لا أحد بمنأى عن أيديهم.. هل يغير جيل زد وجه أفريقيا؟
تاريخ النشر: 28th, October 2025 GMT
في صباحٍ باردٍ من ديسمبر/كانون الأول عام 2010، كان محمد البوعزيزي، الشاب التونسي الذي لم يتجاوز السادسة والعشرين، يقف أمام مقرَّ البلدية في سيدي بوزيد. القضية هي عربة فاكهة صادرتها الشرطة أكثر من مرة، وقد مثَّلت كل ثروته ورأسماله. وحين رفض الانصياع، تلقَّى صفعة على وجهه على الملأ من الشرطية فادية حمدي، التي وبَّخته قائلة بالفرنسية "Dégage" أي "ارحل".
دقائق قليلة كانت كافية ليُشعل البوعزيزي النار في جسده، فتشتعل معه واحدة من أكبر موجات الغضب الشعبي في التاريخ العربي الحديث، وتتغيَّر مصائر دول بأكملها فيما أصبح يُعرف بـ"ثورات الربيع العربي".
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2أنا أقاوم إذن أنا موجودlist 2 of 2قبل الطوفان بكثير.. إسرائيل وخطط محو الإنسان من غزةend of listلم يكن البوعزيزي ناشطا سياسيا، بل شابا عاديا عالقا في بنية اقتصادية مغلقة، لكنه بفعل فردي حفَّز وعيا جمعيا جديدا، جعل من جسده المحترق مرآة لجيلٍ كامل رأى نفسه في رماد حلم عربي قديم. وبعد أكثر من عقد على تلك اللحظة، صار جيل البوعزيزي في الأربعينيات من عمره، يتأمل ما تبقَّى من أحلامه الأولى.
سقطت أنظمة وصعدت أخرى، وتحولت شعارات "الحرية والكرامة" إلى ذكريات باهتة على لافتات منسية. ومع ذلك، لم تمت الفكرة، بل تغيَّر حاملوها ليس إلا.
على مدار العامين الماضيين، شهدت القارة الأفريقية ودول عدة من الجنوب العالمي موجة متصاعدة من الاحتجاجات الاجتماعية والسياسية تقودها بالأساس أجيال شابة سئمت انسداد الأفق وغلاء المعيشة وتردي الخدمات. وقد اكتسبت الأحداث زخما واسعا في الأشهر الأخيرة عقب الاحتجاجات التي شهدتها نيبال والمغرب ومدغشقر، حيث رأينا مشاهد أعادت إلى الذاكرة لقطات الربيع العربي الأولى، وتشابهت معه في استخدام الفضاء الرقمي لبلورة الحراك والحشد، ولكن بأدواتٍ جديدة.
فقد استخدم جيل البوعزيزي فيسبوك وتويتر لبناء شبكات الاحتجاج وتداول مقاطع الغضب الشعبي، أمّا الجيل الجديد فنظَّم حراكه عبر ديسكورد وتيك توك، وهي منصات أصبحت الملاذ البديل بعد تضييق الخوارزميات على الوسائل القديمة وتحوُّلها إلى فضاءاتٍ للمراقبة أكثر من كونها ساحاتٍ للحوار.
إعلانفي تلك المساحات الرقمية الجديدة، تشكَّلت النقاشات، وتراكم الغضب، وتبلورت فكرة النزول إلى الشارع، واستخدم الشباب الفضاء الرقمي هذه المرة منصة للتنظيم وبناء التضامن، لا وسيلة عفوية فحسب.
لم يكُن قادة هذا الحراك ناشطين تقليديين، بل شبابا غير مؤدلج في العشرينيات من العمر. وهو جيلٌ يُعرَف في أدبيات علم الاجتماع بجيل "زِد"، وجاءت هذه التسمية ضمن محاولات الباحثين لتصنيف الأجيال وفق سماتها واتجاهاتها في التفكير والحياة والعمل والاستهلاك، من جيل طفرة المواليد (1950–1964) إلى جيل إكس (1965–1979)، ثم جيل الألفية (1980–1994)، وأخيرًا جيل زد (1995–2009)، ومن بعدهم جيل ألفا (2010–2024)، وجيل بيتا المتوقع بعد 2025.
يُوصف جيل زد بأنه جيل الإنترنت أو المواطنون الرقميون، الذين وُلدوا داخل العالم الافتراضي لا خارجه. وهم أبناء جيل إكس، وخلفاء جيل الألفية الذي قاد موجة التغيير الأولى. وقد ورثوا نتائج الثورات أكثر مما ورثوا أحلامها، وتتراوح أعمارهم بين 12 عاما ومنتصف العشرينيات تقريبا، ونشؤوا مع تطور شاشات البث المباشر وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، كما عاصروا جائحة كورونا في سنوات تكوينهم الأولى.
توضِّح أمل شمس، أستاذة علم الاجتماع، في دراسة منشورة بموقع مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء المصري، أن ثمة 3 معايير تحدد سمات جيل زِد، أولها العضوية المتصوَّرة، أي الشعور القوي بالانتماء إلى جماعةٍ افتراضية عابرة للحدود، وثانيها المعتقدات والسلوكيات المشتركة، وهي مواقفُ مُتحرِّرة من السلطة التقليدية والدين والسياسة، لكنها حساسة اتجاه العدالة والمساواة، وثالثها التاريخ المشترك، أي الأحداث التي شكَّلت وعيهم الجمعي، من جائحة كورونا إلى أزمات المناخ وصعود الذكاء الاصطناعي.
