جريدة الرؤية العمانية:
2025-10-19@20:07:40 GMT

زمن الأشياء الباهتة

تاريخ النشر: 19th, October 2025 GMT

زمن الأشياء الباهتة

د. هبة العطار

 

حين تضيع قيمة الأشياء، لا تعود للحياة ملامحها الأولى. كل ما حولنا يصير نسخة شاحبة من ذاته، كأن الضوء ذاته صار يتعثر في العتمة. الأشياء لا تموت فجأة، لكنها تذبل فينا ببطء، حين نكفّ عن الإيمان بها. فالقيمة لا تُفقد من الخارج، بل من داخلنا، حين نتوقف عن منحها معناها.

نكتشف متأخرين أن الامتلاء لم يكن في ما نملك؛ بل في ما نشعر به تجاه ما نملك.

فحين تُفرغ الأشياء من معناها، تظل بين أيدينا لكنها لا تسكن أرواحنا. المال، المنصب، التصفيق، كلها أوهام مجسّدة لقيمةٍ زائلة. ما جدوى الارتفاع إن كان الصعود على سلّمٍ من هواء؟

النضج لا يمنحنا راحة؛ بل بصيرة مؤلمة، تكشف لنا هشاشة ما كنّا نعدّه عظيمًا. نرى الوجوه بلا أقنعة، والنجاح بلا جوهر، والكلمات بلا روح. نكتشف أن الكثرة ليست غنى، وأن الامتلاك ليس حضورًا. حين ندرك ذلك، لا نغضب بقدر ما نصمت، صمت الحكماء الذين تجاوزوا الحاجة إلى التبرير.

وفي زمن الأشياء الباهتة، تتشابه الوجوه وتضيع الفروق بين ما يُقال وما يُعنى، بين الكلمة ومعناها الحقيقي. الناس يتحدثون كثيرًا، لكن لا أحد يقول شيئًا، يتحركون بلا وعي، يصفقون بلا فهم، ويعيشون كما لو أن الحياة مجرد عادة متكررة لا تحتاج روحًا ولا دهشة. وسط كل هذا الزخم، يخفت فينا النور القديم، ويصبح الصمت أصدق من المشاركة في الزيف العام.

النضج يجعلنا نرى الأشياء كما هي: مؤقتة، قابلة للذبول، محدودة اللمعان. فلا شيء يستحق أن نمنحه أكثر مما يحتمل. نتعلم أن نترك الأشياء تمضي دون أن نحملها معنا، لأن منتهى الحكمة أن تدرك أن البقاء للأعمق لا للأكثر صخبًا.

ليست كل الأشياء التي نفقدها تستحق العودة؛ فبعضها يختفي لأننا تجاوزناه، لا لأننا خسرناه. حين تفقد الأشياء قيمتها في وعينا، تنزلق إلى العدم، تغيب كأنها لم تكن، كأن وجودها كان مجرد ظلٍ مرّ بالعمر دون أن يترك أثرًا. النضج الحقيقي ليس أن نتمسك بما ذهب، بل أن ندرك أن الذهاب كان هو الخلاص، فالأشياء التي تفقد بريقها تسقط من مدار الوعي كنجمة انطفأت بعد أن استهلكت ضوءها، وما لا يملك معنى لا يملك بقاء. وهكذا نصبح أهدأ لأننا نرى الأشياء على حقيقتها: مؤقتة، واهنة، لا تملك من حضورها إلا ما نمنحه نحن من وعينا، وعندما نسحب عنها هذا الوعي تنتهي ببساطة دون ضجيج ودون أسف، لأن الفقد أحيانًا ليس نقصًا؛ بل نقاء، أن تُصفّي ذاكرتك من الزوائد وتُبقي فقط ما يليق بالروح أن تتذكره، فكل ما مات في وعينا لم يعد موجودًا في الكون، لأننا نحن من كنّا نمنحه الوجود.

كأن الأشياء حين تفقد معناها لا ترحل؛ بل تتحول إلى صمتٍ شفيفٍ يملأ الفراغ من حولنا، فنمضي بينها غرباء، نلمس ما كان حيًّا دون أن نحس نبضه. كل ما لم يعد يضيء، يذوب في المسافة بين الذاكرة والنسيان، كأنه لم يكن يومًا. وربما في ذلك النقص العميق يكتمل المعنى؛ إذ لا نرى الوجود إلّا بعد أن نجرّب اختفاءه، ولا نفهم الامتلاء إلّا ونحن ندور، بخفةٍ متعبة، في مدار الفراغ.

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

مواقِف لا تنسى

 

ها هي فلسطين تكتب فصلاً جديداً في كتاب العزة العربية والإسلامية.

