حين يصبح السلام ضرورة لا خيارًا
تاريخ النشر: 28th, October 2025 GMT
عبدالنبي الشعلة **
بعد نشر مقالي، قبل بضعة أيام، بعنوان "إسرائيل بين الانهيار وإعادة التموضع" وذلك بعد توقيع "اتفاقية شرم الشيخ لوقف إطلاق النار"، تلقيت تعليقات وملاحظات كثيرة من القرّاء، كان معظمها مشيدًا، وقليل منها ناقدًا بشدة.
وقد ركّزت معظم الانتقادات على ما اعتبره البعض تغافلًا مني عن الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني منذ قيامها، وبالأخص خلال العامين الماضيين بعد أحداث السابع من أكتوبر 2023؛ بل ذهب بعضهم إلى القول بأنني بدعوتي إلى إدماج إسرائيل في منظومة التعاون الإقليمي، أقدّم نوعًا من «المكافأة» لمن ارتكبوا المذابح والجرائم بحق الفلسطينيين والعرب.
ولأولئك أقول: إن السلام ليس غفرانًا للجرائم ولا نسيانًا للحقوق؛ بل هو وعيٌ بالتاريخ ودرسٌ مستفاد من تجاربه المرة. إنني أُفرِّق بوضوح بين الدولة والنظام، وبين الشعوب والحكومات؛ فالشعوب لا تُؤخذ بجريرة أنظمتها، ولا يمكن معاقبتها على سياسات متطرفة لم تصنعها. إسرائيل اليوم، شئنا أم أبينا، دولة قائمة، عضو في الأمم المتحدة، وتحظى بدعم أقوى قوة على وجه الأرض: الولايات المتحدة الأمريكية، إلى جانب دعم واسع من دول أوروبا التي لا تزال حتى اليوم تحاول، على حساب حقوق الشعب الفلسطيني، التكفير عن ماضيها الدموي تجاه اليهود، من مذابح القرون الوسطى إلى أفران الغاز النازية. هذا الدعم منح إسرائيل حصانة سياسية واقتصادية وعسكرية غير مسبوقة، وجعلها حقيقة واقعة في النظام الدولي.
بل إن الفلسطينيين أنفسهم، من خلال اتفاقيات أوسلو وغيرها، اعترفوا بإسرائيل كدولة ذات سيادة ضمن حدود ما قبل عام 1967، ومعظم الدول العربية والإسلامية اليوم ترتبط بعلاقات مباشرة أو غير مباشرة معها. فهل يبقى مجديًا أن ندفن رؤوسنا في الرمال، وأن نطالب بالقضاء على دولة يعترف بها العالم، ويقيم معها علاقاتٍ سياسية واقتصادية وأمنية؟
إن التمسك بالشعارات القديمة ورفض الاعتراف بالواقع لا يخدم القضية الفلسطينية، بل يطيل أمد معاناة الشعب الفلسطيني. فالقضية اليوم ليست في حاجة إلى خطابٍ تعبويٍّ عاطفي، بل إلى موقفٍ عقلاني واقعي يختار من الوسائل ما يحقق الممكن من الحقوق بأقل قدرٍ من الخسائر، ومن دون أن يتنازل عن المبدأ أو الهدف.
لقد علمنا التاريخ أن السلام ليس ضعفًا؛ بل هو ذروة القوة. وبعد الحرب العالمية الثانية، لم تُعاقَب الشعوب الألمانية واليابانية على جرائم قادتها؛ بل عوقب المسؤولون وحُوسبوا، ثم ساعد المجتمع الدولي تلك الشعوب على النهوض من رماد الحرب، حتى أصبحت ألمانيا واليابان نموذجين في التنمية والازدهار. الدرس هنا واضح: المحاسبة شيء، وبناء المستقبل شيء آخر.
إن استمرار الصراع المسلح لا يخدم إلّا المتطرفين في الجانبين؛ فالحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة بقيادة نتنياهو وحلفائه، تستمد شرعيتها من استمرار التوتر والعداء، وتختنق كلما اقتربت فرص السلام.
السلام الحقيقي يُضعف دُعاة الكراهية في كل طرف؛ لأنه يُسقط ذرائعهم، ويعيد الإنسان إلى موقعه الطبيعي: باحثًا عن الأمن والحياة لا عن الموت والانتقام.
ومن هنا، فإنَّ المطلوب اليوم من الفلسطينيين والعرب هو التمسك بوسائل النضال السلمي، وتوحيد الصف الفلسطيني المنقسم على ذاته منذ سنوات طويلة؛ فالانقسام أضعف الموقف الفلسطيني في المحافل الدولية، وسمح للخصوم بالتلاعب بأوراق الخلاف الداخلي. كما إن تحويل القضية إلى صراعٍ دينيٍّ لا يخدمها؛ بل يضرّ بها. القضية الفلسطينية ليست قضية إسلامية ضد اليهودية أو المسيحية؛ بل قضية شعبٍ يُطالب بحقوقه المشروعة وفق القوانين الدولية وقرارات الأمم المتحدة. إدخال الدين في الصراع يمنح إسرائيل الفرصة لتصوير نفسها ضحيةً لـ«صراعٍ ديني»، فتستجلب دعم الصهاينة المسيحيين وتُحرّك مشاعر الغرب الدينية بدلًا من ضميره الإنساني.
