مهرجان الجالية الهندية.. بين القداسة والثقافة
تاريخ النشر: 28th, October 2025 GMT
خالد بن سالم الغساني
حين شاهدتُ بعض المقاطع المتداولة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وما أثير حولها من تعليقات وردَّات فعل عن مهرجان للجالية الهندية، أقيم في حديقة العامرات، وتحت رعاية رسمية هندية، وحضور الزي الرسمي العُماني في بعض جوانب المهرجان، ما أضاف مزيدًا من التعقيد على المشهد، كل ذلك دفعني إلى التفكير في الرسائل الرمزية المُوجهة من خلال هذا الحضور.
وعلى الفور أعادتني هذه اللوحة كثيرًا إلى الوراء، حين كنت مشاركًا في اجتماعات اليونيسكو عام 2005م بصفتي الرسمية، والتي نوقشت خلالها وأقرت اتفاقية التنوع الثقافي، التي تهدف إلى حماية وتعزيز تنوع أشكال التعبير الثقافي. لا أنسى الضَّجة الكبيرة التي أحدثتها الولايات المتحدة الأمريكية، وسخرت إمكانياتها في حشد أكبر قدر من الدول للوقوف ضد الاتفاقية، رغم اعتمادها في نفس الاجتماع بأغلبية مُطلقة.
فالعولمة، التي وُصفت بأنها طريق للتقارب بين الشعوب، كانت دومًا تحمل هدفًا صريحًا، يتمثل في إذابة الثقافات المتعددة في واحدة، لتصبح الرموز والممارسات منفصلة عن سياقها المحلي وموروثها الديني. وهكذا بينما تهدف العولمة إلى ذوبان الثقافات، طرح المشهد الذي شاهدته سؤالًا مباشرًا: كيف يمكن لفعالية تحمل رموزًا دينية واضحة أن تُعرض في فضاء عام إسلامي؟
دفعني ذلك للبحث السريع لمعرفة كيفية الفصل بين ما هو ثقافي وما هو ديني. فقد صار كثير من المظاهر التراثية محل جدل بين من يراها تعبيرًا عن هوية إنسانية جامعة، ومن يراها تسلّلًا مُقنَّعًا للمعتقدات داخل الفضاء العام. فالثقافة لا تنشأ من العدم، وإنما تتكوّن من طبقات متراكمة من المعتقدات والعادات والطقوس التي مارسها الناس عبر القرون. والدين، بوصفه أحد أقدم أشكال الوعي الجمعي، كان ولا يزال مصدرًا أساسيًا لتشكيل تلك الثقافة. لذا، فالقول إن التراث الثقافي منزوع تمامًا من الدين يبدو ضربًا من التجريد الذي لا يصمد أمام الواقع التاريخي أو الاجتماعي.
ففي المجتمعات القديمة، لم يكن ثمَّة تمييز بين الديني والمدني، لأنَّ الحياة كلها كانت تُدار وفق منظومة مقدّسة. الاحتفال بالمواسم الزراعية، على سبيل المثال، كان يحمل في طياته دعاءً للخصب واستدرارًا لرحمة الآلهة. ومع مرور الزمن، بقي الاحتفال لكنه فقد معناه التعبّدي، وتحول إلى مناسبة اجتماعية وثقافية. الأمر نفسه ينطبق على كثير من المظاهر التي نراها اليوم: أعياد الميلاد، الأزياء التقليدية، أو حتى الأغاني الشعبية، كلها وُلدت في رحم عقائد قديمة لكنها اليوم تُمارس بمعزل عن نية العبادة.
ومع ذلك، لا يُمكن إنكار أن بعض المهرجانات المعاصرة ما زالت تحمل مضمونًا دينيًا صريحًا، حتى وإن قُدّمت للعالم في ثوب ثقافي.
مهرجان "ديوالي" الهندوسي مثال واضح على ذلك؛ ففي أصله، هو احتفال ديني يرمز إلى انتصار النور على الظلام وعودة الإله "راما" بعد تغلبه على قوى الشر. إشعال المصابيح والشموع فيه ليس زينة؛ بل فعل رمزي يحمل معنى روحيًا مرتبطًا بالإيمان بآلهة محددة. صحيح أن مظاهر الاحتفال تطورت، وصار المهرجان مناسبة وطنية في الهند يشارك فيها حتى غير الهندوس، إلّا أن جذوره الدينية لا يمكن اقتلاعها من سياقها مهما حاول البعض تلطيف المعنى أو تغليفه بالوصف الثقافي.
إنَّ المعضلة لا تكمن في وجود مثل هذه الاحتفالات؛ بل في كيفية التعامل معها عندما تتجاوز حدودها الجغرافية والدينية إلى فضاءات مجتمعات تختلف عنها في العقيدة والتصور. فحين يُقام احتفالٌ ذي مضمون ديني في بلد ذي هوية إسلامية، فإن المسألة تتجاوز فكرة التبادل الثقافي إلى قضية أكثر تعقيدًا تتعلق بالمرجعية القيمية للفضاء العام. فالثقافة، مهما كانت منفتحة، لا يمكن أن تكون محايدة حين تُخالف الأساس العقدي للمجتمع المضيف. إن الاحتفاء بالثقافة لا يعني بالضرورة قبول كل ما تحمله من رموز دينية، فالثقافة ليست كائنًا بريئًا منفصلًا عن سياقه التاريخي؛ بل هي حاملة له، بكل ما فيه من معتقدات وأساطير وطقوس.