عالميا، يشكل جيل زد قرابة 30% من سكان العالم، أي نحو 2.5 مليار إنسان، لكن الصورة في أفريقيا أكثر حِدَّة، فالقارة تضم أكبر نسبة من الشباب في العالم، إذ إن نحو 60% من سكانها تحت سن الخامسة والعشرين، مما يعني أن أي حراك اجتماعي أو سياسي في أفريقيا اليوم لا يمكن فهمه خارج ديناميات هذا الجيل، وهو جيل يتنفَّس التكنولوجيا ويتغذَّى على الإحباط، لكنه لا يتردد في تحويل السخرية إلى أداة مقاومة.
اللافت أن شرارة الربيع الجديد لم تكتفِ هذه المرة بشمال أفريقيا، بل اجتاحت القارة بكل زخمها وتنوُّعها، من شرقها في كينيا وموزمبيق وأوغندا إلى غربها في نيجيريا والسنغال وتوغو، حتى وصلت إلى أكبر جزرها بالمحيط الهندي في مدغشقر، مدفوعة لا بشعاراتٍ أيديولوجية، بل بالغضب من تدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وارتفاع تكلفة المعيشة، والفشل الحكومي والقمع السياسي.
وهكذا، بدا أن الشعلة التي انطلقت من تونس قبل أكثر من عقد لم تنطفئ تماما، بل تغيَّر وقودها وتبدَّلت أدواتها، فجيل البوعزيزي قد سلَّم الراية دون أن يدري إلى جيلٍ جديد يرى في الاحتجاج لغة وجوده، وفي المنصات الرقمية ساحة بديلة عن الشوارع المُسوَّرة بالرقابة ومواقع التواصل الاجتماعي القديمة التي عفا عليها الزمن وطالتها رقابة الخوارزميات.
إعلانمن هذا المنطلق، فإن فهم التحرُّكات الجديدة لا يمكن بأدوات التحليل التقليدية التي انشغلت بالدولة والأحزاب والأيديولوجيا، بل بمنهج نقدي يقرأ الفعل الاحتجاجي على أنه نتاج تقاطعات اللامساواة التاريخية، والعنف البنيوي، وشبكات الهيمنة في الجنوب العالمي، بحيث ننظر إلى هذه الموجة الشبابية الجديدة بوصفها امتدادا لسؤال التحرر، لكن ليس تكرارا لمشهده القديم، إذ لم تعد المسألة مجرد تفاعلاتٍ شبابيةٍ عابرة، بل تعبيرا عن تحوّلٍ في بنية الفعل السياسي، حيث تندمج الفضاءات الرقمية بالفضاءات الواقعية لتنتج أشكالا هجينة من المقاومة.
في منتصف يونيو/حزيران 2024، خرج آلاف الشباب الكينيين إلى شوارع العاصمة نيروبي وعدة مدن أخرى. لم تنطلق الشرارة من مقرَّات الأحزاب أو عبر بيانات النقابات، بل من تطبيقات مثل تيك توك وإنستغرام وإكس، حيث دُشِّنت حملة رقمية واسعة تحت وسم "#RejectFinanceBill2024" أي "ارفضوا قانون المالية لعام 2024″، احتجاجا على مشروع قانون حكومي لزيادة الضرائب على السلع الأساسية والوقود، في إطار خطة تقشف فرضها صندوق النقد الدولي على حكومة الرئيس وليام روتو مقابل حزمة قروض جديدة.
كينيا بلد شابّ في شرق القارة يبلغ متوسط أعمار مواطنيه -البالغ عددهم 57 مليون نسمة- 20 عاما فقط، وفقا لإحصائيات هذا العام، بينما تبلغ أعمار حوالي 80% من سكان كينيا 35 عاما أو أقل.
وتُعاني كينيا من معدل بطالة يبلغ نحو 12%، ويشكّل الشباب ثلثي العاطلين عن العمل، إضافة إلى أزمة غلاء معيشة حادة بسبب ارتفاع التضخم. وقد مثَّل مشروع القانون الضريبي، الذي استهدف الطبقات الوسطى والدنيا، القشة التي قصمت ظهر الثقة العامة بالحكومة. فبينما كان المسؤولون يروِّجون له وسيلة لإنقاذ الاقتصاد، رآه الشباب استمرارا لنهجٍ يعاقب الفقراء لإنقاذ النظام.
استخدم المحتجون المنصات الرقمية لتنظيم الحملات، ونشر مقاطع قصيرة تشرح بنود القانون بأسلوب ساخر وجذاب، إلى جانب فضح مظاهر البذخ لدى النواب والمسؤولين، مما زاد من زخم الحراك في الشارع. لم يكن وراء هذه الحملة حزب سياسي أو حركة اجتماعية تقليدية، بل مجموعة من الشباب الذين لم يتجاوز معظمهم الخامسة والعشرين، والذين نظَّموا تحركاتهم عبر الفضاءات الرقمية، ونسَّقوا توقيتات النزول جماعيا دون قيادة مركزية معلنة.
كينيا، التي تعد من الدول القليلة في القارة التي تتمتع بتعددية حزبية، كشفت عبر هذه الموجة مدى هشاشة البنية السياسية، وأن الأمر أعقد من ممارسات شكلية للديمقراطية، فالشباب الكيني لم يعُد ينتظر الوسائط التقليدية للتمثيل السياسي، بل يصنع سرديته الخاصة عن العدالة الاقتصادية عبر محتوى بصري تفاعلي. وبينما كان البرلمان منهمكا في مناقشة بنود القانون، كانت الملايين من المشاهدات تتراكم تحت وسم "#RejectFinanceBill2024″، الذي تحوَّل إلى رمز لمواجهة الدولة التي توسَّعت في الجباية لتغطية عجزها المالي، دون أن تضمن عائدا ملموسا للمواطنين.
