الإنسانوية بين النبل والمأزق: جراح السودان وولادة الإنسانوية الجديدة(٢-٢)

عبدالماجد سعيد عرمان

وما يجري في السودان اليوم ليس بعيدًا عن هذا المسار العالمي. إنه نسخة محلية من المأزق الإنسانوي ذاته: خطابٌ يتزيّا بشعارات العدالة والحرية وحقوق المواطن، لكنه في جوهره سلطة تتحدث باسم الإنسان لتخنق الإنسان ذاته.

غير أن الوجه الآخر للتاريخ لم يكن غائبًا.
ففي ثورة ديسمبر السودانية تخلّقت إنسانية من نوعٍ مختلف، إنسانية خرجت من رحم الألم لا من كُتب الفلاسفة، ومن التجربة لا من التنظير.
في شعاراتها الثلاثة — حرية، سلام، وعدالة — انبعث الإنسان من بين الركام ككائنٍ يرى في الآخر امتدادًا لذاته، لا خصمًا لها.
هناك، في الشوارع التي واجهت الرصاص بالعزم والغناء، ولدت إنسانيةٌ تُعيد تعريف الوطن لا بوصفه حدودًا، بل بوصفه تعايشًا يقوم على الاعتراف المتبادل.

لقد بدت ديسمبر كأنها الردّ الأخلاقي العميق على كل أشكال الإنسانوية الزائفة التي عرفها السودان والعالم من قبله. فهي لم تُرفع باسم العِرق أو الدين أو الجهة، بل باسم الإنسان نفسه — الإنسان الذي يطالب بحقه في أن يُرى، وأن يُحترم، وأن يُعاش لا أن يُدار.
تلك اللحظة لم تكن تمرّدًا سياسيًا فحسب، بل كانت يقظةً فلسفية: عودة الوعي إلى أصله الإنساني، إلى القاسم المشترك الذي يجعلنا بشرًا رغم اختلاف المصائر.

إنها إنسانية سودانية تتخلق من المعاناة اليومية، من صدق الرغبة في الحياة، ومن الإيمان بأن الكرامة لا تُمنح بل تُصنع. إنها نواةٌ لوعيٍ جمعي جديد يرى أن الحرية ليست شعارًا سياسيًا بل تجربة وجودية، وأن السلام لا يُفرض بالاتفاقات، بل يُزرع في ضمير المجتمع حين يرى الإنسان في المختلف وجهًا آخر لنفسه.

منذ بدايات الحركة الإسلامية السودانية، رفعت الشعارات ذاتها التي رفعتها أوروبا في زمن استعمارها: تحرير، عدالة، هوية، كرامة. لكنها انتهت إلى إعادة إنتاج الوصاية ذاتها التي ادّعت أنها جاءت لتحطيمها. احتكرت تعريف الإيمان والهوية والمواطنة، ومنحت إنسانية مشروطة لمن يوافقها، وسلبتها عمّن يخالفها.
تحوّل الخطاب الديني السياسي إلى إنسانوية مغلقة، ترى الإنسان من خلال فكرها لا من خلال إنسانيته.

وفي كل فترة من الصراع السوداني، يتكرّر المشهد نفسه: كل طرف يعلن أنه يقاتل باسم المواطن، ويدافع عن الكرامة الوطنية، لكن الواقع أن المواطن الحقيقي هو أول الضحايا.
فالحروب لا تُخاض من أجل الإنسان بل من أجل السلطة التي تزعم تمثيله. يتحول المواطن إلى رمزٍ دعائي، إلى شعارٍ يُرفع فوق الركام، بينما يُسحق الجسد الذي يمثله.
هكذا تُعاد مأساة الإنسانوية الاستعمارية نفسها بوجه محلي: كما تحدّث الأوروبي عن الإنسان ليبرّر غزوه، يتحدث السياسي والعسكري اليوم باسم المواطن ليبرّر حربه.

لقد صار الخطاب الإنساني في السودان، كما في كثير من بلدان الجنوب، ديكورًا أخلاقيًا للسلطة. الكلمات التي وُلدت لتواسي صارت أسلحةً في يد من يُفترض أنهم الحماة. من يتحدث عن المواطن وهو يقصف بيته، ومن يرفع شعار العدالة وهو يزرع الرعب، هو الامتداد الطبيعي لتلك الإنسانوية التي تدّعي الدفاع عن الإنسان وهي تنفيه من الوجود.

