّان شفهيّان يُؤدّيان باللغة الشحرية، تُغنَّى قصائدهما بأصوات شجية، دون استخدام آلات موسيقية، وتتناول مختلف الموضوعات: الرثاء، والفخر، والغزل، والنصح، والمديح.

ولا تزال هذه الفنون تُمارَس اليوم بأداء لغوي أصيل، يحفظ جمالية اللغة الشحرية، وتكرّس الهُوية الثقافية لجيل الشباب، ويحظى من يؤدّيها بتقدير اجتماعي كبير، فهي ليست مجرد غناء... بل هي رسالة أخلاقية وتربوية. كلماتها تُنتقى بعناية، فتخلو من الابتذال، وترتفع بالقيم، وتدعو إلى الكرامة والعزة، وتمجّد مكارم الأخلاق، وتربط الإنسان بجذوره وأجداده وسيرهم الطيبة، حتى باتت هذه الفنون أحد أساليب التربية المحلية المتوارثة جيلًا بعد جيل.

أما عن التجمعات في موسم الخريف، فهي جزء أصيل من النسيج الاجتماعي، حيث يجتمع الناس -لا سيما في القرى والاستراحات- في جلساتٍ ممتدة حول شبّة النار، في أمسياتٍ يطول فيها السهر، تتعالى خلالها الضحكات، وتتلاقى الأرواح.

ورائحة دخان الحطب حين يشتعل، ليست مجرد أثر عابر، بل هي عطر يعشقه الأهالي في ظفار، وينسج في الذاكرة مشاعر الدفء والحنين.

وغالبًا ما تكون تلك التجمعات خارج نطاق الأسرة الضيقة، فالشباب يجتمعون مع أصدقائهم، والنساء مع الجارات أو القريبات، في صورةٍ حيةٍ للتلاحم الاجتماعي، حيث يُروى الحديث، ويُغنّى الشعر، ويُستعاد الماضي، في خريفٍ لا يوثق فقط جمال الطبيعة، بل يحفظ نبض الإنسان وأصالته.

مقالات مشابهة

  • “الشعار”.. ميزانُ المواقف
  • ليلى خالد... المرأة التي هزّت سماء العالم
  • غدًا.. السيد ذي يزن يُطلق النسخة الثانية من برنامج الانضباط العسكري بظفار
  • السيد ذي يزن يُطلق النسخة الثانية من برنامج الانضباط العسكري بظفار
  • أردوغان: العالم الذي صمت مع سربرنيتسا يكتفي بمشاهدة الفظائع في فلسطين
  • أردوغان: العالم الذي صمت مع سربرنيتسا ويكتفي بمشاهدة الفظائع في فلسطين
  • في ذكرى رحيله.. عمر الشريف النجم الذي عبر حدود السينما إلى قلوب العالم (تقرير)
  • ما الذي يحرك الطلب على المشاريع العقارية التي تحمل توقيع المشاهير؟
  • الخوذة التي تقرأ المستقبل.. الإمارات تُطلق أول جهاز توليدي بالذكاء الاصطناعي
  • الخريف في ظفار... حين تتعاظم المشاعر