بحلول 25 يونيو/حزيران، كانت التظاهرات قد تحوَّلت إلى موجة غضب وطنية اجتاحت البلاد، وواجهتها الشرطة بعنف مفرط، أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 66 متظاهرا واعتقال واختطاف العشرات، وفقا لتقرير هيومن رايتس ووتش، قبل أن يعلن الرئيس روتو تعليق القانون نزولا على رغبة الشعب، الذي دخل شبابه الساحة السياسية فجأة، لا عن طريق الأحزاب، بل عن طريق شاشات الهواتف.
غير أن التراجع الحكومي لم يُنهِ الغضب الشعبي، إذ تحولت المظاهرات لاحقا إلى ساحة مفتوحة للمساءلة ضد الفساد وسوء إدارة الدَّين العام، وبدأ المتظاهرون يرفعون شعاراتٍ من قبيل "لسنا أبقارا حلوبا"، و"لسنا عملاء لأي حزب.. نحن المواطنون الحقيقيون".
إعلانوما زال الزخم والحراك مستمرَّين منذ العام الماضي وحتى وقتنا الحالي. ويرى حمدي عبد الرحمن، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، أن ما جرى في كينيا لا يمكن اختزاله في كونه احتجاجا اقتصاديا، بل هو تعبير عن تحوُّل في أنماط الفعل السياسي لدى الجيل الجديد، الذي لا يسعى إلى تمثيل داخل المؤسسات، بل إلى مساءلةٍ أخلاقية للسلطة في الفضاء العام.
هذا التحوُّل لم يكن معزولا عن السياق الاقتصادي الأوسع، فكينيا أحد الاقتصادات الصاعدة في شرق أفريقيا، لكنها تواجه أزمة دين كبيرة. إذ أعلن وزير المالية في صيف 2024 أن الدين الوطني بلغ نحو 82 مليار دولار، وأن نسبة الدين إلى الناتج المحلي تجاوزت 70%، مما دفع الحكومة إلى إعادة شراء سندات خارجية بفائدة مرتفعة في محاولة لتجنُّب التعثر، وفقا لتقرير رويتر.
وقد أجبرت تلك الضغوط الحكومة على تبنِّي سياسات تقشفية طالت الفئات الأكثر هشاشة، بينما ظل الإنفاق على الأجهزة الأمنية والبيروقراطية مرتفعا. وقد ربط تحليل لمؤسسة كارنيغي هذه الأزمة البنيوية بالبنية النيوليبرالية التي أعادت إنتاج الهشاشة الاجتماعية في كينيا منذ عقدين، معتبرا أن الأزمة الحالية "ليست لحظة غضب عابرة، بل تعبير عن فشل النموذج النيوليبرالي الذي حوَّل الاقتصاد الكيني إلى هيكل يخدم القلة ويقصي الأغلبية عن عوائد التنمية".
في هذا السياق، أعاد الحراك الكيني تعريف السياسة نفسها بوصفها فعلا جماعيا غير مؤسسي تُحرِّكه الذاكرة الرقمية والوعي الشبكي أكثر مما تُحرِّكه الأيديولوجيات. وما يُميِّز هذا الجيل هو قدرته على تحويل الفضاء الافتراضي إلى ساحة للهوية والمقاومة معا، حيث تُصاغ المطالب السياسية في شكلٍ ساخر، لكنه بالغ الجدية.
النتيجة أن الهاشتاغ صار أقوى من البرلمان، وأن شرارة ثورة تيك توك في كينيا دشَّنت ما يمكن وصفه بأنه بداية وعي سياسي عابر للحدود في أفريقيا. إنه جيلٌ لم يعد يرى نفسه داخل حدود الدولة الوطنية، بل جزءا من سردية عالمية أوسع ضد اللامساواة والفساد والعنف الهيكلي.
من نيروبي إلى الرباط، تمدَّدت عدوى الغضب الاجتماعي كأنها ترسم خريطة جديدة للاحتجاج في القارة. فبعد أن دوَّى صوت "جيل زد" الكيني، أطلق نظراؤهم في المغرب حراكا غير مسبوق تحت شعار "جيل زد 212" (GEN Z 212)، (الرقم 212 إشارة إلى رمز الربط الهاتفي الدولي للمملكة)، ليعلنوا أن الربيع المعاد تدويره ليس حكرا على شرق أفريقيا، بل هو عنوان لمرحلة جديدة من التعبئة الشبابية العابرة للأطر الأيديولوجية والحزبية.
بدأت الشرارة من احتقان اجتماعي غذاه ارتفاع مستمر للأسعار منذ سنوات، وخاصة أسعار المواد الغذائية الأساسية، كما ظهرت في بداية صيف 2025 احتجاجات ومسيرات في مناطق جبلية مهمشة خرجت فيها فئات اجتماعية مختلفة -بمن فيها الشباب- تطالب بأبسط شروط العيش الكريم (رفع العزلة وشق الطرق والمسالك، توفير مياه الشرب، توفير تغطية الهاتف المتنقل، توفير العلاجات الأساسية في المراكز الصحية في الأرياف)، وخرجت أبرز تلك المظاهرات في أقاليم أزيلال (وسط) وبني ملال (وسط) وتاونات (شمال غرب).
وتطور الأمر من الأرياف إلى المدن بعد مأساة وفاة ثماني نساء في شهر واحد أثناء الولادة في مستشفى مدينة أغادير (جنوب) بسبب الإهمال الطبي، وهي حادثة أطلقت جرس الإنذار بانهيار منظومة الصحة العامة، وأطلقت في الوقت نفسه شرارة احتجاجات شعبية تندد بهذا الإهمال شهدتها المدينة منتصف سبتمبر/أيلول.
