البيان الغائب عن الحاضر.. كيف نعيد روح نوفمبر إلى الدولة الجزائرية؟
تاريخ النشر: 1st, November 2025 GMT
في الذكرى الواحدة والستين لاندلاع ثورة أول نوفمبر المجيدة، يعود الدكتور عبد الرزاق مقّري، الرئيس السابق لحركة مجتمع السلم، إلى جذور الفكرة التي صنعت استقلال الجزائر، في نص فكري جديد بعنوان "الرؤية النوفمبرية".
ينشر المقال بالتزامن في "عربي21" مع تصاعد النقاش في الجزائر والعالم العربي حول معنى التحرر الوطني والسيادة الشعبية، ووسط موجة تضامن عالمية مع غزة التي تواجه حرب إبادة مستمرة، تعيد إلى الأذهان روح الثورات التحررية الكبرى.
يستحضر مقّري في نصّه بيان أول نوفمبر بوصفه مشروعاً حضارياً ودستوراً أخلاقياً للدولة الجزائرية، لا مجرد وثيقة تاريخية، داعياً إلى إحياء مبادئه السياسية والاجتماعية والديمقراطية في زمن تتقاطع فيه الذاكرة الوطنية مع قضايا العدالة والحرية في العالم العربي.
الرؤية النوفمبرية
لا أعرف ثورة في تاريخ البشرية قامت على أساس رؤية واضحة خالدة منسجمة مع طبيعة شعبها كالثورة التحريرية النوفمبرية. لقد حرص مفجرو الثورة الجزائريةالمباركة أن يكونوا واضحين في مقاصدهم الثورية، عبر بيان علني خطوه بالتوافق بينهم هو “بيان أول نوفمبر” بالمداد ابتداء، قبل أن يُرسم في أعماق المجتمع بعد ذلك بالدماء إلى الأبد.
خاطب أبطال الرصاصة الأولى في البيان شعبهم قائلين: “إن غرضنا من نشر هذا الإعلان أن نوضح لكم الأسباب العميقة التي دفعتنا للعمل، بأن نوضح لكم مشروعنا والهدف من عملنا، ومقومات وجهة نظرنا الأساسية”. فلم تكن الثورة مجرد رد فعل على ظلم الاستعمار ، وفورة غضب ضد القهر والعدوان فقط، ليدخل الجزائريون تحت مشروع المستعمر بعد أن يُهزم ويخمد بركان الغضب، كما حدث للعديد من الشعوب التي اتّبعت الاستعمار حضاريا وثقافيا واقتصاديا بعد خروجه من أرضهم.
إن أهداف بيان أول تمثل حالة إعجاز بأتم معنى الكلمة استطاعت أن تجمع كل القوى السياسة والفكرية بمختلف مشاربها، وفي ذلك توفيق كبير من الله تعالى منحه الله تعالى لأولئك الأبطال الصادقين المتجردين.لقد كان رد الفعل النوفمبري، وكانت فورة غضب الثوار ضد الاستعمار حقيقية وشرعية ولكن تحمل في انطلاقها رؤية حضارية كاملة، هي رؤية بيان أول نوفمبر.
كما أن الثورة لم تكن برقا ورعودا في سماء خالية من السحب، لقد أظهرت ديباجة البيان بأن مراحل كفاح الحركة الوطنية قد “أدركت مرحلة التحقيق”، وأن الشعب “بات متحدا حول قضية الاستقلال والعمل” و”أنه قد حان الوقت لإخراج الحركة الوطنية من المأزق (!) الذي أوقعها فيه صراع الأشخاص والتأثيرات لدفعها إلى الحركة الثورية الحقيقية” على شاكلة ما وقع في دول أخرى سبقت الجزائر في رغبة التحرر وذكر البيان “تونس والمغرب”، كما حذر البيان ممن سيتهمون نوايا الثوار قائلا: “أن نجنبكم الالتباس الذي يمكن أن توقعكم فيه الإمبريالية وعملاؤها الإيداريون وبعض محترفي السياسة الانتهازية” (!)
إن أهداف بيان أول تمثل حالة إعجاز بأتم معنى الكلمة استطاعت أن تجمع كل القوى السياسة والفكرية بمختلف مشاربها، وفي ذلك توفيق كبير من الله تعالى منحه الله تعالى لأولئك الأبطال الصادقين المتجردين.
ولو نتأمل في تلك الأهداف سنجد بأنها تمثل حقيقة رؤية خالدة لكل الجزائريين لا يعاديها إلى غاية اليوم وغدا سوى من كان عميلا للاستعمار وفي قلبه مرض.
