دار الأوبرا السلطانية... منارة الذوق التي لا تحتمل الهزل
تاريخ النشر: 21st, October 2025 GMT
زرت للمرة الأولى دار الأوبرا السلطانية مسقط في 13 أكتوبر 2011 (أي في اليوم التالي لافتتاحها الرسمي)، وكان المشهد أشبه بعبور نحو مرحلة جديدة من الوعي الفني في سلطنة عمان، كنت أتأمل المكان بدهشة في وقت كنت أستحضر فيه رحلة موسيقية وثقافية بدأت مع بواكير النهضة العمانية وها هي تتجلى أمامنا في هذا اليوم واقعا نابضا بالحياة.
أذكر جيدا أن الحفلة الأولى التي حضرتها بعد تلك الجولة شهدت التزاما غير مسبوق بالضوابط، حتى إن كثيرين مُنعوا من الدخول لعدم تقيدهم باللباس الرسمي، وكان الموقف حازما ولا مجاملة فيه والرسالة واضحة أن هذا الصرح نشأ ليكون منارة ترفع الذوق الفني وتعيد تشكيل علاقة الإنسان العماني بالفن الرفيع، ولم يُنشأ ليكون مجرد مسرح للغناء، وقيل لنا يومها إن الأوبرا السلطانية تُدار وفق بروتوكولات دور الأوبرا المعتبرة في العالم، فلا تنازل عن المعايير التي تمنح المكان هيبته وفرادته.
كتب زميلي عامر الأنصاري موضوعا في 20 مايو 2022م بعنوان "أمسية امتلأت بتصفيق الجماهير و"رقصهم"! حفلة ملحم زين.. هل ارتقت لمعايير صرح الأوبرا السلطانية؟!" انتقد فيه ونبّه إلى بعض المشاهد التي رآها في تلك الحفلة، وقد أعادني ما كتبه إلى التفكير في الموضوع من جديد؛ لأنه بالفعل بعض الممارسات التي نشهدها اليوم توحي بأن هذا الخط الصارم بدأ يتراخى، وليس انتهاءََ بالحفلة الغنائية الأخيرة التي أقيمت في دار الفنون الموسيقية وقد تجرأ أحد معجبي الفنانة بأن طلب ناقل الصوت من الفنانة ليغني بدلا عنها! مشهد أقرب إلى صالة أفراح منه إلى صرح فنيّ يفترض أن يكون عنوانا للانضباط والرقي.
إن تأسيس "دار الفنون الموسيقية" ـ بحسب التصريحات الرسمية ـ "جاء ليكمل رسالة دار الأوبرا السلطانية كملتقى للفنون الثقافية والموسيقية من أجل التكامل والتركيز على العروض النوعية المتنوعة"، وهذا التعريف وحده كاف لتأكيد أن المكان لم يُبنَ ليكون ساحة للتسلية العابرة أو منصة للفن التجاري، بل ليكون حاضنا للفن الرفيع الذي يسمو بالذوق العام ويعزز القيمة الثقافية للمجتمع.
ولذلك، فإن السماح بتقديم عروض سطحية أو استضافة فنانين لا تنسجم طبيعة أعمالهم مع هوية المكان هو إخلال بروح المشروع الثقافي الذي قامت عليه الأوبرا منذ نشأتها، وليست القضية في الأسماء أو شهرتها، بل في مدى اتساقها مع الفلسفة التي أرادها هذا الصرح منها فلسفة التهذيب والابتعاد عن الابتذال والارتقاء لا الانحدار، فحين يختزل الفن في الاستعراض والتصفيق والرقص يفقد المكان سموّه، ويهبط معه مستوى الحضور فتتراجع الذائقة ويتلاشى الهدف الأساسي الذي وُجد من أجله هذا الكيان الثقافي، والخشية أن تنفلت الأمور إلى أبعد مما نتصور.