ولعل البداية الحقيقية للخلاص أن نعترف بهذا العمى.
أن نفهم أن الإنسان ليس فكرة مجرّدة تُستدعى في خطابات السياسيين والمثقفين، بل وجهٌ محدّد، وجسدٌ جائع، وطفلٌ خائف، وامرأةٌ تحمل العالم في صمتها.
الإنسانوية التي نحتاجها ليست شعاراتٍ تُكتب، بل وجدانًا يوميًا يرى الإنسان في كل من نختلف معه، ويؤمن أن الوطن لا يُبنى بالانتصار على الآخر، بل بالاعتراف بإنسانيته.

إن الإنسانوية التي تبدأ من الألم لا تحتاج إلى تبرير. هي وعيٌ هشّ، لكنه صادق، يرى أن الحقيقة لا تسكن في المنتصرين بل في الذين يواصلون البحث عن معنى للكرامة وسط الخراب.
وربما هنا، في قلب المأساة، يمكن أن تُولد إنسانوية سودانية جديدة، متصالحة مع ضعفها، متواضعة أمام التجربة، لا تدّعي امتلاك الإنسان بل تنصت له.

في هذا العالم الممزّق بين الخطاب والسلاح، بين الكلمة التي تُقال والإنسان الذي يُباد، يبدو أننا نعيش زمن العدم الإنساني — زمنٌ تتكاثر فيه الأصوات وتتضاءل فيه الأرواح.
صرنا نحمل شعارات الكرامة كما يحمل الجندي سلاحه، لا حبًّا في النجاة بل خوفًا من السقوط.
كلّ شيءٍ يُدار باسم الإنسان، لكنّ الإنسان ذاته يضيع في الزوايا المظلمة من المدينة، وفي الخنادق، وفي نشرات الأخبار التي تمرّ عليه مرور العابرين.

ليس العدم نفيًا للوجود فحسب، بل هو غيابه تحت ضجيج الخطابات التي تزعم الدفاع عنه.
العدم هو حين لا يعود الألمُ خبرًا، ولا الجوعُ مأساة، ولا الموتُ مفاجأة. هو أن تفقد البشرية دهشتها أمام ما يُفترض أنه لا يُحتمل.

ومع ذلك، يبقى في الإنسان شيءٌ عصيّ على الفناء — قبسٌ صغير من المعنى، يرفض أن يُطفأ.
في كل أمٍ تبحث عن ابنها، في كل شابٍ يحلم رغم الركام، في كل عينٍ ما زالت ترى الجمال في الخراب، هناك ولادة خفية لإنسانوية جديدة.
إنسانوية بلا شعارات، بلا وصايا، بلا مركزٍ يدّعي احتكار الإنسان.

وربما يكون خلاصنا الأخير في هذا الهشيم، أن نتذكّر ما قاله فانون:

“إن الإنسان لا يولد في الكتب، بل في التجربة.”

وأن نفهم أن التجربة السودانية بكل جراحها ليست سقوطًا في العدم، بل احتمالًا دائمًا لبعثٍ آخر،
حيث لا يعود الإنسان موضوعًا للخطاب، بل ذاتًا تُنقذ نفسها بالوعي، بالحب، وبإصرارها على أن تكون — ببساطة — إنسانًا.

الوسومالإنسانوية بين النبل والمأزق الحقيقة بلدان الجنوب جراح السودان وولادة الإنسانوية الجديدة خطابات السياسيين عبدالماجد سعيد عرمان

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: الإنسانوية بين النبل والمأزق الحقيقة بلدان الجنوب خطابات السياسيين

إقرأ أيضاً:

"الزعيم" يتألق.. والسيب يتفوق على النصر.. وسمائل يُعمّق جراح الرستاق

 

الرؤية- أحمد السلماني- سالم المحروقي

اختُتمت مساء السبت مباريات الجولة الرابعة من دوري جندال للموسم الرياضي 2025 – 2026، التي شهدت استمرار العروض القوية لظفار والسيب، فيما زاد سمائل من معاناة الرستاق الذي تلقى خسارته الرابعة على التوالي ليبقى دون نقاط في قاع الترتيب.