ها هي غزة، المدينة المحاصَرة، المذبوحة منذ عامين، تنهض من تحت الركام لتقول للعالم أجمع: إن الإيمان إذا اشتعل في القلوب، لا تطفئه صواريخ ولا حصار. نبارك لشعب فلسطين هذا النصر العظيم الذي خضّ ضمائر العالم، وذكّر الأمة بمعنى الكرامة حين تُستعاد بالدم والدمع والإصرار.

لكننا ونحن نبارك، نكتب أيضاً بضميرٍ لا يعرف الرياء، وبقلبٍ مفعمٍ بالعزة لا بالعتب، وإن كان في طياته وجعٌ لا يُقال إلا بحروفٍ من نورٍ وصدق.

نحن في اليمن، في الأرض التي نازلت أقوى القوى وقاومت الحصار والدمار، لم نكن يوماً بعيدين عن غزة ولا عن القدس. نحن الذين قُصفت موانئنا، وضُربت مطاراتنا، وسقط أطفالنا في ليالٍ كان فيها صوت القصف يمتزج بتكبيراتنا ونحن نقول:

«فداءً لغزة».

لم يكن شعاراً ولا حماساً عابراً، بل موقفاً إيمانياً نابعاً من يقينٍ بأن فلسطين ليست قضية حدود، بل قضية عقيدة وشرف وإنسانية.

قدمنا شهداءنا، ودمّر العدو مدننا، وتزلزلت بيوتنا، ومع ذلك قلناها بثبات: «مع غزة حتى النصر».

لم نحسب حساباً للخسائر، ولم نسأل كم سنُذكر في نشرات الأخبار، لأننا نؤمن أن ما كان لله لا يضيع، وأن الله وحده يعلم من نصر ومن خذل.

وفي جنوب لبنان، أولئك الرجال الذين أفنوا أعمارهم دفاعاً عن فلسطين، وسهروا على حدودها، وقادوا محوراً بأكمله كي تظل المقاومة واقفة، قدّموا ما لا يُحصى من دماءٍ وتضحياتٍ، فاستُشهد القادة، وسقط المجاهدون، وتهدمت البيوت، لكن الكرامة بقيت.

كل ذلك لم يكن انتظاراً لعرفانٍ من أحد، ولا طمعاً في كلمة شكرٍ تُقال في نهاية النشرات، بل لأنه الواجب، وأقلّ ما يُقدّم لأرض بارك الله حولها.

نحن لا نعاتب فلسطين، فنحن وهي جسدٌ واحد، لكننا نعاتب ذاكرة الأمة التي تنتقي أحياناً من تُكرم ومن تُغفل.

نسمع أصوات التهاني تمطر على دولٍ لم يُقصف لها ميناء، ولم يُغلق لها مطار، ولم يقدّم أبناؤها دماءهم لأجل هذه القضية كما قدّم أهل اليمن ولبنان، ومع ذلك نبتسم، لأننا نعرف: نحن لم نقاتل من أجل أن تُرفع لنا الرايات، بل من أجل أن تبقى راية الحق عالية.

إن وقفتنا مع فلسطين لم تكن مكرمة، بل واجباًلم تكن منّة، بل عهداًولم تكن يوماً انتظاراً لشكرٍ من بشر، بل قربى إلى الله عز وجل.

نحن نعلم أن طريق القدس ليس مفروشاً بالورود، بل بالدماء، وأن كل من سار فيه سيتعب، لكنه سيبلغ إن صدق النية.

ولهذا، لا نطلب جزاءً ولا كلمة، لأننا نعرف أن الله وحده يرى، وأن وعده للمجاهدين الصادقين لا يُخلف:

> “إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ”

نحن في اليمن، نعيش الجراح ونحملها بكرامة، ونحن فخورون بما فعلنا، لأننا لم نفعله طلباً لثناءٍ ولا طمعاً في عرفان، بل لأننا رأيناه أمانةً في أعناقنا وواجباً في سبيل الله.

ولو عاد بنا الزمن، لفعلنا أكثر، لأننا آمنّا أن الله لا يُضيع عمل الصادقين، وأنه سيجزي كل من قدّم في سبيله خير الجزاء.

ننظر إلى القضية اليوم بطمأنينة من أدى الأمانة ووفّى العهد،

لقد فعلنا ما يمليه علينا ديننا وشرفنا.

وليعلم الجميع — في الشرق والغرب، في القريب والبعيد — أن اليمن، رغم الحصار والدمار، لم ينسَ قبلته الأولى، ولن ينسى.

 

مقالات مشابهة

  • مواقِف لا تنسى