سرعان ما تمدَّد الغضب من الخاص إلى العام، وأصبح صرخة ضد البطالة وغلاء المعيشة وتدهور الخدمات العامة، وعلى رأسها التعليم والصحة. وعبر تطبيقات التواصل الاجتماعي، تمكَّنت حركة "جيل زد 212" من حشد آلاف المنتسبين، جلَّهم من الفئة العمرية بين 15 و28 عاما، وأكثرهم بدون خلفيات حزبية أو نقابية.
ووفقا لمصادر صحفية فقد بدأت الحركة بفتح قناة للنقاش عبر تطبيق "ديسكورد" منتصف سبتمبر/أيلول الماضي، عقب مأساة مستشفى أكادير، واستقطبت في البداية نحو ثلاثة آلاف مشارك بأسماء مستعارة، يعقدون حلقات نقاش ليلية يديرها مُنشِّطو القناة حول المطالب وخطط التعبير عنها، وتنتهي عادة بعملية تصويت. ومن تلك النقاشات خرج القرار بتنظيم مظاهرات سلمية أواخر سبتمبر/أيلول 2025.
إعلانلم تؤخذ الدعوات حينها على محمل الجد، لكنها فاجأت السلطات بخروج آلاف المحتجين في مدن عدة، رغم المنع بدعوى عدم الترخيص و"غموض الجهة المنظمة". وبعد هذا المنع تضاعف عدد المنتسبين بسرعة، وتجاوز 170 ألف عضو على "ديسكورد"، وفق تقديرات صحيفة.
وتحت شعار "الشعب يريد إسقاط الفساد"، طالب المحتجون بإصلاح التعليم والصحة وباستقالة الحكومة، كما طالبوا الدولة بالاهتمام بالمستشفيات والمدارس كما تهتم بالملاعب والتجهيزات الرياضية استعدادا لبطولة كأس أفريقيا 2025 وبطولة كأس العالم 2030 التي سيستضيفها المغرب عام 2030 بالتشارك مع إسبانيا والبرتغال.
ووفق مجلة فورين بوليسي الأميركية، فإن هذه المظاهرات التي شهدها المغرب هي الأوسع منذ مظاهرات حركة 20 فبراير عام 2011، إذ امتدت احتجاجات 2025 إلى أكثر من 12 مدينة، وأسفرت عن مقتل ثلاثة متظاهرين واعتقال أكثر من ألف شخص.
وتبعا لبيانات المندوبية السامية للتخطيط (هيئة حكومية مهمتها الإحصاء وإعداد الدراسات عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في المغرب) يشكل الشباب في عمر 15-34 عاما نسبة 30% من السكان.
وعلى مدار العقد الماضي ارتفع عدد السكان في سنِّ العمل في المغرب بأكثر من 10%، بينما لم يزد معدل التوظيف سوى بـ1.5%، بحسب البنك الدولي. وقد بلغت بطالة الشباب نحو 40% عام 2024.
كما أظهر استطلاع لمؤسسة أفروباروميتر في فبراير/شباط 2024 أن أكثر من نصف المغاربة دون 35 عاما يفكرون في الهجرة بحثا عن عمل. وفي تقرير لوكالة دويتشه فيله الألمانية، يُقدَّم جيل زد المغربي بوصفه "ثقلا ديمغرافيا يتجاوز ربع سكان البلاد، لكنه الأكثر تضررا من البطالة والهشاشة".
فوفق المندوبية السامية للتخطيط، يبلغ عدد المغاربة الذين تتراوح أعمارهم بين 13 و29 سنة نحو 9.65 ملايين نسمة، أي أكثر من ربع السكان.
وهنا تتبدَّى المفارقة المغربية بوضوح، فالمؤسسات المالية الدولية التي تخطط الاقتصاد العالمي مثل صندوق النقد الدولي ومؤسسات التصنيف الائتماني العالمية مثل ستاندرد آند بورز، ما تزال تُقدِّم المغرب بوصفه نموذجا اقتصاديا ناجحا في أفريقيا، إذ إنه يتمتَّع بتصنيف ائتماني "استثماري"، وجذب نحو 40 مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية المباشرة في السنوات الأخيرة، وأضحى رائدا في صناعة السيارات والطائرات والتكنولوجيا الحديثة، حيث تُمثِّل الصناعة فيه نحو 29% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي النسبة الأعلى في القارة.
ولكن وراء هذه الأرقام اللامعة، ثمَّة واقع اجتماعي هش، إذ تتفاقم البطالة وتتسع الفوارق الطبقية، وتبدو نظريات التنمية النيوليبرالية التي وعدت بـ"تساقط ثمار النمو" عاجزة عن تحقيق العدالة الاجتماعية.
وقد ركَّز الحراك الأخير على التعليم والصحة تحديدا لأنهما يُجسِّدان التفاوت الاجتماعي في المغرب، إذ تضطر الكثير من الأسر المغربية إلى اللجوء للتعليم الخاص لتأمين تعليمٍ مقبولٍ لأبنائها، بينما تعاني المدارس العمومية من الاكتظاظ وضعف البنية التحتية.
View this post on InstagramA post shared by الجزيرة نت | اقتصاد (@aljazeeraeconomy)
أما الصحة العمومية، فرغم إعلان الحكومة عن تعميم التغطية الصحية منذ عام 2021، لا يزال هناك نقص كبير في التجهيزات وفي الأسرَّة والأطباء والكوادر الصحية عموما. وهنا يظهر التناقض بين الخطاب الرسمي المُمجِّد للمؤشرات الاقتصادية وبين الواقع الاجتماعي المأزوم الذي يعيشه المواطن يوميا.
