خرق الهدنة في غزة: الرسائل الإسرائيلية وصمت الوسطاء
تاريخ النشر: 19th, October 2025 GMT
في خرق فج لاتفاق الهدنة المعلن قبل أيام شن جيش الاحتلال الإسرائيلي فجر اليوم أكثر من 129 غارة جوية على مناطق متفرقة من قطاع غزة أسفرت حتى لحظة كتابة هذا المقال عن استشهاد 44 فلسطينيا بينهم أطفال ونساء وإصابة 132 آخرين في تصعيد يوصف بأنه الأعنف منذ بداية الجولة الحالية من المواجهات.
هذا التصعيد الذي جاء رغم الجهود الإقليمية التي قادتها كل من مصر وقطر وتركيا للوصول إلى تهدئة مؤقتة يطرح تساؤلات جدية حول جدوى هذه الوساطات ومدى فعاليتها في كبح جماح الاحتلال الإسرائيلي الذي اعتاد على التعاطي مع اتفاقات التهدئة باعتبارها أدوات تكتيكية وليست التزامات سياسية أو قانونية.
تبريرات الاحتلال الرسمية كالعادة جاءت تحت ذريعة “الرد على خروقات من طرف المقاومة” لكن كثافة الغارات وطبيعة الأهداف المدنية التي طالتها والمناطق السكنية التي دمرت فوق رؤوس ساكنيها تشير إلى أن الأمر يتجاوز رد الفعل المحدود ويقترب أكثر من محاولة توجيه رسائل عسكرية وسياسية. أولى هذه الرسائل موجهة للفصائل الفلسطينية مفادها أن الاحتلال لا يعترف بتوازن الردع وأنه مستعد لاختراق أي تهدئة حين يرى ذلك مناسبا لمصالحه الأمنية أو السياسية.
أما الرسالة الثانية فهي موجهة للوسطاء الإقليميين أنفسهم وتفهم على أنها اختبار لقدرتهم على ضبط الفصائل من جهة وامتناعهم عن الضغط الحقيقي على تل أبيب من جهة أخرى. إذ يبدو أن إسرائيل تعول على غياب ردود فعل حقيقية من هذه الأطراف وهو ما بدا واضحا اليوم مع غياب الإدانة الصريحة من القاهرة أو الدوحة أو أنقرة رغم أن الهدنة الأخيرة وقعت بضماناتها.
في السياق السياسي الأوسع قد يفهم التصعيد الإسرائيلي أيضا في إطار حسابات داخلية فالحكومة الإسرائيلية الحالية برئاسة بنيامين نتنياهو تواجه ضغوطا متزايدة داخليا خاصة في ملفات تتعلق بالأسرى والاحتجاجات ضد السياسات الأمنية والضغوط القضائية. في مثل هذه الأوقات يلجأ السياسيون الإسرائيليون غالبا إلى “تصدير الأزمة” عبر جبهة غزة باعتبارها الساحة الأسهل للتصعيد دون تكلفة دبلوماسية كبيرة.
غياب الموقف الدولي الواضح تجاه هذا الخرق يساهم في توفير غطاء غير مباشر لتصرفات الاحتلال. فحتى الآن لم تصدر مواقف غربية حازمة تدين التصعيد الإسرائيلي أو تطالب بوقفه في استمرار واضح لسياسة الكيل بمكيالين حيث تستنفر عواصم العالم عند كل تحرك فلسطيني بينما تقابل الغارات الإسرائيلية الواسعة بالصمت أو التبرير.
أما على الأرض فإن فصائل المقاومة الفلسطينية لا تزال تتعامل مع الموقف بحذر وتحاول تجنب التصعيد المباشر على الأقل في هذه المرحلة. لكنها في ذات الوقت تدرك أن استمرار القصف وارتفاع عدد الشهداء خصوصا بين المدنيين سيجعل من ضبط النفس خيارا صعبا أمام جمهورها وأمام مسؤوليتها الوطنية.
في المحصلة ما جرى اليوم في غزة لا يمكن قراءته كحادث عابر أو خرق عرضي بل هو مؤشر خطير على هشاشة الاتفاقات وعلى أن الهدنة في السياق الإسرائيلي لا تعني وقف العدوان بل إدارة وتيرة القتل بما يخدم الأجندة الإسرائيلية. في المقابل، فإن صمت الوسطاء الإقليميين يعمق شعور الفلسطينيين بأن دمهم ليس فقط مستباحا بل أيضا غير مكفول بأي ضمانات حقيقية.
إذا لم يتم كبح هذا النهج ولم يحاسب الاحتلال على خروقاته فإن كل اتفاق تهدئة مستقبلي سيكون مجرد هدنة مفخخة مؤقتة، تمهد لجولة أكثر دموية. وفي كل مرة سيكون المدنيون هم الوقود وستكون غزة مرة أخرى، هي من تدفع الثمن.
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
هل تنهار الهدنة؟
لم تتوقف التهديدات الإسرائيلية باستئناف القتال منذ بداية الهدنة التي جرى الاحتفاء بإنجازها في شرم الشيخ، والتي اعتبرها الموقعون عليها حدثًا تاريخيًا هندسه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
بعد استلام الأسرى الإسرائيليين الأحياء، ارتفعت وتيرة التهديدات باستئناف القتال، ورافقت هذه التهديدات غارات وقصف وإطلاق نار أدى إلى استشهاد عشرات الفلسطينيين، من بينهم أطفال.