فالبيان ينص على أن الهدف العام للثورة هو “الاستقلال الوطني” ثم لم يترك كلمة الاستقلال الوطني فضفاضة تتحقق فقط بخروج الاحتلال وبرفع العلم الوطني على البنايات الرسمية، بل رسم معالم الدولة التي لا يتجسد مفهوم وحقيقة الاستقلال إلا بها، ومن ذلك:
ـ إقامة الدولة الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية ذات السيادة ضمن إطار المبادئ الإسلامية
ـ احترام جميع الحريات الأساسية دون تمييز عرقي أو ديني.
ثم فصّل الأهداف الداخلية والخارجية، مؤكدا في الأهداف الداخلية على ضرورة إبعاد معيقات الفعل الثوري من خلال: “التطهير السياسي بإعادة الحركة الوطنية إلى نهجها الحقيقي والقضاء على جميع مخلفات الفساد وروح الإصلاح التي كانت عاملا هاما في تخلفنا الحالي”، وفي الأهداف الخارجية على أن الدولة التي يبذل الثوار من أجلها دماءهم تعمل على “تحقيق وحدة شمال إفريقيا ضمن إطارها الطبيعي العربي الإسلامي”.
لقد حسم بيان أول نوفمبر في طبيعة الكفاح السياسي الذي يجب أن يستمر بعد الاستقلال والتوجهات الفكرية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية الأصيلة التي تشكل معالم الدولة والمجتمع وذلك على النحو التالي:
العمل على أن تكون الدولة الجزائرية دولة ديمقراطية بالمعايير الديمقراطية الحقيقية، فتكون السيادة للشعب عبر الانتخابات الحرة والنزيهة والتداول الفعلي على السلطة، دون تدخل من أي جهة كانت لإفساد العملية السياسية بالغش والتزوير، واحتكار السلطة بالقوة والقهر والتحكم في وسائل الإعلام والتأثير ، وباستعمال الإدارة ومختلف مؤسسات ووسائل الدولة، و تجنيد “محترفي السياسية الانتهازية”، أو الاستعانة بالأجنبي، أو استعمال العنف للوصول إلى السلطة أو البقاء فيها، وأن كل من يعيق المسار الديمقراطي هو خائن حقا لبيان أول نوفمبر ودماء الشهداء.
العمل والكفاح من أجل أن تكون الدولة “دولة اجتماعية”، والدولة الاجتماعية هي التي توفر بشكل دائم ومستقر شبكة أمان اجتماعي في الاحتياجات الأساسية وعلى رأسها “العمل والصحة والتعليم والسكن”، ولا يتحقق ذلك إلا بضمان المنافسة الاقتصادية الحرة وخلق الثروة بالعمل وفرص الرفاه الاقتصادي للجميع، بالعمل وليس بالريع، وإنهاء احتكار وسائل الإنتاج سواء من قبل الدولة أو من قبل اللوبيات الاقتصادية القوية والمجموعات المالية النافذة، الداخلية والخارجية، وتجسيد المعنى الفعلي للعدالة والتوزيع العادل للثروة، بخلق البيئة المناسبة لولادة وحياة المؤسسات الاقتصادية، ومؤسسات التضامن والتكافل الاجتماعي التي أبدعها الإسلام والحضارة الإسلامية، وجعل دعم الفئات الهشة حقا دستوريا ثابتا ودائما ليس على الدولة وحدها بل على المجتمع كذلك، وبأن يكون الهدف هو إخراج الناس من الفقر وليس إدامة فقرهم واحتياجهم ليتحولوا إلى بضاعة للسياسيات الشعبية المدمرة.
وأي منع للحريات في دولة الاستقلال، كل الحريات، أو تمييز في دولة الاستقلال بين الجزائريين هو نقض لبيان أول نوفمبر ، وغدر للشهداء والمجاهدين.السعي الدائم والتضحية المستمرة لضمان سيادة دولة الاستقلال، وأن تكون السيادة غير قابلة للتنازل والمتاجرة والبيع للقوى المحلية النافذة، أو القوى الدولية المهيمنة، سواء السيادة على أي شبر من الإقليم، أرضا وبحرا وجوا، أو على القرار، أو على الثروات الظاهرة والباطنة، الحالية والمستقبلية.و أي تفريط على السيادة تحت أي ظرف هو تفريط في الاستقلال الوطني وخيانة لعهد الشهداء، وهو جريمة لا تسقط أبدا بالتقادم.
