عانينا في الأسابيع الماضية من تدهور وضع أختي الصحي، وهي التي تعاني من مرض مزمن، كشَر عن أنيابه حتى موعد ميلادها الثاني والعشرين، وليست هذه مبالغة، إذ إن دخولها المستشفى صادف تاريخ يوم ميلادها. لم نكن نعرف أن ذلك الكائن يمتلك مخالب أيضاً، وأشياءً بتنا نتوقعها، إذ كيف وفي المرة السابقة فاتتنا تلك المخالب!
خلال هذه الفترة بعد تجاوز بعضنا مرحلة الإنكار قسراً، إذ لا نمتلك رفاهية التوقف، تبنينا فكرة واحدة: ليت الأمر يعود للوضع الطبيعي.
لم ينتج هذا عن حساسية خاصة أمتلكها أو تملكني، كانت السنتان الماضيتان تدريباً شاقاً ومطولاً لاختبار هذه الفرضية بل وإعادة النظر في كل شيء. قبل أسابيع فرحنا لتوقف الحرب، قال بعضنا بحرارة أستطيع الآن تنفس الصعداء، لا بأس بكل الخسارات، العائلة التي لم تُنتشل بعد سنة ونصف من تحت ركام المنازل وقد سويت على الأرض. لا مشكلة في عدد الأطفال المبتورة أقدامهم وأياديهم. نريد عودة ما قبل السابع من أكتوبر. إذا لم تتوقف الحرب نريد أن تعود الحرب إلى استراتيجياتها السابقة، بأن تكون بعض مدن غزة آمنة، يقول لي أصدقائي إنها المرة الأولى في الحروب الأخيرة التي يُقضى فيها على غزة كلها. سمعتُ هذا من غزيين يموتون قلقاً على عائلاتهم في خِيم متهالكة لسنة ونصف، الأطفال مع الكبار وهكذا. سمعته من شاب فقد أخته على المعبر قبل السابع من أكتوبر وهي في التاسعة عشرة من عمرها لعدم السماح لها بالسفر للعلاج وهي تعاني من السرطان.
لا يبدو أن هنالك مشروعاً فلسطينياً وطنيا أو عربياً يمكن أن يقود إلى مرحلة أخرى، هنالك مصير واحد هو تدريبنا على مزيد من الخسائر التي تخترعنا كحيوات مهزومة، ومهمومة بالتفكير في «أقل الخسائر»، في عيش الحياة يوماً بيوم، ليس هنالك قتالٌ من أجل أي شيء، وعلينا أن نُحس بطارئيتنا وأن نُفعلَ «survival mode أي رغبتنا في البقاء رغم كل ما يتهددنا. وهكذا فإنه وعلى الصعيد الوطني لا نعرف عما إذا كانت هذه ممارسة سياسية أو لا سياسية. فلنستدعي هنا تاريخ هاواي الاستعماري مثلاً منذ الغزو في القرن السابع عشر، والذي أسهم الغزو في موت جماعي لسكانها، فانخفض عددهم أكثر من ٩٠٪ ، من ٤٠٠ ألف إلى ٤٠ ألفاً، وكان من بين ما جاء به المستعمر الأوبئة التي قضت على سكان الجزيرة، لا ينسى الكاتب الهاوايي ديف وونج في كتابته عن تاريخ بلاده أن آخر ملوك هاواي، ديفيد كالاكوا، نصح شعبه بتحمل اعتداءات البيض بصبر، والتمسك، قدر الإمكان، بعاداتهم البسيطة». يكتب وونج دعا كالاكوا شعب هاواي لتفعيل «survival mode». وصولاً لهذه اللحظة التي يصف فيها وونج أن الانشغال بـ«التقدم» وبالمستقبل الفردي الذي حفزه النظام الاجتماعي الجديد، كان وسيلة رائعة للانفصال عن محيط السكان، وهكذا من المرجح أنهم عاشوا في المستقبل وافتقدوا الحاضر.