قد يقول البعض إن المؤسسة لا تتحمل مسؤولية تصرفات الجمهور، لكن هذا تبرير سهل، فهناك أطر واضحة يجب أن تُفهم وتُفرض قبل قدوم أي فنان إلى البلاد، وبنود ينبغي أن يُلزم بها قبل أن يعتلي خشبة المسرح، فحتى الفنان مدعوّ إلى تقديم ما تم الاتفاق عليه فقط، دون تحويل المنصة إلى مساحة للتساهل أو الابتذال.
وإذا غيّب الغرور ذهنية الفنان عن جوهر دار الأوبرا وثيمتها الرفيعة، فعلى القائمين على هذا الصرح أن يعيدوا ترتيب الأولويات، وأن يميزوا بوضوح من يعتلي الخشبة، وأيّ صوت يستحق أن يعلو في هذا الفضاء المهيب، فالجدران التي ردّدت أصداء أعرق الفرق الأوبرالية، واحتضنت إرث أوطان وهويات ذات ثقل في المشهد الإنساني، لا يجوز أن تتنازل عن هذه القيمة لأجل نزوة "فنان" يتحدث عن حالته الاجتماعية (متزوج أو أعزب) أو يقدّم لغزله على الخشبة، ولا لإرضاء "فانز" لا يجمعه بالفن إلا إعجاب عابر لا يمتّ إلى جوهر الإبداع بصلة.
نحن بحاجة إلى وقفة مراجعة حقيقية تُعيد الاعتبار لفكرة "الذائقة" التي تأسست عليها دار الأوبرا السلطانية ودار الفنون الموسيقية، فالفن ليس ترفيها مجانيا بل مسؤولية ثقافية تُبنى عليها صورة الوطن في عيون العالم، والتهاون في التفاصيل الصغيرة هو ما يقود ـ حتما ـ إلى خسارة الصورة الكبرى، لذا فإن الحفاظ على رصانة هذا المكان لا يتحقق إلا بالعودة إلى جوهره، وبوضع حدّ للتجاوزات التي تمس قيمته الرمزية والفنية؛ لأن الكأس إن "اندحق" فلن يفقد نقطة واحدة بل سيفقد ما فيه كله.
كما أن الجمهور وبخاصة العماني يفترض أن يكون أكثر حرصا على صون هذه الهوية الجمالية والثيمة الرفيعة التي ترسخت حول دار الأوبرا السلطانية، فالمكان هنا ليس مجرد صرح فني، لكنه رمز لوعي ثقافي جمعي تشكّل على مدى سنوات من الجهد والتراكم، لذا فإن تكرار مثل هذه التصرفات العابثة ينبغي أن يُواجه بحزم واضح، يصل ـ إن لزم الأمر ـ إلى منع المتجاوزين من دخول الدار مجددا، حفاظا على هيبة المكان، وسمعته التي ارتبطت دوما بالذوق الرفيع والسلوك الحضاري.
ولا شكّ أن ما ذُكر لا ينتقص من الجهود الكبيرة المبذولة ولا من غنى الموسم بما يحمله من فعاليات نوعية وتفاصيل تستحق الإشادة، وإنما يأتي هذا الحديث من باب الغيرة الصادقة والحرص على أن تبقى عُمان دائما في موقع الريادة والتميّز الفني والثقافي.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: دار الأوبرا السلطانیة
إقرأ أيضاً:
ندوة "مسيرة المرأة في شرطة عُمان السلطانية" تُبرز دور الشرطة النسائية كنموذج مشرف للعطاء والانتماء
نزوى- الرؤية
نظمت شرطة عُمان السلطانية بأكاديمية السلطان قابوس لعلوم الشرطة أمس، ندوة علمية بعنوان "مسيرة المرأة في شرطة عُمان السلطانية"، وذلك تحت رعاية سعادة الدكتورة جوخة بنت عبدالله الشكيلية الرئيسة التنفيذية للهيئة العُمانية للاعتماد الأكاديمي وضمان جودة التعليم، وبمشاركة جامعة السلطان قابوس.