رئيس الوزراء عزيز أخنوش، وهو أحد أثرياء البلاد بثروة تُقدَّر بحوالي مليار ونصف المليار دولار، قدم استقالته كما نادى بذلك المتظاهرون، وفي محاولة لاحتواء الغضب، أعلنت الحكومة عن تعيين أكثر من 500 طبيب جديد، وعن "إجراءات عقابية" لمسؤولين محليين في وزارة الصحة.
ودعا الملك محمد السادس في خطابه في افتتاح السنة التشريعية الجديدة للبرلمان يوم 10 أكتوبر/تشرين الأول 2025 إلى "عدالة اجتماعية" و"تقليص الفوارق" بين مناطق المغرب، لكنه لم يتطرق لأحد المطالب الأساسية لحركة "جيل زد 212″، وهو إقالة الحكومة.
وأكد الملك في خطابه أنه "لا ينبغي أن يكون هناك تناقض أو تنافس، بين المشاريع الوطنية الكبرى والبرامج الاجتماعية"، في إشارة إلى أن المشاريع الخاصة بالمونديال لا تتعارض مع إمكانية تطوير مجالي الصحة والتعليم وباقي مجالات التنمية الاجتماعية.
كما دعا إلى "العناية بالمناطق الأكثر هشاشة، بما يراعي خصوصياتها، وطبيعة حاجياتها، وخاصة مناطق الجبال والواحات"، و"إعادة النظر في تنمية المناطق الجبلية، التي تغطي 30 % من التراب الوطني، وتمكينها من سياسة عمومية مندمجة تراعي خصوصياتها، ومؤهلاتها الكثيرة".
واعتبر أن "العدالة الاجتماعية ومحاربة الفوارق المجالية" هي "توجه استراتيجي يجب على جميع الفاعلين الالتزام به"، و"رهان مصيري ينبغي أن يحكم مختلف السياسات التنموية".
وكانت الحركة قد أعلنت تعليق احتجاجاتها مؤقتا بالتزامن مع خطاب الملك، واصفة القرار بأنه "تعليق إستراتيجي وليس تراجعا"، وأكَّدت في بيان لها بعد الخطاب استئناف المظاهرات يوم السبت 18 أكتوبر/تشرين الأول 2025، مؤكدة تمسكها بمطالبها وعزمها على العودة إلى الشارع، وتمسكها بمطلب "تحسين الصحة والتعليم ومحاسبة الفاسدين وإطلاق سراح المعتقلين".
وبعد ذلك بيوم (الأحد 19 أكتوبر) أصدر الديوان الملكي بلاغا يعلن فيه أن الملك ترأس مجلس الوزراء وتقرر أثناءه الزيادة في الموازنة الخاصة بالتعليم والصحة سنة 2026 إلى 15 مليار دولار، بزيادة 16% عن سنة 2025، وإحداث أزيد من 27 ألف منصب مالي لفائدة القطاعين، وهو ما اعتبره متابعون استجابة بشكل غير مباشر لمطالب حراك "جيل زد".
وقد تميَّزت حركة "جيل زد 212" بطابعها اللامركزي والسلمي، وبخطابٍ يزاوج بين الحسِّ الوطني والنزعة العالمية، مستلهما لغة الحقوق والعدالة الاجتماعية بدلا من الأيديولوجيا الحزبية. وقد أتت مطالبها خدمية بالأساس: إصلاح التعليم العمومي، وتقوية المنظومة الصحية، وتعزيز فرص العمل، ومحاربة الفساد. والأهم أنها أعادت الشباب إلى قلب السياسة لكن من خارج الأحزاب السياسية والنقابات العمالية، التي يبدو أن دورها تراجع لصالح التكنوقراط ورجال الأعمال.
وفي نظر كثيرين، تمثل هذه الحركة أول اختبار حقيقي لقدرة الدولة المغربية على استيعاب جيل الإنترنت بوصفهم مواطنين لا متفرجين. وبينما يختبر المغرب هذه التحوُّلات المتسارعة، كانت مدغشقر على موعدٍ مع انفجار شعبي أكبر، حيث لم يكتف الشارع بالتعبير، بل سعى إلى قلب معادلة السلطة نفسها.
مدغشقر.. الجزيرة التي شبَّت عن الطوقتحوَّلت العاصفة القادمة من سواحل القارة على المحيط الأطلسي إلى تسونامي عند سواحلها الجنوبية الشرقية على المحيط الهندي، حيث تقع أكبر الجزر الأفريقية، مدغشقر، وهي جزيرة فتية، يبلغ عدد سكانها نحو 32 مليون نسمة، ويُقدَّر متوسط العمر فيها بـ19 سنة، مقابل متوسط عالمي يبلغ 30 سنة.
ولكن خلف هذا الشباب المتدفق مأساة طويلة من الفقر والتقلب السياسي. فمنذ استقلالها عن الاستعمار الفرنسي عام 1960، لم تعرف البلاد استقرارا سياسيا دائما، إذ عانت من سلسلة انقلابات متعاقبة دارت جميعها في حلقة متكررة من عسكرة الحكم، وانسداد الأفقين الاقتصادي والاجتماعي، وغياب المؤسسات المدنية القادرة على تحقيق تطلعات الشعب.
في عام 2025، في تحليل للباحث سيد غريب في مجلة قراءات أفريقية، كانت المؤشرات كلها تشير إلى الانفجار. فنحو 75% من السكان يعيشون تحت خط الفقر، وأقل من ثلث البيوت تصل إليها الكهرباء، في حين يحصل حوالي نصف السكان فقط على مياه نظيفة، و12% على خدمات صرف صحي لائقة. ومع استمرار التراجع الاقتصادي، هبط نصيب الفرد من الناتج المحلي من 812 دولارا عام 1960 إلى نحو 461 دولارا فقط هذا العام، وهو تدهور يختزل ستين عاما من "التنمية دون تقدم".
