الأخلاق والمصالح.. صراع في زمن الجشع
تاريخ النشر: 28th, October 2025 GMT
أحمد بن محمد العامري
ahmedalameri@live.com
منذ فجر التاريخ شكّلت الأخلاق حجر الأساس الذي يقوم عليه تماسك المجتمعات واستقرارها، فهي الضابط الذي ينظّم العلاقات بين الأفراد ويجعل الإنسان كائنًا راقيًا يترفّع عن الأنانية والظلم والطمع، غير أنّ عالم اليوم يشهد تراجعًا مقلقًا في مكانة الأخلاق أمام تصاعد موجة المصالح المادية التي تحركها الرغبة الجامحة في الربح والنفوذ.
ومع ازدهار الاقتصاد العالمي وتحوّل المال إلى معيار للنجاح والتفوّق، أصبحت المصالح الاقتصادية والسياسية تتقدّم على المبادئ الإنسانية حتى غدت الأخلاق ضحية هذا الصراع غير المتكافئ بين القيم والربح، وبين الضمير والجشع.
العلاقة بين الأخلاق والمصالح علاقة أزلية عرفها الإنسان منذ أن بدأ ينظّم حياته الاجتماعية ويوازن بين حاجاته المادية والتزاماته المعنوية، فالتاريخ الإنساني مليء بصراعات بين ما هو نافع ماديًا وما هو صائب أخلاقيًا، غير أنّ ميزان هذه العلاقة كان -في أزمنة سابقة- يميل غالبًا إلى جانب الأخلاق، حيث كانت المصلحة تُضبط بميزان الضمير وتُقوَّم بمعايير العدالة والإنصاف، أما في عصر العولمة والاقتصاد الحر فقد انقلبت الموازين في عالم تقوده الشركات العملاقة والمضاربات الاقتصادية والمنافسة الشرسة على الموارد والأسواق حتى أصبحت المصالح هي الموجِّه الأول لقرارات الدول والشركات والأفراد، ولو كان الثمن الإنسان والبيئة والمجتمع.
لقد تحوّل الجشع المالي إلى أحد أبرز مظاهر الانحلال في العصر الحديث؛ فالرغبة المفرطة في الكسب جعلت كثيرًا من المؤسسات والأفراد يتجاوزون الحدود الأخلاقية في سبيل تحقيق الأرباح، نرى شركات كبرى تدمّر البيئة دون اكتراث بمستقبل الأجيال القادمة وتستغلّ الشعوب الفقيرة في مصانعها بأجور زهيدة لتضاعف مكاسبها، وتُشعل بعض القوى الكبرى الحروب والنزاعات للسيطرة على مصادر الطاقة أو بيع الأسلحة، فتُزهق الأرواح وتُدمَّر المدن باسم "المصلحة القومية" أو “التوازن الاقتصادي”، وكأنّ الضمير الإنساني قد أُقصي من حسابات المصالح العالمية. فالجشع أم الكبائر ومنبت كل شر، فهو يفسد الضمير ويحوّل الإنسان من كائن راقٍ يسعى إلى الخير، إلى آلة لا ترى في الآخرين سوى وسيلة لمزيد من المكاسب.
لا يقتصر هذا التراجع الأخلاقي على المستوى السياسي أو الاقتصادي؛ بل يمتد إلى تفاصيل الحياة اليومية، فقد أصبح كثير من الناس يقيّمون علاقاتهم الاجتماعية بناءً على المنفعة، فالصداقة تقاس بما يقدّمه الآخر من فائدة، والعمل يُبنى على المصالح لا الكفاءة، وحتى في أبسط صور التعامل، تراجع الإخلاص والأمانة أمام نزعة تحقيق المكاسب الشخصية. ويبدو أنّ مفهوم “الغاية تبرر الوسيلة” أصبح شعارًا خفيًا يتبنّاه كثيرون دون وعي في ظل عالم تحكمه المادة وتُقاس فيه القيمة بقدر ما يمتلك الإنسان لا بما يمثّله من خلق أو ضمير.
ومن أبرز الشواهد الواقعية على هذا الانحراف أزمة المناخ العالمية التي تهدد كوكبنا، فالشركات الصناعية الكبرى -رغم علمها بخطورة الانبعاثات الغازية على البيئة- ترفض خفضها خشية أن تتأثر أرباحها، ويحدث الأمر ذاته في أسواق المال، حيث تتكرر الأزمات نتيجة مضاربات جشعة لا تراعي أي اعتبارات إنسانية، كما حدث في الأزمة المالية العالمية عام 2008 التي دمّرت اقتصادات وبيوتًا وأحلامًا، بينما خرج منها كبار المستثمرين بمكاسب هائلة، إنها صورة صارخة لعالم فقد توازنه بين المصلحة والأخلاق، فاختلّت القيم وضاعت الإنسانية بين الأرقام.