القضية الفلسطينية أقوى من أن تُختزل في الشعارات أو الأيديولوجيات. إنها قضية أخلاقية وإنسانية وقانونية قبل أن تكون دينية. وكلما كان خطابها عقلانيًا، ازدادت مساحة التعاطف الدولي معها. لقد تغيّر العالم، ولم يعد الرأي العام يُستثار بالشعارات، بل يُقنع بالحقائق والبرهان والإنسانية المشتركة.
إن السلام، في جوهره، ليس تنازلًا عن الحق؛ بل وسيلةٌ لاستعادته. فالسلام الممكن خيرٌ من الحرب المستحيلة، والاتفاق الجزئي خيرٌ من القطيعة الشاملة، والحوار مهما طال خيرٌ من طلقة واحدة تُزهق بها الأرواح وتُدمر بها الأوطان.
ولا يعني ذلك القبول بالإملاءات أو التغاضي عن العدوان؛ بل اختيار الطريق الأكثر نجاعة لإنهاء المأساة. الطريق الذي يحفظ الدماء ويعيد الحقوق بوسائل القانون والسياسة، لا بالانتقام الذي يورّث الحقد جيلًا بعد جيل.
لقد جرّب العالم مرارة الحروب، ثم تعلّم أن السلام، مهما بدا صعبًا، هو الطريق الوحيد للحياة. أوروبا التي تقاتلت قرونًا، وحُرقت مدنها في الحربين العالميتين، أصبحت اليوم قارةً واحدة بلا حدود داخلية، لأن شعوبها أدركت أن الأمن الجماعي أهم من الكبرياء القومي. وكذلك يمكن للمنطقة العربية أن تنتقل من دوائر الصراع إلى فضاء التعايش إذا امتلكت الشجاعة للمصارحة والمصالحة.
إن السلام ليس خيارًا بين بدائل متعددة؛ بل هو البديل الوحيد المتبقي أمامنا جميعًا: الفلسطينيين، والعرب، والإسرائيليين، والعالم أجمع. فكل الطرق الأخرى تؤدي إلى مزيدٍ من الخراب وسفك الدماء.
وحين يصبح السلام ضرورةً لا خيارًا، علينا أن نمتلك الشجاعة للسير فيه، وأن نفهم أنه لا ينقص من كرامتنا؛ بل يضيف إلى إنسانيتنا، ويُمهّد لأجيالنا المقبلة طريقًا نحو حياةٍ تستحق أن تُعاش.
** كاتب بحريني
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
أطباء بلا حدود:إسرائيل ما زالت تستخدم المساعدات كورقة ضغط ضد الفلسطينيين
أكدت كارولين ويلمن منسقة مشروع منظمة أطباء بلا حدود في قطاع غزة ، الأحد 26 أكتوبر 2025 ، إن إسرائيل ورغم اتفاق وقف الحرب إلا أنها ما زالت تستخدم المساعدات الإنسانية كورقة ضغط ضد الفلسطينيين.
وقالت ويلمن:" المساعدات الإنسانية المرسلة إلى قطاع غزة لا يجب أن تُربط بأي شروط سياسية".
وأوضحت أن الهجمات الإسرائيلية على القطاع انخفضت بشكل كبير منذ بدء تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار، لكن الجيش الإسرائيلي شنّ هجوما واسعا في 19 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، مع استمراره إطلاق النار شبه اليومي.
وأشارت إلى أن الأوضاع الإنسانية في غزة لم تتحسن كثيرا، إذ لا يزال نقص المياه والمأوى قائما، وأن مئات الآلاف ما زالوا يعيشون في الخيام مع اقتراب فصل الشتاء.
ولفتت إلى أن فرق المنظمة تواصل تسجيل حالات سوء تغذية حاد بين الأطفال دون الخامسة والحوامل، وأن الوضع الغذائي لا يزال مقلقا رغم وجود تحسّن طفيف.
وقالت أيضا إن تقديم الخدمات الصحية اليومية ما زال صعبا جدا رغم وقف إطلاق النار.
وتابعت: "فلسطيني غزة يعيشون منذ عامين رعب الإبادة الجماعية. نحن بحاجة ماسة للمساعدات فقط لضمان أن ينام الناس على فراش وبطانية داخل خيمهم. وإعادة إعمار غزة سيستغرق وقتا طويلا، لكننا حتى الآن لم نصل إلى الحد الأدنى من الشروط الإنسانية الأساسية في القطاع".
المصدر : وكالة سوا - الاناضول اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد المزيد من آخر أخبار فلسطين اليونيسف : ثلاث سنوات من انقطاع التعليم في غزة تهدد ضياع جيل كامل وزارة العمل الفلسطينية توضح آلية الاستفادة من المشاريع التشغيلية في غزة رئيس بلدية غزة: نقص المعدات يعرقل عمل البلديات ويحد من مشاريع المياه الأكثر قراءة قوات الاحتلال والمستوطنون يهاجمون المزارعين في ترمسعيا الاحتلال يعتقل أربعة مواطنين من طوباس مستوطنون يهاجمون قاطفي الزيتون شرق نابلس قوات الاحتلال تعتقل أربعة مواطنين من سلفيت وتغلق مدخل المدينة الشمالي عاجلجميع الحقوق محفوظة لوكالة سوا الإخبارية @ 2025