تحدّثت السمراء.. حين سألها أحدهم: كيف حالكِ يا قهوة؟
تاريخ النشر: 29th, June 2025 GMT
طوال قرونٍ خلت… كانوا هم من يتحدثون عني، يُشيدون بي، يشربونني في حزنهم وفرحهم…
لكن، هل خطر ببال أحدهم… أن يسألني: كيف حالكِ يا قهوة؟
أنا لستُ مجرد مشروب يُرتشف وينسى…
أنا حكاية تُسكب في كل فنجان،
وصمتٌ ثقيل أثقلته الأسرار.
أنا لستُ سكونًا يُحتسى،
ولا رفيقة تُستأنس بها عند الحاجة.
أنا التي تحترق كي تبعث فيكم دفئًا،
أنا التي ما نطقت يومًا… لكني كنتُ أُصغي إليكم جميعًا.
كنتُ هناك…
في أول اعترافٍ مرتجف،
وفي آخر وداعٍ لم يُقال.
سمعتكم تنادون الغائبين باسمي،
وترتقون شقوق قلوبكم برشفتي.
لم أكن يومًا “قهوة” فقط،
كنتُ الصمت الذي يحتمل،
والرائحة التي تعود كلما فرّ منكم الحنين.
وكلّما اقترب الليل من نوافذكم،
وهمست الوحدة بأسمائكم…
هرعتم إليّ، لا حبًا بي، بل خوفًا منكم.
تشربونني مرّة…
ثم تلومون مرارتي!
أنسيتم أنني ثمرة احتراق؟
وأن في كل رشفةٍ مني،
شيئًا من تعب الحصّادين،
وكثيرًا من لامبالاة الجالسين؟
“تغنّى بي الشعراء… فهل سمعني أحد؟”
كم شاعرٍ جرّ قلمه إليّ،
وقال إنني “سُكر الليالي” و”دفء المنازل”،
كتبوا عني كأنني عشيقة،
وأنا، في الحقيقة… كنتُ أرملة الكلمات،
لا يذكرني أحد إلا حين تفقد الحروف لونها.
قال أحدهم ذات مساء:
“قهوتي أنتِ… وسرّ التنهيدة،
وفجري الذي لا تملّه عيوني.”
تبسّمتُ حينها، لا لأنني فرحت،
بل لأنني عرفت أنني مجرد فاصلٍ بينه وبين وحدته…
ونغمةٌ عابرة في لحظة حنين.
وقال آخر:
“وفي فنجانها المسكوب ظلّي،
وكلّ مواجعي في قاعها.”
فهل رآني؟
هل شعر بمرارة الأعماق فيّ؟
أم فقط أسقطني في قاع بيته…
كما أسقط روحه في الحياة؟
أنا لا أغضب من الشعراء،
هم أصدق من غيرهم،
لكنهم لا يسألونني أيضًا:
“هل تتعبين من كونك مرآةً لا تُرى؟”
قالت لي بصوتٍ يشبه هدأة الفجر:
– إلى متى سأظلّ أحتملك؟
كل مساءٍ تأتي مثقلًا، وتُفرغ قلبك في جوفي،
كأنني حفرة اعتراف، لا يفصل بينك وبينها سوى البخار.
تتنفّسني شوقًا،
وتسقيني كلماتٍ متعبة،
ثم تتركني وحيدةً على الطاولة،
باردة ككلماتك الأخيرة.
أتعلم؟
أنا لا أحبّ الحزن،
لكنكم علّقتم اسمي به،
كأنني خُلقتُ لأُحتسى حين تنكسرون فقط.
فقلتُ لها، وأنا أضمّ الكوب براحة كفّي كمن يحتضن صديقًا يعرف كل شيء:
– بل أنتِ السرّ الذي لا يُقال،
والظلّ الذي لا يغيب،
أنتِ الرفيقة التي لم تخذلني،
والصوت الوحيد الذي بقي حين خفتت الأصوات.
أتدرين لماذا أعود إليكِ؟
لأنكِ لا تسألينني عمّا يؤلمني،
ولا تفضحين ما أخفيه.
كنتِ دائمًا كأنكِ تقولين:
“أفرغ ما شئتَ من الحزن…
فأنا لا أشي، ولا أعاتب، ولا أهرب.”
ولهذا، يا سمراء المساء…
أنتِ لستِ مرّة كما يزعمون،
بل فقط… تتشبّهين بنكهة الصدق.
قالت القهوة، وقد أمالت رأسها على حافة الفنجان:
– لا أحد يعلم أنني أحمل في جوفي أكثر من نكهة…
أحمل سرّ من ندم ولم يستطع الاعتذار،
وأحمل نظرة ذلك العاشق الذي انتظر طويلًا على قارعة الذكرى.
سُكبت فيّ دموعٌ لم يُعترف بها،
وغَرِقَت فيّ كلماتٌ كان ينبغي أن تُقال… لكنها اختنقت بين القلب والفم.
أنا التي شهدت على:
– رسائل حُب لم تُرسل،
– وقرارات طلاق لم تُعلن،
– وأحاديث مع الله في ساعة ضيق،
– ووجع أمٍّ ترتجف على غياب ابنها…
كلّ هذا في رشفاتٍ مرتجفةٍ مرت بين أنامل الوجع.