إلى جانب ذلك، شهدت البلاد انغلاقا متزايدا في الفضاء المدني وممارساتٍ متكررة لإسكات المعارضة وتكميم أفواهها، كان أحدثها اعتقال عضوين من المجلس البلدي المنتخب قبل الأحداث بأيام قليلة. كما ظهرت إشارات من النظام الحاكم إلى الاستعداد لتهيئة البيئة التشريعية والقانونية والسياسية لتمرير ترشُّح الرئيس الحالي أندري راجولينا لولاية ثالثة، عبر تعديل المادة 45 من دستور عام 2010 التي تحدِّد مدة الرئاسة بفترتين فقط، مما أضاف طبقة جديدة من الغضب واليأس لدى قطاعات واسعة من الشعب.
راجولينا الذي تولّى الحكم أول مرة عبر انقلاب عام 2009 قبل أن يعود عبر انتخابات 2018، كان يحكم برعاية مظلة فرنكوفونية كثيفة. وقد أدّت الهيمنة الفرنسية والغربية دورا مباشرا في تأجيج الغضب الشعبي، سواء عبر تصلب باريس في قضية الجزر التابعة لمدغشقر التي تحتلها منذ الاستقلال، أو عبر السيطرة الأجنبية على قطاع التعدين الذي يضم احتياطيات هائلة من النيكل والكوبالت والذهب والياقوت والتيتانيوم والكروم والبوكسيت والجرافيت تُقدَّر بنحو 800 مليار دولار، بينما تظل الحكومة عاجزة عن فرض الحوكمة على هذه الأنشطة التي تخضع لهيمنة شركات أجنبية.
وتحتل مدغشقر المرتبة 140 من أصل 180 دولة في مؤشر مدركات الفساد لعام 2024 الصادر عن منظمة الشفافية الدولية، وهو ما شكَّل شرارة للاحتجاجات التي طالبت باستقالة الرئيس وحل البرلمان ومحاكمة رجل الأعمال مامي رافاتومانجا، الممول الرئيسي لراجولينا، الذي هاجم المتظاهرون منزله ومنشآته. وهكذا، كانت البلاد على فوهة بركان وكانت الأجواء مهيأة للانتفاضة، وكان السقوط سريعا وخاطفا، إذ تسارعت الأحداث خلال ثلاثة أسابيع فقط.
في 25 سبتمبر/أيلول اندلعت احتجاجات شبابية ضخمة بسبب انقطاع المياه والكهرباء الذي وصل إلى 12 ساعة يوميا ردَّت عليها قوات الأمن بعنف مفرط، وكانت التظاهرات قد نُظِّمت عبر الإنترنت من صفحة تحمل عنوان "جيل زد مدغشقر" على فيسبوك، سرعان ما حصدت أكثر من 100 ألف متابع. في 29 سبتمبر/أيلول أقال الرئيس الحكومة في محاولة لاحتواء الأزمة، لكن الاحتجاجات اتسعت، وسقط 22 قتيلا وفق الأمم المتحدة.
في 8 أكتوبر/تشرين الأول رفض المحتجون عرضا للحوار دعا إليه الرئيس، متهمين حكومته بقتل الشعب، وبعد ثلاثة أيام جاءت نقطة التحوُّل عندما تمرَّدت وحدة عسكرية نخبوية بقيادة العقيد مايكل راندريانيرينا على راجولينا وانضمت إلى الاحتجاجات، وهي الوحدة ذاتها التي تمرَّدت أيضا على حكومة مدغشقر عام 2009، مما أدى إلى وصول راجولينا إلى السلطة زعيما انتقاليا، قبل أن يصبح دائما.
وفي 14 أكتوبر/تشرين الأول أعلن الجيش استيلاءه على السلطة بعد تصويت البرلمان بعزل راجولينا، الذي كان قد أصدر مرسوما من مخبئه بحل البرلمان. وفي 17 أكتوبر/تشرين الأول أدى راندريانيرينا اليمين الدستورية رئيسا لمدغشقر أمام المحكمة العليا، بعد ثلاثة أسابيع من المظاهرات التي أطاحت براجولينا. وهكذا انتقل راندريانيرينا في عامين من معتقل متهم بالتخطيط لانقلاب، إلى قصر الرئاسة دون صناديق اقتراع. وقد حرص راندريانيرينا على إضفاء الشرعية على سلطته، مؤكدا أنها "عملية انتقال مدني" استجابت لغضب الشارع وفي مقدمتهم شباب جيل زد، واعدا بانتخابات خلال عاميْن بحد أقصى.
وتُعد مدغشقر آخر مستعمرة فرنسية سابقة تنتقل إلى سيطرة العسكريين بعد انقلابات مالي وبوركينا فاسو والنيجر وغينيا. وهي تشهد ثالث انتقال للحكم العسكري في البلاد منذ استقلالها عن فرنسا سنة 1960، بعد انقلابَي عامَي 1972 و2009. أما راجولينا فهو ثالث زعيم مخلوع في مدغشقر يفرُّ من البلاد، إذ هرب قبله ديدييه راتسيراكا إلى فرنسا عام 2002 بعد أعمال عنف أعقبت الانتخابات، وانتقل مارك رافالومانانا بطائرة إلى جنوب أفريقيا عام 2009.
ولعل ما يثير الانتباه هو الدور الفرنسي، فبينما ساندت باريس عبر التاريخ العديد من الأنظمة في مستعمراتها السابقة، اختارت هذه المرة مقاربة أكثر هدوءا، ويبدو أن فرنسا تعلمت الدرس من تجارب دول الصحراء الكبرى المعروفة بالساحل، حين أدى تصلُّبها السياسي إلى تصاعد الغضب الشعبي ضدها، وخسارتها مواقع النفوذ هناك لصالح روسيا.