الكفاح المستمر ودون هوادة لتبقى الدولة أبد الآبدين ضمن إطار المبادئ الإسلامية فلا يحدث فيها تشريع ولا قرار ولا اتفاق يخالف مبادئ الإسلام في كل أبعادها السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والدولية، وأن تسعى دولة الاستقلال لإظهار مبادئ الإسلام وتنفيذها وتجسيدها وترقيتها والدفاع عنها، وأي سلوك في الدولة يفرط فيها بله محاربتها هو سلوك معادي للاستقلال الوطني الذي يحمل عنوان هذا الهدف في بيان أول نوفمبر.
الكفاح من أجل الحريات الأساسية كلها لكل الجزائريين دون تمييز. وحين يقول البيان “جميع الحريات” معنى ذلك حرية التعبير والرأي، حرية التنظيم، حرية تأسيس الجمعيات والمنظمات، حرية تأسيس الأحزاب، حرية الإعلام، حرية التنقل، حرية التقاضي النزيه، المنافسة الحرة والعادلة في التجارة، حرية الانتساب لأي مؤسسة من مؤسسات الدولة، حرية الترقية في العمل.
وكل ذلك دون تحايل ودون ولا تخاتل ولا تدليس، ودون تمييز على أساس العرق والانتماء الجغرافي والعشائري، أو على أساس الدين، ولا حرج في ذلك لمن يتحسس من هذا الحق، فالأغلبية الساحقة من الحزائريين مسلمون، والحرية هي التي تحمي الإسلام وأهله وليس العكس. وبناء على ذلك أن لا يكون التمييز على أساس فكري أو سياسي أو حزبي ما التزم الجميع بالقوانين وروح هذا البيان. وأي منع للحريات في دولة الاستقلال، كل الحريات، أو تمييز في دولة الاستقلال بين الجزائريين هو نقض لبيان أول نوفمبر ، وغدر للشهداء والمجاهدين.
السعي دوما على المحافظة على المقاصد الإصلاحية الأولى والروح الثورية الأصيلة التي أوجدت الشخصية الجزائرية المعتزة بهويتها وبلدها، المستعدة للثورة بما يحفظ البلد حاضرا ومستقبلا من تمييع استقلاله بالفعل الفكري والسياسي والاجتماعي الذي يكتفي بترقيع أثواب الفساد بكل أنواعه، دون العزيمة على تغييره واستئصاله.
العمل الدؤوب لتحقيق وحدة شمال أفريقيا، وبداية ذلك وحدة المغرب العربي، فذلك الذي كان يُقصد أولا في فكر الحركة الوطنية وصياغة البيان، وأن يكون إطار الوحدة الذي نعمل له هو الإطار الذي يجعلنا منسجمين مع مقاصد الأبطال الذين صاغوا الإعلان، ألا وهو هو "الإطار الطبيعي العربي الإسلامي".
وفي عبارة "الإطار الطبيعي" إعجاز آخر "يدل ـ في فكر تلك الفئة المفكّرة العاقلة الراشدة ـ أنه لا مجال للتفكير في شيء آخر غير "الإطار الطبيعي العربي الإسلامي"، وأن ابتداع أي توجه آخر لهوية الجزائر وانتمائها الحضاري هو تكلّف لا علاقة له بالحركة الوطنية والثورة التحريرية وبعمق الشعب الجزائري. ولتجنب "أي الالتباس يمكن أن توقِعه "القوى الاستعمارية والإمبريالية وعملاؤها الإيداريون والمثقفون والإعلاميون وبعض محترفي السياسة الانتهازية" نذكّر بأن الذين أمضوا على هذه العبارة منهم محمد بوضياف العربي، ومصطفى بن بولعيد الشاوي، وكريم بلقاسم القبايلي ، ثم غيرهم من مختلف الأعراق والجهات في مجموعة الاثنين والعشرين ثم الشعب الجزائري كله الذي التفّ حول البيان وثورته المجيدة.
