مظلّة الصمت و«الظلام الإعلامي» في دارفور
تاريخ النشر: 28th, October 2025 GMT
منذ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات «الدعم السريع» في أبريل 2023، شهدت ساحات القتال والمدن والقرى أشكالًا غير إنسانية من العنف. قد يبدو هذا طبيعيًا في ظل صراع مسلح على السلطة بين حكومة تصفها جهات بأنها شرعية، بينما يرى آخرون أنها جاءت نتيجة انقلاب عسكري مدعوم شعبيا، وبين جماعة متمردة مدعومة من أطراف خارجية.
واقع الأمر إنّ «فرض الظلام الإعلامي» على ما يحدث في إقليم دارفور في شمال غرب السودان وفي مدينة الفاشر التي سقطت في أيدي المتمردين، لا يمكن اعتباره خطأً فنيًا أو عفويًا، ولكنه حسب توصيف منظمة «هيومان رايتس واتش» استراتيجية منهجية تتيح للقائمين على حملات الإبادة الجماعية الفرصة لإنجاز عملها غير الإنساني في صمت، بعيدًا عن أنظار العالم، وتُسهِم بالتالي في نجاح عمليات التهجير القسري والتطهير العرقي والمجازر التي وثّقتها منظمات حقوق الإنسان.
إن فهم ما يجرى في السودان يحتم علينا أن ندرك أن الحروب لا تدار الآن فقط بالأسلحة والذخائر والجنود، ولكن أيضا بالسيطرة على تدفق المعلومات. وقد أثبتت الحرب الإسرائيلية على غزة صحة هذا الاستخلاص. من يملك القدرة على قطع شبكة الإنترنت، وتعطيل البث، ومنع وصول الصحفيين إلى مناطق الأحداث واعتقالهم واستهدافهم بالقتل وإغلاق وسائل الإعلام، يملك إمكانات كبيرة ليس فقط على تزييف الحقائق، بل وعلى تغييبها ومنعها من الوصول إلى العالم. وتؤكد تقارير منظمات عالمية مثل منظمة بيت الحرية «فريدوم هاوس» أن السودان شهد انقطاعات متعمدة لشبكات الاتصال وتدمير واسع للبنية التحتية الرقمية، بهدف منع توثيق الانتهاكات وجرائم الحرب، وعرقلة وصول المساعدات الغذائية والطبية؛ وبذلك أصبح الصمت الرقمي سلاحا فعّالاً بيد من يريد إخفاء آثار جرائمه.
وتزداد خطورة «الظلام الإعلامي» الذي يفرضه طرف من أطراف الصراع خلال الحرب، إذا تم دمجه، كما في حالة السودان، مع التنسيق الاستخباراتي الذي يتم بين الجماعة المسلحة وبين جماعات مسلحة محلية عميلة، وهو ما حدث في حرب غزة ويحدث حاليا في الحرب في السودان. وهنا تشير تقارير حقوقية موثوقة إلى أن هجمات واسعة في غرب دارفور، خصوصا حول مدينة «الجنينة» وضواحيها، لم تكن نتيجة هجمات عشوائية قامت بها «قوات الدعم السريع» وجاءت ضمن عمليات منهجية استهدفت مجتمعات بعينها، وأدّت إلى فظائع إنسانية ترقى إلى حد التطهير العرقي. عندما يُضاف إلى ذلك انعدام التغطية الصحفية الميدانية، وغياب الشهود الناتج عن
الخوف من العقاب، وقطع الاتصالات، تصبح إمكانية رصد هذه الجرائم ومن ثم تدخل المنظمات الأممية والإقليمية، ومخاطبة الضمير الإنساني الدولي شبه مستحيلة.
في تقديري وبصرف النظر عن طرفي الحرب، فإن مسؤولية الظلام الإعلامي التام المفروض على ما يجرى في «دارفور» تقع في المقام الأول على عاتق وسائل الإعلام الإقليمية والدولية، ومن بعدها الحكومات الإقليمية التي لها مصالح استراتيجية واقتصادية في السودان وفي إقليم دارفور تحديدا والتي تزيد الحرب اشتعالا وتمارس نفوذها عبر دعم طرف من أطرافها.
وقد أدى تضارب رسائل وسائل الإعلام حول ما يجرى في السودان، والتحيّزات الإعلامية الواضحة إلى فصل تغطية الحرب عن سياقها الأوسع وتحولها إلى صراع إعلامي بين من يدعمون الحكومة الشرعية وبين من يدعمون «قوات الدعم السريع»، ولا يقتصر هذا الدعم على الدعم السياسي والمالي ويتجاوزه إلى الدعم العسكري المباشر، بالإضافة إلى الدعم الأهم المتمثل في تقويض الجهود الإعلامية لتوثيق جرائم الحرب. وفي ظل ذلك تتحول وسائل الإعلام الإقليمية والدولية إلى ساحة للعبة المصالح، وتأجيج الصراع، بدلا من أن تكون أدوات للسلام والتقارب.
وحتى لا يبدو الأمر مبالغًا فيه، نقول إن فرض الظلام الإعلامي على حرب الإبادة الجماعية التي تجرى في «دارفور» لا يمكن نسبته إلى طرف واحد، ويجب مناقشته باعتباره نتيجة لعوامل كثيرة متداخلة مثل تدمير البنية الاتصالية التحتية بفعل القصف المتواصل والمتبادل بين الطرفين، ومساحة الأمان الضئيلة التي يعمل فيها الصحفيون في الإقليم، وآليات الرقابة المباشرة أو غير المباشرة المفروضة على وسائل الإعلام المحلية والإقليمية، والضغوط الاقتصادية التي تدفع وسائل إعلام وطنية وإقليمية لتجنّب تقديم تغطية عادلة للحرب خشية العقاب. في النهاية فإن المنتج من المحتوى الإعلامي عن الحرب واحد، ويتمثل، كما تقول «فريدوم هاوس» في معلومات ناقصة ومضللة، وشهود غائبين، وإحباط عالمي أمام طلبات المساعدة التي تتأخر أو لا تصل.