ولذا سارعت باريس هذه المرة إلى إجلاء راجولينا بهدوء، في خطوةٍ فسَّرها مراقبون بأنها محاولة لتفادي مواجهة شاملة أو حرب أهلية قد تُهدِّد مصالحها الاقتصادية والعسكرية في مدغشقر، مع الحفاظ على خيوط الهيمنة دون الظهور طرفا في الأزمة.
أما المجتمع الدولي، فاكتفى بردٍّ رمزي، إذ أوقف الاتحاد الأفريقي عضوية مدغشقر مؤقتا، وعلَّق الاتحاد الأوروبي بعض المساعدات التنموية، وصدرت بيانات "قلق" من الأمم المتحدة دون تحرك ملموس. وهي إجراءات نمطية معتادة: عقوبات تُعاقب الفقراء لا الأنظمة، وتُعيد إنتاج الحلقة ذاتها من العزلة والانكفاء.
لكن الأهم من المواقف الخارجية هو ما يجري في الداخل، حيث تقف مدغشقر اليوم أمام مفترق طرق، بين إعادة إنتاج دورة الانقلابات التي بدأت منذ ستة عقود، أو كسرها عبر جيلٍ جديدٍ خرج من فضاء جديد، وشبَّ على وعي سياسي مختلف، واستلهم احتجاجاته من موجة جيل زد في كينيا والمغرب وجنوب شرق آسيا، رافعا شعارات على هيئة جمجمة كارتونية تعلوها قبعة من القش، مقتبسة من سلسلة الأنيمي اليابانية "وَن بيس" (One Piece)، التي تتحدث عن قراصنة يقاتلون حكومة قمعية.
من القارة إلى العالم.. الجنوب العالمي يتمرَّدفي ظل موجةٍ آخذة في الاتساع من الغليان الشعبي في القارة الأفريقية، يُسمع صداها في الجنوب العالمي، تتقدَّم احتجاجات "جيل زد" بوصفها تعبيرا جديدا عن وعي سياسيّ شبابي يتجاوز الحدود الوطنية، ويعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع في زمن الأزمات المتشابكة.
فوفقا لتقرير حديث للبنك الدولي، لا تتجاوز نسبة الوظائف الثابتة في أفريقيا جنوب الصحراء 24% من إجمالي الوظائف، في وقت تتفاقم فيه معدلات البطالة بين الشباب الذين يشكّلون أكثر من 60% من سكان القارة. ومع تصاعد تكاليف المعيشة وتراجع أفق الحل السياسي، أصبحت الاضطرابات في دول مثل المغرب ومدغشقر وكينيا تمثل مؤشرا على عدوى سياسية قد تمتد إلى دول أخرى، كما حذَّرت شركة إدارة الأخطار "سولاس غلوبال" من أن الإحباطات الاقتصادية "تشعر بها مناطق أخرى من القارة".
وفي السياق ذاته، أشارت شركة "بانجيا ريسك" إلى أوغندا، حيث يتجاوز عمر الرئيس يوري موسيفيني 81 عاما ويعتزم الترشح لولاية سابعة في يناير/كانون الثاني القادم، وحيث تقلّ أعمار أكثر من نصف سكانها عن 30 عاما، إذ إنها مُرشَّحة أيضا لموجة جديدة من الاحتجاجات. ولا تبدو جمهورية الكونغو الديمقراطية بعيدة عن هذا المسار، إذ يعيش نحو ثلاثة أرباع سكانها تحت سن الخامسة والعشرين في ظروف معيشية متردية، ضمن إحدى أكثر البيئات هشاشة في العالم.
هذا التململ الاجتماعي المتنامي يتقاطع مع مشهد جيوسياسي عالمي متوتر، تتكاثر فيه بؤر الصراع من أوكرانيا وروسيا إلى إثيوبيا وإريتريا وأذربيجان وأرمينيا والصين وتايوان والهند وباكستان ونظام عنصري استيطاني في إسرائيل اتخذ الإبادة منهجا. وفي وقت تتراجع فيه الهيمنة الأميركية اختياريا لصالح عالم متعدد الأقطاب، تُترك مساحات أكبر للفواعل الإقليمية لتعيد رسم خرائط النفوذ بما لا يتعارض مع مصالحها.
ومع اشتداد الأزمة الاقتصادية العالمية، وتصاعد الحرب التجارية الأميركية الصينية، وإعادة ترتيب أدوات التعاون الاقتصادي من إدارة ترامب نحو أفريقيا، مثل الغموض الذي يحيط بقانون "أغوا" الخاص بالتجارة مع القارة المنتهي في سبتمبر/أيلول الماضي، فضلا عن تعطيل خدمات الوكالة الأميركية للتنمية وفرض رسوم جمركية إضافية على الدول الأفريقية، مما يعزز هشاشة هياكلها الاقتصادية.
ولذا، تبدو أفريقيا أمام منعطف تاريخي فاصل تُختبر فيه قدرة مجتمعاتها الشابة على تحويل الغضب إلى مشروعٍ تغييري يتجاوز الاحتجاج إلى إعادة تعريف التنمية والعدالة والتمثيل السياسي في الجنوب العالمي. وبينما القارة على أعتاب مراجعة كبرى لمفهوم الاستقلال ذاته، يطفو سؤال "الربيع المؤجَّل" إلى السطح. وكما يقول المثل الأفريقي: عندما يفشل الكبار في التحدُّث، يقول الأطفال الحقيقة. لم تعُد الاحتجاجات التي تشهدها دول مثل مدغشقر والمغرب وكينيا، أو حتى الانقلابات في النيجر ومالي وبوركينا فاسو، أحداثا عرضية أو دورات احتجاج موسمية، بل مؤشرات على موجة أعمق تعيد صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع في القارة.