إن العباقرة الأبطال الذين فجروا الثورة لم يقرروا ذلك كعزيمة ثورية اتفق عليها عدد قليل من المقاتلين، أصحاب أيديولوجية واحدة مشتركة بينهم، فرضوها على الشعب الجزائري، بل كانوا ثلة من الرجال الأشاوس الصادقين صاغوا بيانا جامعا لكل تيارات الحركة الوطنية ثم عرضوه على كل الجزائريين ليزكوه، وليسندوهم على أساسه، قائلين لكل جزائري في ختام البيان: "أيها الجزائري، إننا ندعوك لتبارك هذه الوثيقة..” وعاهدوا الشعب أنهم في المقابل لا يطمحون لشيء لأنفسهم غير تقديم التضحيات بالقول: ” أما نحن العازمون على مواصلة الكفاح .. فإننا نقدم للوطن أنفس ما نملك".. أي أرواحهم، فلم يخيبهم الشعب الجزائري ولم يخيبوه، وكان البيان بحق حالة إجماع جزائرية لم يعرفها الشعب قبل الثورة ولم يبق عليها بعد الثورة … وعليه، فبيان أول نوفمبر هو الوثيقة التي يجب أن نكافح من أجل تجسيد بنودها، نصا وروحا، إن أردنا أن نحفظ وحدتنا إلى الأبد ونحقق تطورنا ونهضتنا.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب الذاكرة السياسية تقارير ثورة الجزائر بيان الجزائر ثورة رأي بيان أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی دولة الاستقلال أول نوفمبر الحرکة الوطنیة الشعب الجزائری الله تعالى على أساس
إقرأ أيضاً:
المجلس الرئاسي يناقش دمج الأجهزة الأمنية والاستخبارية في إطار جهاز أمن الدولة ويكشف عن القوة التي أحبطت تهريب الأسلحة والمخدرات للحوثيين في البحر
كشف مجلس القيادة الرئاسي، اليوم الخميس، عن القوة التي نجحت في إحباط محاولات تهريب شحنات ضخمة من الأسلحة والمخدرات كانت في طريقها إلى مليشيا الحوثي الإرهابية، مؤكداً أن قوات الواجب المختلطة بقيادة القوات البحرية الملكية السعودية هي من نفذت هذه العمليات النوعية ضمن جهود دولية لحماية أمن البحر الأحمر وخطوط الملاحة العالمية.
جاء ذلك خلال اجتماع عقده المجلس برئاسة فخامة الرئيس الدكتور رشاد محمد العليمي، وبحضور أعضائه سلطان العرادة، عبدالرحمن المحرمي، الدكتور عبدالله العليمي، وفرج البحسني، وعبر الاتصال المرئي طارق صالح، وعثمان مجلي، فيما غاب بعذر عضو المجلس عيدروس الزبيدي. وشارك في الاجتماع رئيس مجلس الوزراء سالم صالح بن بريك، حيث خُصص لمناقشة المستجدات الأمنية، وأوضاع الأجهزة الاستخبارية المعنية بمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة.
وأشاد المجلس بالإنجازات النوعية التي تحققها القوات المسلحة والأمن، وكافة التشكيلات العسكرية في ملاحقة الخلايا الإجرامية المتخادمة مع المليشيات الحوثية المدعومة من النظام الإيراني، مؤكداً التزام الدولة الراسخ بمكافحة الإرهاب بجميع أشكاله، وتعزيز التعاون مع الشركاء الإقليميين والدوليين لبناء قدرات الأجهزة الأمنية.
ورحب المجلس بالنجاحات المحققة ضمن قوات الواجب المختلطة، مشيراً إلى أن العمليات الدولية الأخيرة أسفرت عن إحباط تهريب شحنات ضخمة من المخدرات والأسلحة، في إطار جهود ردع الأنشطة التخريبية المرتبطة بالشبكات الإيرانية ووكلائها في المنطقة.
واعتبر المجلس أن أمن البحر الأحمر يمثل ركيزة أساسية للاستقرار الإقليمي والدولي، وأن ممارسات المليشيات الحوثية من تهريب السلاح والمخدرات واستهداف السفن التجارية تشكل تهديداً مباشراً للسلم البحري والمصالح الاقتصادية لشعوب المنطقة والعالم، ما يستوجب تنسيقاً وطنياً ودولياً أوثق على كافة المستويات.
كما اطلع المجلس على تقرير لجنة دمج الأجهزة الأمنية والاستخبارية في إطار الجهاز المركزي لأمن الدولة، مؤكداً دعمه للخطط التنفيذية الرامية إلى استكمال عمليات الدمج، وتوحيد جهود جمع المعلومات وتحليلها، بما يضمن بناء جهاز وطني محترف وفاعل.
وشدد مجلس القيادة على أهمية تبني خطاب وطني جامع يخلد تضحيات أبطال القوات المسلحة والأمن، ويعزز وحدة الصف الوطني، ويحشد كل القوى في مواجهة مشاريع الإرهاب والدمار، ويدعم جهود التنمية والإصلاحات الجارية لتحقيق تطلعات الشعب اليمني في الأمن والاستقرار والسلام.