وفي أبرز مواجهات الجولة، واصل الزعيم تألقه اللافت بعد أن عاد من ملعب بهلاء بفوز ثمين بثلاثة أهداف مقابل هدف، أحرز للفريق البطل معتز صالح وعمر الداحي وسلطان بدر، بينما سجل عبدالسلام الشكيلي هدف بهلاء الوحيد لتتم إقالة مدربه التونسي عبدالحليم الوريمي، ليؤكد ظفار جاهزيته الكاملة لمواصلة المنافسة على القمة.

وفي اللقاء الثاني، فرض السيب أفضليته على النصر في مباراة قوية جمعتهما على استاد السعادة، وخرج منها الامبراطور منتصرًا بهدفين نظيفين أحرزهما ناصر الرواحي، الذي قدّم مباراة مميزة منح بها فريقه ثلاث نقاط مهمة تبقيه في دائرة الصدارة في مباراة شابها الكثير من الجدل التحكيمي لحالة طرد غير مستحقة للاعب النصر السمين وضربة جزاء للنصر أكد المتابعين والنقّاد صحتها فيما لم يحتسبها حكم اللقاء.

أما الشباب فقد واصل نتائجه المميزة بعدما تجاوز صحار بهدفين مقابل هدف، في مباراة مثيرة شهدت تألق المحترف ماليكو ماركيني الذي أحرز هدفي الشباب، بينما سجل الإيفواري نيموري كيتا هدف صحار الوحيد، لتتواصل بذلك انتصارات الصقور في مشوار الدوري.

وفي مواجهة زرقاء، تمكن صحم من قلب الطاولة على صور بعدما خرج منتصرًا بثلاثة أهداف مقابل هدفين، بعد تألق نجمه محسن جوهر الذي سجل هدفين، وأضاف زهير الحسني الهدف الثالث، فيما سجل لصور سامي الحسني وأيمن إبراهيم، في مباراة حبست أنفاس الجماهير حتى دقائقها الأخيرة.

واختتم سمائل الجولة بفوز ثمين ومستحق على الرستاق بهدفين مقابل هدف، حملا توقيع داود الجابري وأسامة الزعابي، بينما سجل محمد العدوي هدف الرستاق الوحيد. وبهذه النتيجة عمّق سمائل جراح الرستاق الذي ظلّ بلا نقاط بعد أربع خسائر متتالية، ليواصل سلسلة نتائجه السلبية منذ انطلاقة الموسم رغم ابعاد ادارة النادي مجيد النزواني، أحد أكفأ المدربين الوطنيين واستقطاب المدرب القديم الجديد لعنابي الجبل الروماني كاتلين ميهاي.

الجولة الرابعة أكدت أن المنافسة في دوري جندال تزداد إثارة أسبوعًا بعد آخر، مع تقارب المستويات بين الأندية وتعدد المفاجآت في النتائج، في وقت بدأ فيه صراع القمة يتبلور بين فرق ظفار والسيب والشباب، بينما تبحث بقية الفرق عن استعادة توازنها قبل فوات الأوان.

 

مقالات مشابهة

  • تنظيم نسوي يطالب بتحقيق مستقل حول ترحيل الجنوب سودانيات
  • من الخرطوم إلى الرنك.. النساء الجنوب سودانيات يُقتلعن من حياتهن قسراً
  • السفير ياسر سرور: الوضع في السودان يتطلب التوصل لهدنة إنسانية ووقف إطلاق النار
  • اللجنة الإفريقية لحقوق الإنسان تعلن نشر تقريرها حول انتهاكات الحرب في السودان
  • "الزعيم" يتألق.. والسيب يتفوق على النصر.. وسمائل يُعمّق جراح الرستاق
  •  الحزم يعمق جراح الأخدود في دوري روشن
  • النائب الوفدي باسم حجازي : «أخوض الانتخابات الجديدة بخبرة البرلمان وثقة المواطنين»
  • الاحتلال بعد عامين من العدوان.. سقوط الكيان المنبوذ وولادة وعي عالمي جديد
  • محافظ كفر الشيخ لعد تطبيق تعريفة الكوب الجديدة: لن نسمح باستغلال المواطن| صور