في عُمان، أثار هذا المهرجان برموزه الهندوسية الواضحة، جدلًا واسعًا؛ فمجسَّمات الثور والبقر، هي رموز مقدّسة في المعتقد الهندوسي. وقد صنّفه كثير من العلماء والدعاة والمواطنين بأنَّه مهرجان شركي، لا يجوز أن يُمنح تصريحًا لإقامته في بلد إسلامي تُعرَف بتسامحها، ولكن أيضًا بثباتها على مبادئها الدينية. فالتسامح لا يعني الذوبان، والاحترام لا يعني التنازل عن الحدود الفاصلة بين العقيدة والثقافة. إنَّ إقامة مثل هذه الفعاليات في فضاء عام إسلامي يحمل دلالات رمزية لا يمكن تجاهلها، لأن ما يُقدّم على أنه عرض ثقافي قد يُقرأ في الوعي الجمعي على أنه تطبيع رمزي مع طقوس تتنافى مع التوحيد.
والقضية في النهاية ليست رفضًا للآخر، إنها وعي بحدود التداخل بين الهويات. فكما لا يُسمح بإقامة طقوس دينية إسلامية في معبد هندوسي، لا يمكن أن يُتوقع أن تمرّ طقوس شركية دون اعتراض في بلد مسلم. المسألة في جوهرها تتعلق بالتمييز بين الاحتفاء بالثقافة بوصفها مساحة للتعارف والتفاعل، وبين الاحتفاء بالدين بوصفه منظومة إيمانية مغلقة لا تقبل المساواة الرمزية مع غيرها. حين تذوب هذه الحدود، يختلّ ميزان التعايش، ويصبح الانفتاح شعارًا فضفاضًا يُستخدم لتبرير كل شيء، حتى ما يمسّ الثوابت.
إن المطلوب ليس الانغلاق على الذات؛ بل الوعي بأنَّ التعدد الثقافي لا يعني أن يُسمح بخلط المقدّس بالمجرَّد، أو أن تُعرض الطقوس الدينية في سياق يُفترض أنه ثقافي بحت. فالثقافة حين تنزع من الدين تصبح أفقًا إنسانيًا مشتركًا، أمَّا حين تبقى مشدودة إلى رموز العقيدة فمكانها الطبيعي داخل حدود المعتقد وأماكن العبادة، لا في الحدائق العامة أو المهرجانات الرسمية.
ومن هنا يمكن القول إنَّ ما حدث في حديقة العامرات- من وجهة نظري- لم يكن عرضًا ثقافيًا بحتًا، على الأقل من خلال ما رُفع من مجسمات دينية معروفة لدى الديانة الهندوسية؛ بل إنه فعالية ذات مضمون ديني واضح، أثارت بحق تساؤلات حول حدود التسامح، وطبيعة الانفتاح، والتمييز بين ما هو من التراث الإنساني العام، وما هو من صميم العقيدة التي لا يُقبل فيها الشرك ولا يُستساغ فيها الخلط.
وللتذكير قبل الختام ولمن يُحاجج، نُشير إلى أن الحدث لم يكن في قاعة مُغلقة، يمكن معها ألا يحدث ذلك الضجيج. فعُمان بلد التسامح منذ فجر التاريخ، وذلك لا يمكن أن يُجادل فيه أو يُنكره سوى جاحد أو حاقد، لكن تسامحها يأبى عليها أن تجعل من ساحاتها العامة أماكن تمارس عليها مظاهر الشرك، تحت شعارات "لكل حقه في التعبير عن معتقداته"، فأولى مبادئ التسامح هو التمسك بقوة بالعقيدة ورفض كل ما يسيء إليها بقصدٍ كان أو بدونه.
فهل هي تأثيرات العولمة التي جعلتنا نرى المُعتقد طقسًا، والطقس ثقافة، والثقافة مشهدًا لا يُسأل عن جذوره، ويمكن أن يُمارس خارج حدوده دون أن يثير أي ضجيج أو استنكار أو اعتراض؟!
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
الأزهر للفتوى: احترام الكبير أمر ديني وقيمة مجتمعية أصيلة
قال مركز الازهر العالمي للفتوى الالكترونية، إن الاعتداء على كبير السن، قولًا أو فعلًا، لا يُعد مخالفة أخلاقية فحسب، بل هو جريمة في ميزان الدين والقيم والفطرة، وخروج عن أدب الإسلام الذي أمر بتوقيره، وجعل هذا التوقير علامة على حسن الإسلام والخُلق؛ يقول سيدنا النبي ﷺ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا». [أخرجه الترمذي]
واضاف مركز الأزهر في منشور له عبر صفحته الرسمية بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، ان من مظاهر احترام الكبير، الترفق به، وقضاء حوائجه، ومعاونته، ومُخاطبته بلطف وأدب، وترك القبيح في حضرته، وتقديمه في الجلوس والحديث، ونحو ذلك؛ فعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: «لقَدْ كُنْتُ علَى عَهْدِ رَسولِ اللهِ ﷺ غُلَامًا، فَكُنْتُ أَحْفَظُ عنْه، فَما يَمْنَعُنِي مِنَ القَوْلِ إلَّا أنَّ هَا هُنَا رِجَالًا هُمْ أَسَنُّ مِنِّي». [متفق عليه]
فالكبير فينا له حق التبجيل والإكرام، والرحمة والتقدير والاحترام؛ فهو من بَذَرَ الخير، وربّى وعلّم، وجدّ وسعى، وقدّم عُمره في سبيل أسرته ووطنه.
لذا كان احترامه ليس مجرّد خُلُقٍ فردي كريم، بل هو قيمة مجتمعية تحفظ للمجتمع توازنه، وتبني جسور المودة والاحترام بين الناس.
وحين يضعف هذا الخلق، يضعف معه نسيج المجتمع وتشوَّه فطرته الإنسانية، وتظهر فيه أخلاق شائنة كالغلظة والأنانية والجفاء.