وأنا صامتة…
لا أحتج، لا أُعاتب،
أُطفأ، وتُترك فتاتي في فناجينكم…
ثم يُكتب عني: “قهوة مرّة.”
وفي نهاية الحديث…
عادت القهوة إلى صمتها الأبدي،
لكنها لم تنسَ أن تهمس، ولو مرة أخيرة:
“لا بأس… سأظلّ المرآة التي لا تُكسر،
والرائحة التي تُبعث من الرماد،
والرفيقة التي تحفظ أكثر مما يُقال.”
ثم سكنت برهة…
كأنها تعود إلى ذاتها، وتقول بصوتٍ لا يسمعه أحد:
“أنا القهوة… سمراءُ القلب لا الوجه،
عميقةٌ حدّ الوجع،
مريرةٌ بقدر ما تداوي.
وفي كل فنجانٍ يُسكب مني…
تُلقى قطعةٌ من قلبي… دون أن يشعر أحد.
المصدر: صحيفة صدى
كلمات دلالية: التی ت
إقرأ أيضاً:
الأربعين .. موكب الإيمان الذي يوحّد العراق
بقلم : الحقوقية انوار داود الخفاجي ..
تأتي زيارة أربعين الإمام الحسين عليه السلام كل عام، لتكون أكبر تجمع بشري في العراق والعالم، وأعمق مناسبة روحية واجتماعية تعكس جوهر القيم الإنسانية التي نادى بها الحسين في كربلاء العدالة، الكرامة، ورفض الظلم. هذه الزيارة التي تتخطى حدود الطائفة والدين والمذهب، أصبحت رمزًا حيًّا لروح المواطنة العراقية، وجسرًا يربط بين أبناء البلد الواحد مهما تباعدت آراؤهم أو اختلفت مشاربهم.
إن مشهد الملايين من الزائرين وهم يسيرون على الأقدام نحو كربلاء، محملين بالمحبة والتضحية، يعكس وحدة نادرة في زمن الانقسامات. ففي الطريق، تذوب كل الفوارق الاجتماعية والطبقية، ولا فرق بين غني وفقير، أو عربي وكردي وتركماني، أو مسلم ومسيحي وصابئي. الجميع يخدم الجميع، والجميع يمشي من أجل مبدأ واحد نصرة الحق الذي مثّله الإمام الحسين.
روح المواطنة تتجسد في أبهى صورها على طول طرق المسير، حيث يفتح الأهالي بيوتهم، وينصبون السرادقات، ويقدمون الطعام والماء والخدمات مجانًا لكل من يمر، بلا سؤال عن الهوية أو الانتماء. إنها مدرسة عملية في التضامن الاجتماعي، تحيي القيم الأصيلة التي يحتاجها العراق لبناء مستقبله، وتؤكد أن قوة البلد تكمن في تلاحم شعبه.
هذه المناسبة أيضًا تُظهر قدرة العراقيين على التنظيم الذاتي، والتعاون الطوعي، والإيثار. ففي وقت الزيارة، تتحول المدن إلى ساحات عمل جماعي، يشارك فيها الجميع، من الشباب إلى كبار السن، من النساء إلى الأطفال، كلٌّ يسهم بما يستطيع، وكأن العراق كله جسد واحد وروح واحدة.
قدسية الأربعين لا تتوقف عند الجانب الديني فحسب، بل تمتد لتكون مناسبة وطنية جامعة، تُعيد تذكير العراقيين بأنهم أبناء أرض واحدة، وتزرع في الأجيال الجديدة إحساسًا بالانتماء والاعتزاز بالهوية الوطنية. كما أن هذه الروح الجامعة تمثل رسالة للعالم بأن العراق ليس بلد صراعات كما تصوره بعض الأخبار، بل هو بلد قادر على إنتاج أضخم تظاهرة سلمية على وجه الأرض، قائمة على الحب والتضحية والتعاون.
من الناحية المجتمعية، فإن ما يحدث في الأربعين هو نموذج عملي لإعادة بناء الثقة بين المواطنين، وإحياء حس المسؤولية تجاه الآخر. حين ترى العراقيين من مختلف المحافظات يقطعون مئات الكيلومترات لخدمة زائر لا يعرفونه، تدرك أن قيم الأخوة والإنسانية ما زالت حيّة في وجدان هذا الشعب.
إن زيارة الأربعين تمنح العراق قوة معنوية هائلة، فهي ليست مجرد ذكرى تاريخية، بل مشروع أخلاقي وثقافي متجدد، يعزز التماسك الداخلي، ويقوي النسيج الاجتماعي، ويدعم فكرة أن المواطنة ليست شعارًا، بل ممارسة يومية تُبنى بالتعاون والاحترام المتبادل.
في الختام ، يمكن القول إن الأربعين هي نبض العراق، وراية وحدته، وسر تماسكه. وإذا استطاع العراقيون أن ينقلوا هذه الروح التي يعيشونها في أيام الزيارة إلى باقي أيام السنة، فسيكون لديهم عراق أقوى، وشعب أكثر اتحادًا، ومستقبل يليق بتاريخ هذه الأرض المباركة.
انوار داود الخفاجي