ورغم هذا المشهد القاتم، لا يزال هناك ما يدعو إلى الأمل، فثمة أصوات ومؤسسات وشخصيات تتمسك بالقيم في مواجهة تيار المادية الجارف، بدأت بعض الشركات تتبنّى مفهوم “المسؤولية الاجتماعية”، فترى في خدمة المجتمع والبيئة واجبًا لا خيارًا، وظهرت حركات شبابية تدعو إلى “الاستهلاك الأخلاقي”، تشجّع على شراء المنتجات التي تُنتَج بطرق عادلة وصديقة للبيئة، كما أنّ منظمات حقوق الإنسان ما زالت تكافح لتذكير العالم بأنّ المصلحة الحقيقية لا تكون إلا في احترام الكرامة الإنسانية وحماية العدالة، غير أن هذه الجهود رغم أهميتها، تظل محدودة التأثير ما لم تتحوّل الأخلاق إلى ركيزة أساسية في منظومة القيم العالمية.
إن استعادة مركزية الأخلاق في حياة الإنسان المعاصر تقتضي رؤية شاملة تبدأ من التربية والتعليم، فبناء الإنسان الأخلاقي لا يتحقق بالمواعظ وحدها، بل بالممارسة العملية منذ الطفولة من خلال غرس قيم الأمانة والنزاهة والرحمة في المناهج والسلوك اليومي. كما ينبغي أن يلعب الإعلام دوره في نشر الوعي الأخلاقي، فيُعلي من شأن القيم الإيجابية ويحدّ من ثقافة الاستهلاك والسطحية، ولا يقل دور الحكومات أهمية، إذ يجب أن تكون القيم الأخلاقية أساسًا في السياسات العامة، وأن تُسنّ التشريعات التي تضمن العدالة وتُحاسب كل من يعبث بحقوق الإنسان أو بالبيئة، كما أن دعم الاستثمار الأخلاقي وتشجيع المشاريع المستدامة يمكن أن يخلق توازنًا بين الربح والمصلحة العامة.
أما على مستوى الأفراد، فإنّ المسؤولية الأخلاقية تبدأ من الخيارات الصغيرة التي نصنعها يوميًا، فطريقة تعاملنا مع الآخرين واستهلاكنا للموارد ونظرتنا للمال والعمل، جميعها مواقف تحدد انتماءنا إلى جانب الأخلاق أو إلى منطق المصلحة البحتة، وإذا أدرك كل إنسان أن الالتزام الأخلاقي لا يتعارض مع النجاح وإنما يمنحه معنى وقيمة، فإن العالم سيستعيد بعضًا من توازنه المفقود.
لقد بات من الواضح أن العالم اليوم يعيش أزمة أخلاقية عميقة سببها تغليب المصالح على الأخلاق، وإذا استمر هذا الاتجاه، فلن يكون الخطر مقتصرًا على الأخلاق؛ بل سيمسّ وجود الإنسان ذاته؛ فالمال لا يستطيع أن يبني مجتمعات عادلة ولا أن يصنع سلامًا دائمًا، ولا يمنح الإنسان سعادة حقيقية، إن استعادة الأخلاق إلى موقعها الطبيعي في مقدمة الاهتمامات الإنسانية ليست ترفًا فكريًا؛ بل هي ضرورة للبقاء، فحين تعود الأخلاق لتقود المصالح، يصبح المال وسيلة لا غاية، وتستعيد الإنسانية معناها الأسمى، ويسترجع الإنسان جوهره النبيل الذي به يستحق أن يُدعى إنسانًا.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
رحيل الطفلة وئام بعد صراع مع المرض جراء خطأ طبي في تعز
توفيت، اليوم، الطفلة وئام ابنة الصحفي المعروف عبد الستار بجاش، في أحد مستشفيات مدينة تعز، عقب مضاعفات صحية ناجمة عن خطأ طبي تعرضت له خلال الأيام الماضية، ما أثار موجة حزن وتعاطف واسع في الأوساط الإعلامية.
وكتب الصحفي بجاش منشور على صفحته: "بقلوب مؤمنة بقضاء الله وقدره، أنعي أبنتي الغالية وئام التي انتقلت إلى رحمة الله تعالى الثلاثاء 28 أكتوبر".
وأُقيمت صلاة الجنازة في جامع السعيد بمدينة تعز بعد صلاة الظهر، بحضور عدد من الزملاء والأقارب وأصدقاء الأسرة، قبل أن يُوارى جثمان الطفلة الثرى في مقبرة السعيد، وسط أجواء من الحزن والصدمة.
>> الطفلة وئام.. مأساة جديدة للأخطاء الطبية والإهمال الصحي في تعز
وخلفت وفاة الطفلة وئام موجة تعاطف واسعة مع والدها الزميل عبد الستار بجاش، أحد الصحفيين اليمنيين المعروفين بمواقفهم المهنية والإنسانية، حيث عبّر العديد من الإعلاميين والناشطين عن حزنهم العميق وتضامنهم الكامل مع الأسرة في هذا المصاب الجلل.
من جانبها تتقدم إدارة تحرير موقع "نيوزيمن" بخالص التعازي وصادق المواساة إلى الزميل الصحفي عبد الستار بجاش وكافة أفراد أسرته الكريمة، سائلين الله العلي القدير أن يتغمد الفقيدة بواسع رحمته ويسكنها فسيح جناته، وأن يلهم ذويها الصبر والسلوان. "إنا لله وإنا إليه راجعون"