فمنذ 5 أعوام على الأقل، تختمر في أفريقيا ملامح حراك اجتماعي جديد، تقوده أجيال شابة ضاقت ذرعا بأنظمة ما بعد الاستقلال التي ورثت السلطة عن حركات التحرر لكنها فشلت في بناء مشروع وطني جامع، وتحولت تدريجيا إلى سلطويات مغلقة تعيد إنتاج التبعية التي كانت تزعم التحرر منها.
وحدهم من حاولوا كسر هذه الحلقة، مثل باتريس لومومبا في الكونغو وتوماس سانكارا في بوركينا فاسو، أُقصوا أو صُفُّوا مبكرا، ليتواصل المسار على أيدي أنظمة رفعت شعارات مثالية عن الحرية والسيادة كما في إريتريا والكاميرون وأوغندا، لكنها انتهت إلى نموذج الدولة القمعية.
مع تحولات العقد الأخير، أعاد جيل زد صياغة المشهد بطرق غير مألوفة، فهو جيلٌ ينظم نفسه عبر الفضاء الرقمي بعيدا عن رقابة السلطة، ويُحوِّل لحظة الغضب إلى فعل سياسي جماعي، ولم يعد يطلب الإصلاح من داخل النظام، بل يطرح نفسه فاعلا بديلا. وقد تجلَّت هذه الروح في كينيا والمغرب ومدغشقر، حيث خرجت الحشود ترفع شعارات العدالة الاجتماعية ومكافحة الفساد وتوزيع الثروة على نحو متكافئ.
بالتوازي، أخذت رياح التغيير في الصحراء الكبرى شكل انقلابات "ذات أجندة استقلال وطني"، تختلف عن الانقلابات التقليدية التي كانت مجرد صراع على السلطة، في حين شهدت السنغال وبوتسوانا انتقالات انتخابية حملت بذور تحوُّل ديمقراطي نادر. وهكذا تتكون أمامنا لوحة واحدة متشابكة: احتجاجات شعبية، انقلابات سياسية، انتخابات تنافسية، وكلها وجوه متعددة لصراعٍ واحد على إعادة تعريف الاستقلال والتحرر من بنية النيوليبرالية والتبعية الاقتصادية التي أعادت إنتاج الاستعمار في ثوب جديد.
صحيح أن نتائج هذا الحراك لا تزال مفتوحة، وقد تنحرف بعض مساراته لتلد أنظمة قمعية جديدة، لكن المؤكد أن القارة دخلت زمنا مختلفا، وأن ما يجري في مدغشقر وكينيا والمغرب ومالي والنيجر وغيرها من بلدان أفريقيا والجنوب العالمي ليس نهاية المطاف، بل بدايته؛ فساعة العد التنازلي لصراع العروش قد بدأت، لكن هذه المرة بلاعبٍ جديدٍ غير مألوف للأنظمة القديمة، جيلٍ يمسك بجهاز تحكمٍ رقميٍّ بدل عصا السلطة، ويعيد طرح السؤال الذي يطرق أبواب القارة والعالم معا: من التالي؟
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: غوث حريات دراسات أبعاد العدالة الاجتماعیة أکتوبر تشرین الأول التعلیم والصحة الجنوب العالمی سبتمبر أیلول الغضب الشعبی ملیار دولار فی أفریقیا فی المغرب فی القارة فی مدغشقر هذه المرة فی کینیا جیل زد 212 أکثر من من سکان
إقرأ أيضاً:
وزير الخارجية: أسوان مدينة السلام وأقرب محافظات مصر للقارة الإفريقية
قال الدكتور بدر عبد العاطي، وزير الخارجية، إن انعقاد منتدى أسوان للسلام والتنمية المستدامين في نسخته الخامسة داخل مدينة أسوان يعكس عمق الارتباط المصري بالقارة الإفريقية، مشيرًا إلى أن هذه المدينة العريقة تمثل بوابة مصر إلى الجنوب وجسرًا طبيعيًا يربطها بأشقائها في إفريقيا.
استضافة المنتدى بعد النسخة الأولىوأضاف أن اختيار أسوان مجددًا لاستضافة المنتدى بعد النسخة الأولى عام 2019 يحمل دلالات رمزية مهمة، إذ تُعد المدينة عنوانًا للسلام والتواصل الإنساني، فضلًا عن موقعها الجغرافي المميز على الحدود مع السودان الشقيق في وادي حلفا.
وفي تصريحاته لقناة القاهرة الإخبارية، خلال برنامج الحصاد الأفريقي مع الإعلامي حساني بشير ، أوضح وزير الخارجية أن مصر تعتز بعودة المنتدى إلى أسوان، وبالمشاركة الإفريقية الواسعة التي يشهدها هذا العام، خاصة من الأشقاء في السودان، مؤكدًا أن التعاون المصري السوداني يمثل ركيزة أساسية في دعم قضايا القارة وتعزيز الاستقرار الإقليمي.
الحوار والتنسيق بين الدولوأشار إلى أن هذه النسخة تأتي في مرحلة حساسة من تاريخ القارة الإفريقية والعالم، ما يجعل الحوار والتنسيق بين الدول أكثر أهمية من أي وقت مضى.
وأكد عبد العاطي أن أسوان ليست فقط مدينة للمؤتمرات، بل رمز لعلاقة مصر المتجذّرة بإفريقيا، مشيرًا إلى أن المنتدى يجسد التزام القاهرة الراسخ بدعم السلام والتنمية في القارة، وتوحيد الرؤى لمواجهة التحديات المشتركة.