واستعرضت الندوة عدة أوراق ناقشت موضوعات متنوعة منها، إسهام مؤسسات المجتمع المدني في تمكين المرأة العُمانية، والحماية التشريعية لحقوق المرأة في سلطنة عُمان، ومسيرة ومجالات عمل المرأة العُمانية في شرطة عُمان السلطانية، ودور الشرطة النسائية في تعزيز الشراكة المجتمعية، إضافة إلى دور أكاديمية السلطان قابوس لعلوم الشرطة في تأهيل وتطوير قدرات الشرطة النسائية وتعزيز جهودها في البحث العلمي والابتكار، كما تضمنت الندوة عقد جلسات نقاشية وعرض مقطع مرئي بعنوان "المرأة العُمانية.. عهد الولاء ومسيرة العطاء".
وتأتي إقامة هذه الندوة لتسليط الضوء على دور الشرطة النسائية كنموذج مشرف للعطاء والانتماء وتوثيق مسيرة المرأة العُمانية في شرطة عُمان السلطانية، وعرض إنجازاتها ومساهماتها في مختلف مجالات العمل الشرطي، والفرص المستقبلية لتعزيز دورها بشكل أكبر.
الشكيلية:
وقالت سعادة الدكتورة جوخة بنت عبدالله الشكيلية الرئيسة التنفيذية للهيئة العُمانية للاعتماد الأكاديمي وضمان جودة التعليم: "هذه الندوة قربتنا أكثر من الواقع الذي تعيشه المرأة في شرطة عُمان السلطانية. ندرك أن العمل في المنظومة الأمنية والشرطية محفوف بالتحديات، إلا أن تمكين القيادات والتأهيل والتدريب الذي حظيت به منتسبات شرطة عُمان السلطانية أسهم في مواجهة هذه التحديات وتحقيق إنجازات ملموسة في ميادين العمل ليس في الجانب الأمني فقط؛ بل نجدها أيضًا في مجالات القيادة والتعليم والبحث العلمي والتدريب والجوانب الفنية والتقنية، ونحن فخورون برؤيتها تتقدم في مختلف المناصب، بما يعزز من حضورها ودورها الفاعل في المجتمع".
وقالت المقدم أميرة بنت محمد الحديدية مدير معهد الشرطة النسائية بأكاديمية السلطان قابوس لعلوم الشرطة إن أهمية هذه الندوة تتجلى في توثيق المسيرة التاريخية للشرطة النسائية وإبراز دور المرأة في جهاز شرطة عُمان السلطانية منذ تأسيسه، إلى جانب تعزيز الصورة الإيجابية للمرأة العُمانية من خلال استعراض قصص نجاح واقعية. وأضافت أن الندوة تشكل منصة لتبادل الخبرات بين الكوادر النسائية، وتسهم في وتعميق الوعي المجتمعي بأهمية دور المرأة كشريك فاعل في تحقيق الأمن والتنمية الوطنية.
وقالت الدكتورة ريا بنت حمد المعمرية أستاذ مساعد في العمل الاجتماعي بكلية الآداب والعلوم الاجتماعية بجامعة السلطان قابوس: "سُعدت بمشاركتي بورقة علمية في هذه الندوة التي تسلط الضوء على مسيرة المرأة في شرطة عُمان السلطانية". وقدمت المعمرية ورقة عمل تناولت إسهامات المجتمع المدني في تمكين المرأة العُمانية؛ باعتبارها فاعل أساسي في التغير المجتمعي والتنمية المحلية، كما ناقشت بعض الأخطاء الشائعة التي تتعلق بتمكين المرأة والحلول التي يجب اتخاذها في هذا الجانب، إضافة إلى استعراض تجارب عالمية ومحلية في تمكين المرأة في التنمية المجتمعية.