الحجة هي “التأخر والمماطلة في تسليم جثث الأسرى الإسرائيليين”، علمًا أن الأمر كان واضحًا ويعرفه الوسطاء والعالم، وهو أن المقاومة تحتاج إلى وقت طويل لمعرفة مكان دفن كل جثة، ومن ثم رفع الأنقاض لإخراجها، ربما من أماكن على عمق كبير داخل أنفاق جرى تفجيرها، وتحتاج إلى عتاد ثقيل. حتى ترامب نفسه أعلن أن هذا قد يستغرق وقتًا.
بلا شكّ أن المقاومة معنيّة أكثر من الاحتلال باستمرار وقف إطلاق النار، وذلك نتيجة لاختلال توازن القوى الهائل في العتاد والدعم الخارجي.
فالمقاومة ليس لديها أي دعم خارجي من أي طرف معلن، وهي محاصرة منذ سنوات، بينما يحظى الاحتلال بدعم غير محدود بكل أنواع الأسلحة الفتاكة، إضافة إلى سلاح التجويع المحرّم بحسب القانون الدولي، الذي استخدم وما زال يُستخدم للضغط على الجماهير المحاصَرة، لتحريضها وتثويرها على المقاومة.
يشعر نتنياهو بأنه لم يحقق الأهداف المعلنة وغير المعلنة للحرب، رغم الدمار الهائل وجرائم الإبادة التي مارسها الاحتلال، فهو يطمح إلى أكثر من ذلك. أما الاحتفال في شرم الشيخ الذي لم يحضره، وقيل إن رجب طيب أردوغان هدّد بعدم الحضور إذا حضر نتنياهو، فالأرجح أن نتنياهو نفسه لم يُرِد الحضور كي لا يظهر ضعيفًا ينفّذ إملاءات ترامب أمام الجمهور اليميني المتطرف.
من ناحيته، هدّد ترامب المقاومة بأنه يمتلك معلومات تفيد بأن حماس تستعد لمهاجمة فلسطينيين مدنيين في قطاع غزة، وبأنه لن يسمح لهذا الأمر أن يحدث، وسيردّ عليه.
يقصد بهذا عملاء الاحتلال الذين سلّحهم الاحتلال بهدف زعزعة النظام العام، وإحداث الفوضى في قطاع غزة، ونهب المساعدات قبل وصولها إلى مستحقيها، وبالتالي زيادة الضغط على المقاومة وإرباكها والتربّح على حساب الجياع.
تصريح ترامب يعني أن المخطط المرسوم هو أن تتسلّم تصريف الأمور في قطاع غزة قوى عميلة لإسرائيل بعد نزع سلاح المقاومة، وهذا كما يبدو باتفاق أطراف عربية، وهو تمهيد للموافقة على استئناف القتال في حال رفضت حماس نزع سلاحها.
إلا أن استئناف القتال لن يكون على صورة الحرب الشاملة كما كانت، بل يسعى نتنياهو لأن يجعلها على نموذج الهجمات في جنوب لبنان، حيث تجري عمليات اغتيال انتقائية من خلال الغارات أو التوغلات المحدودة وإقامة نقاط تمركز جديدة. بمعنى أنه لن يتيح للمقاومة أن تعيد بناء قوتها وقبضتها على القطاع كما كانت قبل الحرب، وفي الوقت ذاته يريد أن يبدو ملتزمًا – ولو شكليًا – بوقف القتال، خصوصًا بعد المظاهرات التي اجتاحت العالم ضد الحرب، وأعادت فلسطين، رغم أنفه، إلى جدول الأعمال العالمي بعدما ظنّ أنها فرصته لإنهائها إلى الأبد، إضافة إلى مظاهرات في أقطار عربية مثل المغرب باتت تهدّد استقرار أنظمة التطبيع وما يسمى باتفاقات أبراهام.
نتنياهو يريد أن يربح الدارين: أن يواصل حربه على المقاومة حتى استسلامها ونزع سلاحها وتدمير ما لم يُدمّر بعد، وأن ينصّب عملاء لإدارة القطاع، وفي الوقت ذاته يريد الظهور أمام العالم، وخصوصًا الحلفاء الواضحين مثل نظام السيسي، والمتخفّين وراء الأقنعة والمطبّعين، ودول صديقة مثل فرنسا وبريطانيا، بأنه لم يبادر إلى خرق الاتفاق الذي احتفوا به كإنجاز تاريخي عظيم.
لن تكون هدنة بالمعنى التقليدي الذي يعني وقف إطلاق نار شامل حتى النهاية، بل يريدها هدنة من طرف واحد؛ أن ينفّذ عمليات اغتيال، ويواصل التحكّم بالمعابر والمساعدات، وفي الوقت نفسه يظهر كملتزم برغبة ترامب وحلفائه العرب بعدم استئناف الحرب الشاملة. يأمل من خلال تلاعبه هذا أن يخفّف من الحملات الدولية المؤيدة لفلسطين، وأن يوقف الزحف الأممي الذي تجلّى في “أساطيل الحرية والصمود” لكسر الحصار على قطاع غزة، وأن يحقّق حالة من الاسترخاء ووقف الموجة العظيمة من التضامن الأممي مع الشعب الفلسطيني.
إلا أن المقاومة لن تستطيع تحمّل الاعتداءات بلا نهاية، رغم محاولتها المداراة، ومن المرجّح أنها ستضطر إلى الرد على الاعتداءات لتحفيز الوسطاء على القيام بدورهم في إلزام الاحتلال بوقف اعتداءاته، وهذا ما يبقي الأمور مفتوحة على كل الاحتمالات.
كاتب فلسطيني