السؤال الذي يفرض نفسه: كيف نكسر جدار هذا الصمت، وكيف نقاوم هذا الظلام الإعلامي؟ في اعتقادي لا سبيل أمام الإعلام الإقليمي العربي لتحقيق ذلك سوى بالإصرار على التواجد في مناطق الأحداث وتقديم الدعم لعمل الصحافة الاستقصائية والتحقيقات الميدانية من مؤسسات دولية ومحلية تؤمن بدور الصحافة في وقف الحروب وتحقيق السلام. من المهم في هذه المرحلة الفاصلة من الحرب أن نكثف الجهود عبر المنظمات الدولية لاستعادة شبكات الاتصال المدمرة، ودعم شبكات الاتصالات الطارئة في «دارفور»؛ فبدونها يصبح من المستحيل تسهيل عمليات الإغاثة لمئات الآلاف من المدنيين المحاصرين بين شقي الرحى.
علينا أن ندعو المنظمات الحقوقية والأممية لممارسة ضغوطها لفتح ممرات إعلامية آمنة تتيح للصحفيين الوصول إلى «دارفور» والعمل فيها وتوثيق ما يجرى على الأرض «قبل أن تختفي الشواهد وسط الرمال، حسب بيان الأمم المتحدة.
إن كل دقيقة يستمر فيها «الظلام الإعلامي» في دارفور تمنح الفرصة لمجرمي الحرب لإخفاء الأدلة، وقتل المزيد من الأبرياء وتهجير المزيد من الأسر، وزيادة المعاناة الإنسانية.
إنّ نقل وحماية الحقيقة عبر شبكات الاتصال، والصحافة الحرة، وحملات الضغط الدولية يجب أن يكون جزءًا من استراتيجية إنسانية وسياسية لمنع حدوث جرائم أفظع مما نشاهده حاليا في «دارفور».
إننا، كمواطنين وصحفيين، لا نملك رفاهية الصمت والسكوت عن أي «ظلام إعلامي» متعمد لحجب الحقائق. واجبنا يبدأ بتسليط الضوء على المناطق المظلمة إعلاميًا خاصة إذا كانت على خريطتنا العربية التي تعاني مناطق منها من الحروب بالوكالة، ودعم من يكشفون الحقيقة على الأرض، وتحقيق العدالة لكلّ من ضاع صوته نتيجة هذا الظلام.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: وسائل الإعلام فی السودان ما یجرى
إقرأ أيضاً:
السودان.. قوات الدعم السريع تعلن سيطرتها على مدينة الفاشر
أعلنت قوات الدعم السريع، الأحد، سيطرتها على مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور غربي السودان، بعد أكثر من عام من الحصار والقتال العنيف مع الجيش.
ولم يصدر بعد أي تأكيد رسمي عن الجيش بشأن التطورات في إقليم دارفور.
وأعلنت قوات الدعم السريع في بيان "بسط سيطرتها على مدينة الفاشر"، وذلك بعد "معارك بطولية تخللتها عمليات نوعية وحصار أنهكت العدو ومزقت خطوط دفاعه وأوصلته إلى الانهيار التام".
وجاء البيان بعد ساعات من إعلان الدعم السريع السيطرة على المقر الرئيسي للجيش في المدينة.
وأظهرت مقاطع مصورة نشرتها قوات الدعم السريع مقاتليها يحتفلون إلى جانب لافتة كتب عليها "مقر الفرقة السادسة"، بينما أظهرت مقاطع أخرى مركبات للجيش تغادر المقر.
كما أظهرت مقاطع أخرى احتفالات يتوسطها مقاتلو الدعم السريع في نيالا، عاصمة جنوب دارفور التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع.
وفي حال سيطرة الدعم السريع على الفاشر بشكل كامل، سيعني ذلك سيطرتها على جميع ولايات إقليم دارفور الخمس، وتقسيم البلاد بين شرق يسيطر عليه الجيش وغرب تحت سيطرة الدعم السريع.
ويتمدد إقليم دارفور في أكثر من ربع مساحة البلاد، إذ تبلغ مساحته الإجمالية 493 ألف كيلومتر مربع، وتقدر نسبة سكان الإقليم بنحو 17 بالمئة من إجمالي تعداد سكان السودان البالغ نحو 48 مليون نسمة.
وتكمن أهمية إقليم دارفور في أنه يشكل العمق الاستراتيجي الداخلي والخارجي للسودان، إذ يرتبط الإقليم بحدود مباشرة مع 4 دول، هي ليبيا من الشمال الغربي، وتشاد من الغرب وإفريقيا الوسطى من الجهة الجنوبية الغربية، إضافة إلى دولة جنوب السودان.
والأسبوع الماضي استضافت واشنطن اجتماعا للمجموعة الرباعية بشأن السودان، التي تضم مصر والسعودية والإمارات إلى جانب الولايات المتحدة، من أجل الدفع في اتجاه السلام وهدنة إنسانية، وفق بيان أميركي.
ولم تسفر المفاوضات حتى الآن عن التوصل الى اتفاق بين الجانبين المتحاربين، رغم المطالبات الأممية والدولية بهدنة إنسانية لا سيما في الفاشر التي تعاني من المجاعة وتفشي الأوبئة.