يبدو واقعنا الذي نعيشه اليوم مختلفاً عن التاريخ الاستعماري في كل مكان، إذ إن المستعمر اليوم لديه وكالات لفرض نفوذه وسيطرته، ثم أن أصحاب رؤوس الأموال يمتلكوننا بشركاتهم العابرة للقارات، قد نجوع في اللحظة التالية جماعياً متى ما صدرت منهم إيماءة بذلك. لماذا نستخدم الاستعارات هنا؟ قد يُقتل منا ٦٠ ألفاً ممنُ عُرفت أسماؤهم فقط على الهواء مباشرةً. ولذلك كله كيف يمكن أن نفهم معنى للوطن، أو الهم المشترك، كيف يمكن أن ندافع عن حق جماعي، بينما يتطلب علينا أن نُخضع رؤوسنا، وأن نمشي على أصابع أقدامنا كي لا نُصدر صوتاً، كي لا نخسر حصة من أجورنا المنخفضة أصلا، أو لا نخسرها كلها، أو لكي لا نخسر فرصة أن تزيد قليلاً، ربما ١٪. إذ كيف يُمكن أن نُطرد من الفردوس، ذلك الذي يُحقق لنا تفوقاً على آخرين إذا كنا نعي أنانيتنا بوضوح، أما إذا لم نفعل فكل ما يريده الواحد منا، أن يتناول وجبة مشبعة آخر اليوم بينما ينام على نفسه من التعب أمام التلفزيون بمنصة بث على الشبكة يَدفعُ لقاء مشاهدة أفلام رخيصة عليها جزءاً مما تحصل عليه وقت امتثاله/ استعباده.
ربما يكون ما بدأت به هذه المقالة بعيداً، لكنه ليس كذلك، اخترقَ هذا النوع من التسليم والهزيمة حياتنا، ربما لم نعد نتصور/نتخيل عالماً آخر ولا طريقة أخرى للعيش. لم يكن سكان هاواي يعرفون ما الذي تعنيه «ملكية الأرض» في ثقافتهم كانت الأرض مثل الهواء والماء، ربما عليّ أن أوكد أن فكرة تشارك الأرض لم تكن قراراً سياسياً، كانت هذه هي الطريقة التي خبر بها هؤلاء الناس وطنهم وعالمهم، كيف وصل الأمر بكثيرين فيها، إما يركبون الأمواج في وقت الفراغ الضئيل، أو ينتظرون أناساً من أقصى العالم يقضون وقت فراغهم في تسلق الأمواج لقاء ثمن بخس.
من قال إن لأختي علاجاً، أن على المؤسسة الصحية التي لجأنا إليها، أن تُخبرنا كيف انتكست حالتها وتطورت بعد يومين فقط من مغادرتها المستشفى، وتناول دواء جديد وصفوه لها، كيف نُنتزع حقنا في الفهم أولاً وفي محاسبة المسؤول، ربما علينا أن نصلي طيلة الوقت، أن ننكسر ونقول: يا الله نريد الوضع طبيعياً، بالنوبات الكاملة القابلة لأن تكسر فيها ضلعاً آخر، أو تنزف بعض الدم، الوضع الذي كان قبل هذه الأيام. هناك سنعيش راحتنا، سننجو إذ لن نموت سريعاً.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
أمل سلامة: المرأة المصرية كانت وستظل رمزًا للصمود والعطاء
شاركت النائبة أمل سلامة، عضو مجلس النواب ورئيس مجلس إدارة مؤسسة "عظيمات مصر"، في الاحتفالية التي نظمتها الجمعية المصرية للصداقة بين الشعوب بالتعاون مع المنظمة العالمية لحقوق الإنسان بواشنطن، وأكاديمية شيفيلد الدولية للاستشارات، وكلية لندن للعلوم المتخصصة ببريطانيا، تحت عنوان "السلام وحقوق الإنسان ثمر نصر أكتوبر والاجتماع الدولي للذكرى الـ٥٢ لانتصارات أكتوبر"، والتي أقيمت بأحد فنادق الدقي.
وخلال كلمتها، أكدت النائبة أمل سلامة أن نصر أكتوبر سيظل ملهمًا للأجيال، لأنه لم يكن مجرد انتصار عسكري، بل كان انتصارًا لإرادة المصريين في استعادة الكرامة الوطنية، وتحقيق السلام القائم على القوة والاحترام المتبادل.
وقالت سلامة إن الدولة المصرية، بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي، تسير على خطى نصر أكتوبر في بناء الجمهورية الجديدة، من خلال دعم الأمن والاستقرار، وتعزيز مكانة مصر الإقليمية والدولية.
وتحدثت النائبة عن دور المرأة المصرية خلال الحروب والأزمات، مؤكدة أنها كانت دائمًا شريكًا في النصر والبناء، وقدمت تضحيات عظيمة سواء في ميادين القتال أو خلف خطوط الجبهة، واليوم تواصل دورها في دعم التنمية وصون الهوية الوطنية.
واختتمت سلامة كلمتها بالتأكيد على أن السلام وحقوق الإنسان وجهان لعملة واحدة، وأن مصر تظل نموذجًا يحتذى به في تحقيق التوازن بين التنمية والحفاظ على الكرامة الإنسانية.